في الخمسينيات تراجعت أفلام الوحوش المرعبة، التي سادت في
الثلاثينيات والأربعينيات، أمام أفلام رعبٍ كانت مندمجة تقريباً مع
أفلام الخيال العلمي. ومن المحتمل ان النموذجين الأمثل لأفلام رعب
الخمسينيات هما (الشيء)
THE
THING
للمخرج كريستيان ينبي في عام
1951
(مع بعض اللمسات الفنية لهوارد هوكس) ، وفيلم (خمسة)FIVE
للمخرج آرك أوبلير في نفس العام.
كل منهما، يتخذ بشكل محدد، ثيمة الخيال العلمي المرعب
الرئيسية: فيلم (الشيء) يطرح الفكرة القائلة بوجود شكل من أشكال الحياة
على كوكب أخرى قد تهدد الحياة على الأرض. بينما فيلم (خمسة) يطرح
الفكرة القائلة بأن الكرة الأرضية قد تدمر فعلياً، بالقنبلة الذرية،
وما يليها من إشعاع ذري.
كلا الفيلمين المرعبين يتعاملان مع اللاأرضي: (الشيء) بمخلوق
الفضاء الخـارجي، و (خمسة) بإعادة خلق أرض مجردة من كل شيء " الزهور
والحيوانات والحضارة " ، والتي تمثل عادة رموز الدينونة.
مخلوق الفضاء الخارجي في (الشيء) كان مخيفاً، كأي وحش في أفضل
أفلام الرعب التقليدية. لاحظ هنا كيف حول التفوق الحضاري لمخلوق الفضاء
الخارجي فيلم (يوم توقفت الأرض)
DAY THE
EARTH STOOD STILL
THEلروبرت وايز، في نفس العام، إلى فيلم خيال علمي غير
مرعب.
ينتهي فيلم (الشيء) مثل كثير من أفلام الرعب في الخمسينيات
بتحذيرنا بضرورة مراقبة السماء. إنما بالتأكيد لم يكن كريستيان ينبي
يعني أن نراقب الطيور في السماء. لكن عرض فيلم (الطيور)
THE
BIRDSلألفريد
هتشكوك في عام
1962
أعطى نفس التأثير العاطفي، إذ يجب أن لا يضعف الإنسان في هذا الكون
المعادي.
أحد أقوى المشاهد في فيلم (الطيور) والمستمد، بشكل كبير، من
رعب (الشيء) في أفلام الخمسينيات، هو مشهد الفتيات الصغيرات وهن ينظرن
إلى السماء باكيات بعد أن تعرضن لهجوم، لا مبرر له، من الطيور التي
اختفت بعد ذلك.
فيلم (الشيء) مثل فيلم (الطيور) وغيره من أفلام الفئران
والأرانب، التي تلت بعد ذلك، غامض ولا تفسير له، وهو لا ينتهك قواعد
إدارة حضارتنا، بل يحيط نفسه باستقلالية تامة عن كل هذه الأشياء، وهنا
مكمن الرعب.
الأشكال الأسطورية لفيلم (خمسة) هي الآن مألوفة جداً بالنسبة
إلينا: القنبلة الذرية تدمر العالم، وتخلف وراءها إشعاعات قاتلة، وعلى
الأفراد الآن أن يواصلوا مسيرة الحضارة، بطريقة ما، حتى وإن وجدت أنثي
جذابة واحدة فقط (وهذا هو الجزء المألوف جداً) ، والتي لم يسمح لها،
وفق أخلاقيات الخمسينيات، أن يعاشرها أي رجل. الأنثى الجذابة هي عادة
ابنة العالم، والذي نتيجة للتصادم الذري، يبدو كإنسان مهزوم ومتذمر..
صلاحياته تتضاءل تدريجياً أمام رغبة الشرير في الوصول إلى السلطة.
من الأشياء المألوفة أيضاً أن تكون رغبة الشرير الثانوية هي
إغواء الأنثى الجذابة "البريئة "، وأن يظهر البطل كشاب جذاب، عميق
التفكير، طبيعي جداً، وتواقٌ لحماية البطلة.
تنتهي أفلام البقاء الذري عادة بنجاة البطل والبطلة فقط: لقد
طردا، مثل آدم وحواء، من حديقة الحضارة، وعليهما أن يناضلا، ليس بسبب
الخطيئة الأولى، ولكن بسبب آخر الخطايا: تدمير كل أنواع الحياة على
الكرة الأرضية. ان كفارتهما الوحيدة هي في محاولتهما إعادة تأهيل
وتجديد الحضارة.
