حين يتحدث
المخرج السينمائي تاركوفسكي عن الشعر، فإنه لا يكتفي بالنظر إليه كنوع أدبي
وحسب. لأن الشعر بالنسبة له هو حالة من حالات الوعي بالعالم. إنه طريقة خاصة للاتصال بالواقع. أو هكذا يصبح الشعر فلسفة ترشد
الانسان طوال حياته. ومن هذا المنطلق الجمالي بالتحديد أكد على أهمية تضمين العمل السينمائي بالروح الشعرية، فقد أضفى على أفلامه لمسة شاعرية،
إيماناً بسطوة الشعر على كل مظاهر الوجود، للتأكيد على وجوده كركيزة في كل
الفنون، فنمط الحياة شعري أصلاً، بتصوره، أكثر مما هو ممثل أو مصور. وعليه
فقد ارتأى أنه ليس من المصادفة أن تتبدى ذكريات الناس الأثيرة بالنسبة لهم
ملونة بالشعر، ولم يكن من المستغرب أن يضمّن أحد أفلامه بقصيدة مقروءة بصوت
والده.
وبرأيه،
لكل فن معناه الشعري الخاص، والسينما ليست استثناء. إن لها دوراً خاصاً، أو
قدراً خاصاً، بل أن هناك بعض المظاهر من الحياة الانسانية، حسب اعتقاده، لا يمكن تمثلها بأمانة إلا من خلال الشعر، وبموجب هذا
الاعتقاد الشعري قلل من حساسية وكفاءة المخرجين الذين غالبا ما يلجأون إلى استخدام وسائل تحايل تقليدية خرقاء عوضا
عن المنطق الشعري،
إيماناً منه بأن الاستنباط الشعري هو أقرب إلى القوانين التي بواسطتها
يتطور الفكر وبالتالي فهو أقرب الى الحياة نفسها من منطق الدراما
التقليدية، كما يعبر عن ذلك الهاجس بشكل متكرر ومكثف في
كتابه »النحت في الزمن« الذي نقله إلى العربية أمين صالح.
هكذا
يصعّد اعتقاداته الجمالية اقتراباً من السينما بمجس شعري، وعليه تتكثف
تنظيراته واشتغالاته فيما يعرف بالسينما الشعرية، التي تؤكد على ضرورة تعطيل الاتصال ليس مع الواقعة وحسب، بل مع واقعية الزمن أيضاً،
لتوليد جملة من الرموز والمجازات، بالإضافة إلى مظاهر أخرى لا علاقة لها
باللغة الطبيعية الملائمة للسينما، الأمر الذي لا يخلو من خطر كامن يهدد السينما بالابتعاد عن نفسها، إذا ما
انساقت وراء أي تصور تعبيري متطرف، فهذا التعبير الاصطلاحي - السينما
الشعرية - لا يرمي من منظوره إلى الانقلاب على السينما، بقدر ما يعني
التأكيد على سينما تبتعد بجسارة في صورها عما هو واقعي ومادي ومتماسك، كما
يتجلى في الحياة الواقعية، إذ ينبغي أن تؤكد السينما الشعرية في الوقت نفسه
على وحدتها التركيبية الخاصة.
وبقدر ما
يبدو مفعماً بوعي وإحساس ذاتي على درجة من الانسجام مع نثرية الحياة
وشعريتها، يبدو كذلك منحسماً بصورة أوضح في مسألة التعبير عن ذلك التماس سينمائياً،
فالنثر والشعر، يستخدمان الكلمات تحديداً، بينما الفيلم يولد من رصد مباشر
للحياة. وذلك برأيه، هو المبدأ الرئيسي للشعر في السينما، إذ إن الصورة
السينمائية هي جوهرياً رصد لظاهرة تمر عبر الزمن، بمعنى أن الروابط
الشعرية، أي منطق الشعر في السينما، بالنسبة له مرضية على نحو رائع، بل
انها تبدو ملائمة على نحو مثالي لامكانية السينما بوصفها أكثر الأشكال
الفنية صدقاً وشعرية.
ذلك هو
مبدأه الشعري كفنان، المتأتي من التأثير الذي يحدثه فيه الواقع والمحيط،
فالفن الذي يحرك في الأساس مشاعر الفرد وليس عقله، يؤدي نفس الوظيفة التي
يؤديها العلم، بما هو وسيلة لاستيعاب العالم، أو هو واسطة لمعرفة العالم
أثناء رحلة الانسان الى ما يسمى الحقيقة المطلقة،
وذلك من خلال رؤية طازجة تقوم على شعرية اللقطة السينمائية، على اعتبار أن للشاعر مخيلة ونفسية طفل تعكس في
الغالب عفوية مرئياته، وعفة انطباعاته الفورية والمباشرة إزاء العالم، مهما بدت أفكاره بشأن هذا العالم عميقة ومستعصية على الفهم.
ان
تعقيدات الفكر والرؤى الشعرية للعالم، حسب تصوره للسينما الشعرية، لا ينبغي أن تكون مقحمة في بنية ما هو واضح وجلي.
ولا في أقنية المنطق المعتاد، منطق التعاقبية الطولية، على نحو غير مريح
مثل اثبات نظرية هندسية، بل في لقطات بصرية أشبه بخطفات صور شعر الهايكو، الذي يكن له اعجاباً، ويرى امكانية تبني تقنياته سينمائياً، إذ ترفض تلك
الصور الشعرية حتى مجرد التلميح الى معنى الصورة النهائي، بما هي قصيدة
تصقل صورها وتتعهدها بعناية، بطريقة تجعلها لا تعني شيئا وراء نطاق نفسها،
مع إقرارٍ جمالي من جانبه كوعي شخصي، بمشقة ووجع عبور عتبة اللا فهم الذي
يفصلنا عن الصورة الشعرية.