امرأة من
غوركي وجهت رسالة الى المخرج الروسي الشهير اندريه تاركوفسكي بعد أن شاهدت
فيلمه «المرأة»، كتبت فيها: «أشكرك على الفيلم، طفولتي كانت كذلك. احساس
مدهش كان يملأ روحي كلها... لكن كيف عرفت ذلك؟ وأنا أنظر الى الشاشة
المضاءة بموهبتك، شعرت للمرة الأولى في حياتي بأنني لست وحيدة».
كانت هذه
الرسالة من المحفزات التي دفعت تاركوفسكي الى تأليف كتابه «النحت في الزمن»
الذي ترجمه الى العربية أخيراً القاص البحريني أمين صالح وصدر في طبعتين في
آن، الأولى اصدرتها في بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والثانية
صدرت في القاهرة عن دار ميريت للنشر. ومن حسن الطالع أن يأتي صدور هذه
الترجمة قبيل الاحتفال بمرور عشرين سنة على وفاة أندريه تاركوفسكي الذي يعد
من أبرز الاسماء في تاريخ السينما العالمية وأهمها.
وعلى رغم
أن تاركوفسكي أخرج طوال مسيرته الفنية – 25 سنة تقريباً – سبعة أفلام فقط،
إلا أن كل فيلم منها كان يعد حدثاً فنياً بحد ذاته، ولعل طول الفترات
الزمنية الفاصلة بين تلك الأفلام أعطى له الكثير من الوقت لكي يتأمل تجربته
ويحدد بدقة أهدافه الخاصة مقارنة بتجارب الآخرين وأهدافهم.
والكتاب
الذي طُبع في المانيا للمرة الأولى في العام 1986 يتضمن مجموعة من اليوميات
والانطباعات التي سجلها صاحب «طفولة ايفان» حول تجربته السينمائية في سياق
رغبته في «تعزيز التواصل مع الجمهور» الذي قابل افلامه برود أفعال متباينة
يسجلها في الكتاب. والاهم أن انطباعاته المدونة لم تأت خالية من تأملات
غاية في الأهمية حول مشكلات «التعبير الفني» التي واجهت قبل أن ينتهي الى
إبداع تجاربه السينمائية الفريدة. وهي تأملات مثيرة لكل المبدعين الباحثين
عن حلول لمشكلات شبيهة.
فن مستقل
ويعترف
تاركوفسكي في الصفحات الأولى بأنه توصل الى هذه التأملات بعد استجوابات قام
بها للنظريات السينمائية السائدة، ومن خلال الرغبة في التعبير عن فهمه
الخاص للقوانين الأساسية للشكل الفني الذي صار جزءاً من تجربته.
وعلى رغم
أن معظم المشكلات التي يطرحها الكتاب ترتبط بالفن السينمائي بالأساس إلا أن
صاحبها وجد حلولها في أجناس ابداعية أخرى مثل «الرواية الأدبية» أو اللوحة
التشكيلية، ما يزكي لدى القارئ فكرة «التجاور» بين مختلف الانواع والاجناس
الابداعية لولا أن تاركوفسكي لا يلبث أن يذكره في كل مناسبة بضروة «استقلال
الفن السينمائي» عن غيره من فنون الابداع.
وأول ما
يبدأ به صاحب «نوستالجيا» هو الاشارة الى ظروف عمل فيلمه الأول «طفولة
إيفان» المأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب بوغومولوف منتهياً الى الدعوة الى «فصل
السينما عن الأدب نهائياً» ويشير بفرح الى ما انجزته السينما في هذا الخصوص
ويراهن على «قدرتها في التحرك ليس بعيداً من الأدب فقط ولكن أيضاً عن بقية
الاشكال الفنية المتاخمة»، ويؤكد على نحو حاسم أن «للسيناريو السينمائي
بنية تختلف تماماً عن بنية النص الأدبي» وفي سياق المقارنة بين صلاحيات
كاتب السيناريو وصلاحيات المخرج ينتصر صاحب فيلم «الحنين» لسلطة المخرج على
نحو مطلق وهو يعتقد بأن الاستعارات التي يلجأ اليها البعض لتغذية الفن
السينمائي من عناصر فنية أخرى من شأنها ان تعمل ككابح للسينما وعائق أمام
تحقيقها لشخصيتها المميزة ومن ثم فإن محاولة تكييف مقومات الاشكال الفنية
الاخرى مع الشاشة يؤدي دائماً الى تجريد الفيلم مما هو سينمائي فيه على نحو
مميز.
ويحذر
تاركوفسكي مما يسميه «الكليشيه» الذي يلجأ اليه بعض المخرجين لكبح خيال
المتفرج عبر استنساخ مشاهد تقليدية ألفها المتفرج في معظم المواقف
الدرامية، مشيراً الى ان الروائع الفنية تولد من نضال الفنان للتعبير عن
مثله الاخلاقية. واذا كان الفنان جاداً في سعيه نحو تعزيز قيمة الحياة، لن
تكون هناك خطورة في مرور صورة الواقع عبر «فلتر» مفاهيمه الذاتية نظراً لأن
عمله سوف يكون دائماً محاولة روحية تتوق الى جعل الانسان أكثر كمالاً،
فالفن كما يراه هو «توق الى المثال».