لاحظ إن أفلام الخيال العلمي المرعب تقترب ، بشكل كبير، من قصة
فرنكنشتاين ، هذا إذا استبدلنا الوحش بالقنبلة الذرية. ويمكن ملاحظة
ذلك في فيلم (خمسة)، وأفلام البقاء الذري الأخرى، إذ يخلق فرنكنشتاين
الذري دماره بنفسه، وعادة دمار خالقه وكل الحضارة. ان العالم المجنون
يظهر، بمعني ما، مجنونٌ سوسيولوجياً وإنسانياً.
هذه الأفلام تبدأ من حيث أفلام فرنكنشتاين، وما دام كل شيء قد
دمر، فما هو التالي؟. فالبقاء في عالم ما بعد الذرة ليس أمراً سهلاً
لأن المساحة الآمنة المحدودة للناجين غالباً ما تكون محاصرة بمخلوقات
متغيرة إحيائيا، وعدوانية تواقة للاعتداء والقتل، دون أي مبرر، سوى أن
هدف وجودها في الفيلم هو القتل. وهكذا نحصل على عنصر رئيسي من عناصر
رعب الهرمجدون في هذا العالم اللاإنساني، واللامميز، وبوجود الحيوانات
العدوانية.
كلمة " الهرمجدون "
(1)
مأخوذة بالطبع من الكتاب المقدس، وهي تعني اسم المكان الذي من المفترض
أن تقع فيه المعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر. لقد استعنت بهذه
الكلمة ليس بسبب ما تتضمنه من معاني الخير والشر (لأن في هذا النوع من
الأفلام غالباً ما يتمازج الخير بالشر )، ولكن لأن هذه الأفلام تعالج،
دائماً، معركة هي فاصلة، أسطورية، وعنيفة.
هجوم الطيور الأخير في فيلم (الطيور) يتجاوز نفسه، فالطيور
ليست طيوراً فحسب، إنها رمز لصراع البقاء والرعب. فحين تختفي الطيور،
في المشهد الأخير من الفيلم، فأن الرعب يظل قائماً. ان ما يرعبنا هو
اننا نعرف بأن الطيور " لا زالت هناك ".
كلمة " الهرمجدون " تبدو مناسبة أيضاً لوجود علاقة قوية بين
هذه الأفلام وكثير من القصص المتضمنة في الكتاب المقدس. فعلى سبيل
المثال الكوارث العديدة التي حدثت تعبيراً عن غضب الله، أو الأكثر
دراماتيكية، القصة الأولى في الكتاب المقدس: الطوفان.
لو استبعدت الرب من قصة الطوفان لحصلت على فيلم رعب هرمجدوني
حقيقي: السماء تمطر فجأة، وما كان يبدو سابقاً فعلاً طبيعياً من أفعال
الطبيعة يتحول إلى شيء غير طبيعي، فالمطر يبدأ في التصرف بخلاف المطر
العادي، ويرفض التوقف. المطر يهاجم، ويقتل أي شخص، ماعدا نوح وعائلته،
الذين استطاعوا اجتياز امتحان البقاء بالعمل الجاد، والتماسك الجيد في
بيتهم العائم. وفي النهاية يظهر قوس قزح كعرفان ووعد بأن الرعب قد وصل
إلى نهايته.
لا يختلف هذا القالب عن قالب فيلم (الطيور) فيما عدا ان هتشكوك
رفض أن يريحنا وينهي رعبه بقوس قزحه.
كلمة " الهرمجدون " لها صلة أيضاً بالحياة المعاصرة: ففي حين
كان يسهل على الأولين أن يتصورا بسهولة الهرمجدون الذي سيحدثه الله ،
فان الإنسان المعاصر يستطيع أيضاً أن يتصور، بسهولة، الهرمجدون، ولكن
ليس ذلك المحدث من قبل الله، ولكن من قبل الإنسان نفسه.
" الهرمجدون " هي " حرب لإنهاء كل الحروب "، وهي المواجهة
النهائية. باختصار، الهرمجدون هي القنبلة الذرية.
إن كانت هيروشيما وناجازاكي قد سجلتا بداية الهرمجدون، فان
فيلمي (على الشاطئ) ON THE BEACH
و
(دكتور سترينجلوف)
DR
STRANGELOVE
سجلا الأزمة النهائية الخيالية.
الثيمات الثلاث الرئيسية لرعب الهرمجدون هي:
1
- التكاثر
2
- الحصار
3
- الموت
ما يجعل هذه القائمة الشكلية ملفتة للانتباه هي إنها تشبه،
بالضبط، الثيمات العظيمة للكاتب المسرحي الفرنسي- الروماني يوجين
يونيسكو، ومسرحه العبثي، الذي لاقى ترحيباً كبيراُ.
انني أرى التشابه واضحاً بين أعمال يونيسكو وبين رعب الهرمجدون.
فمسرحيات يونيسكو، التي لاقت قبولاً لدى المثقفين، تطرح نفس المخاوف
والاهتمامات، التي تصدر، بدون وعي، من عقول الآلاف من الرجال الذين
عملوا في أفلام رعب الهرمجدون.
تتجلى عبقرية يونيسكو في إنه استطاع، بوعي، أن يبدع هذه
الثيمات قبل سنوات من ظهورها في وسائل الإعلام الجماهيرية، وفي
اهتمامات الثقافة الشعبية.
يقول يونيسكو:
"كي أكتشف مشاكل البشر الرئيسية الشائعة لابد أن أسأل نفسي: ما هي
مشاكلي الرئيسية، ما هي مخاوفي التي يتعذر استئصالها ؟. انني على يقين
بأنني سأكتشف المشاكل والمخاوف الموضوعية لكل إنسان. هذه هي الطريقة
الصحيحة للوصول إلى ظلمتي، وإلى ظلماتنا جميعاً، وأنا أحاول أن أسلط
عليها ضوء النهار".
(2)
مسرحيات يونيسكو الثلاث المتصلة، بوضوح، برعب الهرمجدون هي: "
المستأجر الجديد "
(1953) ، " الخراتيت " (1958)
، و " لعبة القتل " (1970)
، والمسرحية الأخيرة تحمل تشابهاً مذهلاً مع رائعة أفلام رعب الهرمجدون
(ليلة الأمـوات الأحياء)
NIGHT OF THE LIVING DEAD
.
قد تكون مسرحية " المستأجر الجديد " ذات الفصل الواحد من أنجح
مسرحيات يونيسكو، وهي تبدأ بمشهد عادي جداً، وهذا شيء مألوف في أعمال
يونيسكو، وفي أفلام هذا النوع، اننا نرى حارسة ثرثارة تعد حجرة خالية
تماماً لمستأجرها الجديد .. انها مشغولة بالحديث، مستنفذة كل طاقاتها،
بينما هي لا تعمل شيئاً. عندما يصل المستأجر الجديد أخيراً نجده رجلاً
عادياً، أنيقاً، هادئاً، وعميق التفكير. يوافق على استئجار الحجرة،
ولكنه يرفض قبول مساعدتها، فتهتاج الحارسة غاضبة، بينما تترك الحجرة.
ناقلا الأثاث يبدءان بإدخال أثاث المستأجر إلى الحجرة، وهذا بالفعل هو
الذي يجسد كل المسرحية.
في البداية تتم عملية إدخال الأثاث بهدوء تام، بينما المستأجر
الجديد يعطي الرجلين التعليمات لترتيب وضع الأثاث وفقاً لخطته المسبقة.
وتدريجياً، يبدأ ناقلا الأثاث بالعمل بسرعة كبيرة جداً حتى لا تعد هناك
مساحة في الحجرة، في حين يصر المستأجر الجديد على انه سيجد مكاناً لكل
قطعة أثاث، وهو يدعي بأنه قام بقياس الحجرة بعناية. فجأة يبدأ الأثاث
بالتحرك دون مساعدة الناقلين. باختصار، يبدأ الأثاث في التصرف بخلاف
تام مع وظيفة الأثاث الطبيعية. الأثاث يدخل من كلا الجانبين، ومن
السقف، ومن النوافذ، ثم نسمع خبراً بأن الأثاث أحدث إرباكاً في حركة
المرور في الخارج أيضاً، وإنه سد نهر السين، وحاصر باريس. تنتهي
المسرحية، والخشبة ممتلئة بالأثاث، في حين يدفن المستأجر الجديد في
الأثاث. انه يطلب من الرجلين، بهدوء، أن يطفئا الأنوار أثناء خروجهما.
التشابه واضح بين " المستأجر الجديد " و " الطيور " .. وهذا
التشابه نجده في بنائية العملين: البدء من العادي، والتحرك تدريجياً
تجاه اللامألوف، وإلى الغامض، ثم إلى المرعب.
في كلا العملين هناك تأكيد على حصار منطقة واحدة (الحجرة /
البيت في مدينة بوديغا باي ) ، مع ان التقارير الإخبارية تفيد بأن
مناطق أخرى تعرضت لنفس الهجوم.
في كلا العملين التكاثر الغامض هو الذي يخلق الرعب. أما
الاختلاف الرئيسي بينهما فهو اختيار رمز القوى الوجودية (تجدر الإشارة
هنا إلى ان الطيور والأثاث، التي تعتبر أليفة، ووسيلة من وسائل الراحة،
تتحول إلى أشياء بشعة، وتصبح بديلاً عن الوحوش المرعبة) .
من المحتمل ان أكثر الأشياء لفتاً للنظر في رعب الهرمجدون هي
الطريقة التي يتم بها اختيار رمز الرعب المتكاثر، الذي يؤثر على المعني
الكامل، ويفرض نفسه على العمل. "العالم امتلأ بنا " هذا ما يبدو ان
الأثاث يقوله في مسرحية " المستأجر الجديد " ، ليس هناك مفر من
الحضارة، إنها ستتبعك، أينما ذهبت، لتعذبك وترعبك.