وللانسجام
مع هذا المفهوم «الصوفي» يتحدث الكتاب في فقرات مطولة عن الاتجاه الخاطئ
الذي اتخذه الفن الحديث عندما تخلى عن البحث عن معنى الوجود في سبيل توكيد
قيمة الفرد لمصلحته الخاصة.
الذاتية
لخدمة السمو
ولا يكف
تاركوفسكي عن الاشارة الى أن الذاتية في الابداع الفني، لا تفرض نفسها، بل
تخدم فكرة اخرى اكثر سمواً ومشاعية. فالفنان هو «خادم» دائماً عليه أن يدفع
ثمن موهبته. فلا معنى من وراء القول إن الفنان يعمل بقصد «التعبير عن
الذات» اذ إن هذا التعبير يظل دائماً يحتاج الى أن يلقى استجابة من
الآخرين.
ولا شك في
أن القارئ لهذه التأملات قد يلمح ظلاماً تركته «الواقعية الاشتراكية» في
افكار صاحب «المرآة» من دون أن يعني ذلك صلة تاركوفسكي بأي مؤسسة رسمية
كانت في بلاده اذ إنه ظل لسنوات طويلة «مهملاً.. شبه منبوذ» من تلك
المؤسسات، كما يشير في أكثر من موقع الى مشكلاته مع الجهات الانتاجية أو مع
«النقاد المحترفين» أصحاب المساحات الثابتة في صحف بلاده. كما يشن حملة لا
هوادة فيها على «الثقافة الجماهيرية المعاصرة» الموجهة الى المستهلك، ويعرف
زمنه عبرها بأنه «زمن التدمير الشامل» حيث تسود «حضارة الجراحة الترقيعية»
التي تشل أرواح الناس وتقيم حواجز بين الانسان والاسئلة الحاسمة بشأن
وجوده.
والى جانب
المرجعيات الأدبية التي يلجأ اليها تاركوفسكي لإضاءة أفكاره بنصوص
دوستويفسكي وتولستوي وجيمس جويس وبروست، لا يمل كذلك من الاشارة الى
الاعمال التشكيلية التي يمكن اعتبارها أحد المداخل المهمة للتعامل مع
أفلامه. وهو في أحيان أخرى يلجأ الى اعمال سينمائية لتوضيح الفكرة لا سيما
من أفلام لويس بونويل وبرغمان باعتبارهما «الأقرب اليه» وينظر بخاصة الى
بونويل بوصفه «حامل الوعي الشعري» فيما يقرأ اعماله بوصفها «نتاج كراهية
شديدة للبنى الميتة».
وفي سياق
الحديث عن السينما الشعرية تتكرر في الكتاب الاشارة الى «قصائد الهايكو
اليابانية» التي يعتبرها تاركوفسكي اكثر الانماط الشعرية قرباً من السينما
كما أنها مثال نادر في القدرة على رصد الحياة في شكل صاف وخالص.
وفي فصل
يحفل بروعة استثنائية نظراً لعمق التأملات الميتافيزيقية التي يتضمنها
يتحدث تاركوفسكي مطولاً عن الزمن الذي هو شرط لوجود «الأنا» لدى كل انسان،
ويرى انه أشبه بالوسيط الثقافي الذي يتعرض للتدمير حين لا تعود هناك حاجة
اليه، وحالما تكون الروابط صارمة بين الهوية الفردية وشروط الوجود.
ويؤكد
السينمائي الكاتب ان الانسان وجد في السينما، وللمرة الاولى في تاريخ
الفنون، وسيلة للامساك بالزمن وطبعه. وعلى نحو متزامن، إمكان نسخ ذلك الزمن
على الشاشة ما يشاء المرء... أن يكرره ويعود اليه مرة أخرى. لقد اكتسب
الانسان منبتاً للزمن الفعلي. بعد رؤية الزمن وتسجيله، صار في الإمكان
الاحتفاظ به في علب معدنية لفترة طويلة (الى الأبد... نظرياً). وهنا يشبّه
تاركوفسكي المتفرج في صالة العرض بالباحث عن «الزمن المفقود» ويعرّف الصورة
السينمائية بأنها هي أساساً رصد لوقائع الحياة داخل الزمن. ويتساءل عن
طبيعة عمل المخرج مؤكداً أن هذا العمل هو «النحت في الزمن» فما يفعله صانع
الفيلم شبيه تماماً بما يفعله النحات الفارق يكمن في طبيعة المادة الخام
فقط.
بعد ذلك
يتحدث صاحب «القربان» عن الموسيقى في افلامه مؤكداً ان الموسيقى «كانت مهمة
وثمينة» اذ كانت تقوم بما هو أكثر من تكثيف الانطباع بالصورة البصرية، أو
تقديم ايضاح مواز للفكرة ذاتها. إنها تفتح الاحتمال لانطباع جديد ذي مظهر
متغير، وللمادة نفسها: كما يمكن للموسيقى أن تجلب الى المادة المصورة سمة
غنائية ولدت من تجربة المبدع. في فيلم «المرآة»، المتعلق بالسيرة الذاتية،
على سبيل المثال، الموسيقى هي غالباً مقدمة كجزء من مادة الحياة، من
التجربة الروحية لخالق العمل.