مسرحية يونيسكو العبثية التالية، والمتصلة برعب الهرمجدون،
والتي حققت له شهرة واسعة، هي بالطبع مسرحية " الخرتيت ".
مرة أخرى تبدأ مسرحية " الخرتيت " بمشهد عادي: الرجل العادي
بيرانجيه (الشخصية المتكررة في أعمال يونيسكو) جالس على رصيف مقهى
فرنسي يتحدث إلى صديقه، بينما يجلس على الطاولة التالية رجل منطقي
يثرثر دون توقف كاسراً المنطق. فجأة يعبر خرتيت بسرعة فائقة فيحدث
جدلاً بين الموجودين حول ما إذا كان الخرتيت ذا قرن واحد أو قرنين،
ويدور النقاش حول المصدر الذي جاء منه. ولا يطول الوقت حتى نكتشف بأنه
بدلاً من أن يقاتل الناس الخراتيت المذعورة فانهم يتحولون، تدريجياً،
إلى خراتيت.
وحين تصل " الخرتتة " إلى ذروة سعارها، ويرى بيرانجيه صديقه
العزيز وهو يتحول أمام عينيه إلى خرتيت، ويشهد انمساخ حبيبته (قارن "
الخرتيت " بفيلم " غزو ناهشي الجسد " الذي أخرجه دون سيغل في نفس
الفترة، خاصة التشابه بين كيفن ماكارثي- بيرانجيه، ودانا وينتر- ديزي )
ويقرر، وان يكن على مضض، بأنه لن يستسلم.
مرة أخرى، الصلة واضحة بين بنائية موضوعية " الخرتيت " وبين
رعب الهرمجدون. أن أكثر الأشياء اهتماماً في " الخرتيت " هي مظاهرها
الرمزية .. فالخراتيت هي مخيفة نوعاً ما، وليست كالطيور أو الأثاث. مع
ان الكثير من الكتابات النقدية افترضت بأن الخراتيت هي رمز للنازيين،
إلا ان هذا الافتراض ما هو في الحقيقة إلا افتراض تبسيطي جداً، وان كان
قد لقي قبولاً كبيراً حين عرضت مسرحية " الخرتيت " لأول مرة ( في عام
1973
تمت أمركة المسرحية في فيلم يحمل نفس الاسم، وينتقد إدارة الرئيس
نيكسون).
على النقاد أن يغيروا من افتراضاتهم التبسيطية القديمة،
فالمسرحية ليست ضد النازية فحسب، بل هي ضد الشيوعية أيضاً. فالخرتيت
رمز صالح لأية دولة توتاليتارية يحرم فيها حرية التعبير، والكرامة
الإنسانية، والحرية الشخصية.
المسرحية في حد ذاتها ليست عملاً سياسياً، ولا عملاً بريختياً،
بل على العكس من ذلك، هي مسرحية عميقة، ومناصرة للإنسانية. وهي لا
تعالج شرور كل السياسيين، بقدر ما هي تعالج تأثير هذا الشر على حياة
الرجل العادي: بيرانجيه.
في نهاية المسرحية تترك الخراتيت بيرانجيه في حالة شيزوفرنية
تقريباً، حيث يتوق للحصول على بشرة خضراء جميلة وعلى قرنين، ومع ذلك
فهو يصر، بعناد، على الاحتفاظ بهويته ككائن بشري.
ان الخراتيت هي في الواقع تمثل الأموات الأحياء. وفي الفصل
الأخير من " الخرتيت" يراقب بيرانجيه، بيأس، كل قيمه وأصدقائه وولائه
وحبه الرومانتيكي وقد جردت تماماً مع تحول كل إنسان إلى خرتيت مروع.
انه يعيش فعلاً ليلة الأموات الأحياء، وهي ليلة مظلمة تشبه أية ليلة في
أي فيلم مرعب.
ان وجود خراتيت لا صورة لها، وغير مميزة، تذكرنا فوراً بطوابير
النازيين غير المعروفين المتحدين خلف هتلر، أو الجماهير الصينية، في
الصين الماوية، متحدة، في زى موحد، لا يمكن التمييز بينها.
هذا التشابه الآلي له علاقة أيضاً بالدقة الحسابية للتكنولوجيا
الذرية، فنهاية العقد الخامس العنيف شهد التالي:
1
- هزيمة هتلر وجماهيره.
2
- ثورة ماو وجماهيره.
3
- التقدم العلمي في إنتاج القنبلة الذرية، وإبادة جماهير
هيروشيما وناجازاكي.
هناك أيضاً صلة بين التكاثر غير المميز للجماهير التوتاليتارية
في الأربعينيات، وبين تواصل الانفجار السكاني، والاهتمامات الايكولوجية
في الستينيات. ان طاقات الرمز المتكاثر في الواقع، وقدرته على التعبير
عن اهتمامات مختلفة لها علاقة بالحرب العالمية الثانية، هو ما يميز رعب
الهرمجدون.
في حين استطاع يونيسكو أن يخلق " المستأجر الجديد " في عام
1953
و " الخرتيت" في عام
1958،
فان السينما أخذت وقتاً طويلاً قبل أن تحصل على نفس الصيغ. ومن المحتمل
ان أول فيلم رعب قريب إلى رعب الهرمجدون هو فيلم (هم)
THEMللمخرج جيمس أرينز في عام
1945.
اننا نرى فتاة صغيرة تائهة في الطريق العام، وهي فاقدة عقلها
تقريباً، وتدمدم باستمرار "هم...". تدريجياً، نكتشف بأن " هم " تعني
نمل ضخم يستمر في إلحاق الدمار بمدينة لوس أنجلوس.
فيلم (هم) هو بحق فيلم انتقالي، وخيالي علمي بصفة عامة، وهو
يستخدم فكرة التحول الذري لتفسير ضخامة النمل. إضافة إلى ذلك، فان وجود
النمل الضخم بدلا من النمل العادي يوحي بنوع من الرعب الفانتازي بتحديد
أكبر (وليس الرعب الوجودي).
مع ذلك فان النمل الضخم يتصل بفيلم (الطيور) أكثر من اتصاله
بأفلام الوحوش التقليدية مثل " كينغ كونغ ".
ففي حين نجد ان " كينغ كونغ " ، والحيوانات المتوحشة، في فيلم
(الديناصورات)
DINOSAURUS
، أو العنكبوتة الضخمة في فيلم (العالم المفقود
The
Lost World،
تمثل، بوضوح، الطبيعة الحيوانية للإنسان وماضيه، فان النمل في فيلم
(هم) هو بداية لتقليد جديد، إذ انه يمثل مستقبل الإنسانية ونزعته
العلمية المعقدة.
من المثير للسخرية ان الإنسان، بعد ملايين السنين من التطور،
يجد بأن حاجاته العلمية للكشف عن المناطق المحرمة، قد أرجعته إلى
الوراء، إي إلى نفس نقطة الرعب التي كان طوال ملايين السنين يحاول
الفرار منها.
إننا بين مقلاة " كينغ كونغ " ، ونار الجراد المتحول، نجد
أنفسنا غير قادرين على تحمل التوازن المضطرب بين الوحشية والحضارة
المتوحشة.
فيلم (الطيور) لألفريد هتشكوك هو أكثر أفلام هذا النوع
ابتكارا، وهو يبدأ، مثل مسرحيات يونيسكو، بمشهد عادي: تيبي هيدرن
(تمثل دور ميلاني دانيلز) تحاول أن تمزح مع رود تايلور (يمثل دور ميتش
بيرنير) بإدعاء انها موظفة في محل لبيع الطيور.
الذين شاهدوا الفيلم لم يتذكروا إلا هجوم الطيور المرعب، ونسوا
ان معظم أحداث الفيلم هي كوميدية ذكية، فهجوم الطيور يبرز المخاوف
والرعشات، ولكن بالتأكيد لا يبرز محور الفيلم. ومثلما تنزع الخراتيت في
مسرحية " الخراتيت " نحو تحوير حقيقة ان المسرحية هي عن بيرانجيه،
فان الطيور تحور حقيقة ان فيلم (الطيور) هو عن العلاقة بين الشخصيات
الرئيسية الثلاث وأهمية هذه العلاقة الإنسانية.
ان هجوم الطيور الغريب، في بعض المواقع، يبدو هزلياً، فهناك
مشاهد مرعبة ومضحكة في آن، ففي مشهد حفلة الأطفال في الهواء الطلق نرى
الأطفال يفرون من الطيور، في حين نرى امرأة عجوز تصرخ فجأة بهستيرية
لأن بيتها الريفي امتلأ بعصافير الدوري. أو مشهد الطيور وهي تراقب
بينما حشد من الناس محتجزين في حانة على جانب الطريق.
ان العلاقة بين الرعب والكوميديا في أفلام هيتشكوك هي غالباً
ما تكون متآلفة مثلما هي في مسرحيات يونيسكو.
إن لم تكن الكوميديا عند هيتشكوك ويونيسكو تراجيدية أكثر من
التراجيديا، فانها بالتأكيد كوميديا سوداوية. ففي حين تعالج
التراجيديا الكلاسيكية، صراحة، مشاكل ومآسي الوجود، فان الكوميديا
تنزع، مع انها تعالج نفس المشكلات، إلى إخفاء هذه الموضوعات، وتشويش
الاهتمام بها، عن طريق توكيدها، بدلاً من ذلك، على الدعوة إلى الضحك أو
السخرية.
ربما أعتبر هيتشكوك (الطيور) كدعابة متقنة مبنية على الافتراض
الكوميدي بعكس العلاقة التقليدية بين الطيور والإنسان، ولكن بالتأكيد
هي دعابة سوداء: فأي كرامة ستبقى للإنسان إن استطاعت الطيور - في أية
لحظة - مهاجمة المجتمع، النساء، الفلاحين، وحتى الأطفال الأبرياء ؟! .
ان وصف الناقد ج .ل. ستيان لأسلوب يونيسكو يصلح تماماً لوصف
أسلوب هتشكوك في فيلم (الطيور):
"ان لدى يونيسكو المقدرة على تصوير شخصياته كدمى مسرحية ساكنة
في عالم يعيش في تهديد مستمر .. ويحيط العنف، الشبيه بعنف مسرح
العرائس، بالضحية غير الواعية، والجدران تهتز بسخرية حول رؤوسهم
الهالكة .. ان هذه هي طريقة الملهاة الكلاسيكية، بعد ان اكتسبت القسوة
، وبعد أن غدا هجاؤها هستيرياً .."
(3)
مع ان فيلم (الطيور) هو فيلم ساطع بصرياً (الرعب يحدث في وضح
النهار) إلا ان موضوعه قاتم مثل فيلم (سايكو) ، أما افتراض الفيلم حول
إمكانية " الاتصال الوحيد" من أجل احتمال هذا الكون الحاقد فقد توارى
وراء حيل المؤثرات الخاصة.
لقد دار نقاش كثير حول حقيقة هجوم الطيور وما تمثله، ولكن أفضل
التحليلات حول هذا الموضوع هو ما كتبه الناقد روبن وود في كتابه "
أفلام هتشكوك ".
ان هتشكوك خطا بالتأكيد أبعد من فيلمي (هم) و (الفئران
القاتلة) ، فسلوك الطيور لا يرجع إلى خطأ ارتكبه العالم، وفلت من
سيطرته، إنما مفتاح اللغز يكمن في مشهد المقهى (قارن مع مشهد المقهى في
مسرحية " الخرتيت " والذي يخدم نفس الموقف) ، حيث يقدم لنا هتشكوك
شخصيات عديدة تتطوع من أجل إعطاء تفسيرات مختلفة، فالبعض يرى بأن
الطيور عقاب من الله، أو إن ظهورها يعني نهاية العالم، أو ان الطبيعة
قد بدأت تنتقم، أو انها لا تحب أفعال ميلاني دانيلز.
كل هذه التفسيرات غير صائبة. ففيلم (الطيور) ينتمي إلى عصر
القلق الذري، والطيور لا تمثل القنبلة الذرية، ولكنها ترمز، ببساطة،
إلى القلق الوجودي: فالطيور أصبحت هي الرعب، والمرض، والموت، والعنف،
والوحشية، والعبث.. أي رعب محتمل حضوره في أية لحظة، سواء أكان هذا
الرعب من صنع يد الإنسان، أو هو رعب لا تفسير له، فانه يصبح، ببساطة،
جزءً من طبيعة الأشياء. باختصار (الطيور) ترمز إلى الحياة الإنسانية،
أما نهاية الفيلم البارعة، والغامضة، فإنها تعطي المتفرج الفرصة ليقرر،
( مثل مشهد الذروة في "الخرتيت "): هل تستطيع عائلة متيش مع ميلاني،
المحاصرين تماماً من قبل الطيور، النجاة من الموت، أو هل سيكتشفون
المزيد من الطيور في نهاية الطريق .. هذه الطيور التي ستمزقهم إرباً،
وبطريقة أشد ضراوة ؟؟ .
ومع ان معظم أفلام الرعب تنتهي بنهايات سعيدة (على سبيل المثال
التدمير المؤقت لفرنكنشتاين ودراكيولا، أو الانتصار على الجراد الضخم)
، إلا ان فيلم (الطيور) إضافة إلى (سايكو) هو أحد أفلام الرعب القليلة،
إلى وقتنا هذا، الذي لايجيب على السؤال التالي: " هل للفيلم نهاية
سعيدة ؟ ".
ان المشهد الأخير في (الطيور) هو نفس المشهد الأكثر تشويقاً،
ومع ذلك فهو المشهد الذي يصل إلى التوقف الكامل.
فالطيور لا تتحرك في اللحظات الأخيرة (مثلما رفض أنتوني بيركنز
في اللحظات الأخيرة من فيلم: " سايكو " حتى " إبعاد تلك الحشرة ") ،
والتوقف هذا هو الذي يحدث الكتابة المرعبة.
لنعد مرة أخرى إلى مسرحيات يونيسكو: لاحظ المشهد الأخير في "
المستأجر الجديد" حينما يدفن السيد تماماً تحت الأثاث، ولا يقوى على
الحركة، أو نهاية بيرانجيه الغامضة، وإعلانه بأنه " لن يستسلم " في
مسرحية " الخرتيت " في حين إننا لا نعرف إن كان سيبقى كائناً بشرياً
.. أو الصورة المرعبة من نهاية مسرحية " الكراسي " عندما تمتليء الخشبة
بالكراسي والناس غير المرئيين .. أو الفصل الأخير من مسرحية " القاتل "
حيث يتعرف بيرانجيه، بعد فصلين من البحث الطائش، على القاتل، ويستغرق
في مونولوج يمتد إلى خمسة عشرة صفحة ليعرف الدوافع التي تجعل القاتل
قاتلاً، وبعد ذلك لا يحصل إلا على ضحكة خافتة من القاتل الذي يرفع
مديته ويقترب منه، في حين يخفض بيرانجيه رأسه ويتساءل: "رباه، لا يمكن
أن نفعل شيئاً .. ماذا يمكن أن نفعل ؟.. ماذا يمكن أن نفعل ؟ ". وقبل
أن يتمكن المتفرجون من معرفة النتيجة النهائية تنزل الستارة بسرعة.
في (الطيور) نستطيع أن نحاول محبة بعضنا، وإقامة العلاقات فيما
بيننا، لكن يصعب معرفة ما إذا كانت هذه العلاقات ستحقق شيئاً، مع إن "
الجسر هو الحب، هو الملاذ الوحيد، والمعنى الوحيد، إلا ان السؤال هنا:
هل سيتحطم ذلك الجسر ويطوح بعابريه إلى أسفل الخليج؟‘‘ .
إن كان الخليج أسفل الجسر فماذا سيكون فوقه بالتحديد ؟. في
فيلم (الطيور) هدف التكاثر هو أكثر أهمية من هدف حصار المنزل الريفي.
في فيلم (الفئران القاتلة) كان البيت المحاصر خالياً من أي معنى: فمن
جهة تحاول الشخصية، بغير جدوى، الفرار من الفئران بالاختباء في القبو
(الرحم) لكن البيت لا يحمل أي طابع مميز بغض النظر عن " عالم العلم ''.
في فيلم (الطيور) للبيت أهمية أكبر، والمطلب الأول للشخصيات
ليس الهرب من البيت ولكن الاختباء فيه. البيت هو، بوضوح تام، مكان
للراحة والأمان: فلا أمان في المدرسة (لوجود نوافذ كبيرة بها ) ، ولا
أمان في مدينة بوديغا باي، وأيضاً، لا أمان في الحضارة (الطيور هي التي
تحكمها) . ان سوزان بلاشيت تُقتل حينما تخرج من البيت، بينما تنجو
الفتاة الصغيرة لأن سوزان بلاشيت تجاهد في دفعها إلى داخل البيت الآمن.
ومع ان دان فاوسيت هوجم وقُتل في بيته، إلا ان الهجوم تم حينما كان
نائماً.
في أفلام الرعب من شخصية ما، لا بد أن يكون البيت مظلماً،
ومكاناً للذكريات الميتة، ومكاناً للفساد والأسرار والانحرافات. بينما
تختلف وظيفة البيت في معظم أفلام رعب الهرمجدون، فالبيت هنا رمز للحياة
العائلية، رمز للحياة المادية التي تسمح لنا بتنظيم حياتنا (ولع جيسيكا
تاندي بأكواب الشاي)، والبيت رمز للتعبير عن الذات، وللثقافة الشعبية
(عزف تيبي هيدرن وتأثيث البيت).
في (الطيور) لا يكون البيت آمناً إلا متى أشعلوا المستوقد
منعاً للطيور من التسرب عبر المدخنة.
مع ان البيت، كرمز، هو مكان للبقاء فيه، إلا انه يبقى في نهاية
الأمر رمزاً فقط: لا بد من التخلي عنه حينما تهدد الطيور بتدميره،
ولابد من مواصلة الثقافة العائلية، ومفهوم العائلة .. ليس بالبيت نفسه،
ولكن بالشخصيات التي تحمل مشاعر صادقة تجاه بعضها البعض، وبإمكانها حمل
هذه المشاعر معها أينما ذهبت، مستمدة من الماضي كقاعدة فقط لأمل ما ..
قد يتحقق مستقبلاً.
من المؤكد ان فيلم (ليلة الأموات الأحياء) هو أحد روائع أفلام
رعب الهرمجدون في الستينيات، وأكثرها سوداوية. لكن هذا الفيلم، القليل
التكاليف، تعرض لنقد شديد، وتجاهل من قبل الكثير من النقاد، في حين صب
آخرون اللعنات عليه. وقد يكون النقد الذي أوردته مجلة "فاريتي " هو
النموذج الهستيري المناسب:
"طوال تسعين دقيقة، يطعن فيلم الرعب هذا ( التورية هنا متعمدة
) ، بصورة خطيرة، في أمانة ومسئولية مخرج هذا الفيلم ، وموزعه وولتر
ريد ، وصناعة السينما ككل ، والأشخاص الذين قبلوا عرضه. هذا الفيلم
يثير أيضاً الشكوك حول مستقبل حركة السينما الأمريكية ، وحول السلامة
الأخلاقية للمتفرجين، الذين اختاروا ، بكل سرور ، مشاهدة هذا اللهو
العربيدي السادي المتواصل : سيناريو روسو هو نموذج للتفاهة السوقية
وتوحي بكراهيته التامة لشخصياته ، ان لم تكن البشرية كلها " .
وقع الفيلم في مشكلة أخرى حينما تعرض لهجوم من مجلة " ريدر
دايجست " التي استنكرت إخافة الأطفال. ان هذه الهجمات الانتقادية
أنقذت الفيلم من النسيان، وأوصلته إلى مراتب الشهرة. ومع ان الفيلم لقي
إعجاباً يقارب العبادة، إلا انه لا يستحق كل هذا الإطراء المسرف، لأنه
في النهاية فيلم مرعب، ومنفذ بتكاليف قليلة، وغير متقن في أحيان كثيرة.
أود هنا أن أشير إلى مسرحية " لعبة القتل " ليونيسكو، ليس لأن
يونيسكو نفسه، أو مسرحه العبثي، له صلة وثيقة بهذا النوع من الأفلام،
ولكن لأن " لعبة القتل " تشبه كثيراً ( ليلة الأموات الأحياء)
بالتحديد، والمسرحية تساعد على إلقاء الضوء على الفيلم المرعب وتعزز
درجة قبوله.
إلى جانب ثيمات يونيسكو العظيمة عن التكاثر والحصار توجد ثيمة
الموت. وللمرة الأولى تتمازج كل الثيمات مباشرة في مسرحية واحدة.
ان مسرحية " لعبة القتل " هي عن الموت المتكاثر:
(المشهد يمثل ميداناً في مدينة، وهي ليست مدينة حديثة، ولا
مدينة قديمة. هذه المدينة يجب أن لا يكون لها أي طابع مميز. هناك جمع
غفير، لا تلوح عليهم علامات البهجة أو الحزن، وهم بين فارغ من قضاء
حاجاته ، ومقبل على قضائها) .
المدينة التي لا تحمل طابعاً مميزاً تتعرض فجأة لوباء ما. ونرى
سلسلة من المشاهد حيث شخصيات لا صلة لها ببعضها البعض تأتي إلى الخشبة،
وتعبر عن رأيها، ثم تموت نتيجة الوباء.
(ربة بيت تقول: "قال لي زوجي ان غالبية هؤلاء الناس ليس لديهم
مباديء أخلاقية ، ولهذا يموتون ، انهم يعيشون في فوضى .. ولكن حتى
الأخيار يموتون أيضاً ". رجل آخر يقول : "العالم كله أصبح كوكباً
بعيداً ، من الصلب ، مغلقاً لا يمكن اختراقه ، شيئاً غريباً وعدائياً .
لا اتصال. انفصام تام " ).
في منتصف المسرحية، حيث الوباء يزداد سوءً، تخرج شخصية، وتعلن
عن الاستراحة وتسقط ميتة. الجثث متكومة تقريباً على خشبة المسرح . يعلن
الخطيب:
( أيها المواطنون سكان المدينة . أيها الأجانب .. لقد انتشر في
مدينتنا داء مجهول، منذ فترة من الوقت، فجأة، وبلا سبب واضح، أخذ الناس
يموتون دون أن يصابوا بمرض، في المنازل، وفي الكنائس، وفي أركان
الشوارع، وفي الميادين العامة، أخذوا يموتون، هل تتصورون الموت يتزايد
بمعدل المتوالية الهندسية ؟ ) .
المدينة مغلقة تماماً، محاصرة بالموت، الذي يرمز إليه بالراهب
المرتدي السواد، والذي يمشى بين الفينة والأخرى بصمت على المسرح. الناس
يختبئون في بيوتهم، يحاولون النجاة من الموت. ولكن لا شيء يصلح لذلك.
كل شخص يموت: الشرير، الطيب، الشاب، الشيخ، الأصدقاء، الأعداء،
العشاق. فجأة، ودون أي تفسير، يتوقف الوباء. ويبدأ الناس مترددين في
الخروج من بيوتهم. ويبدأون في التهليل والفرح بانتصارهم على الموت، لكن
فجأة تشتعل المدينة كلها، ويعيش الناجون في محنة أشد رعباً ويأساً من
المحنة الأولى.
فلسفياً، فيلم (ليلة الأموات الأحياء) هو فيلم عدمي. وهو يصل
إلى نفس الأهداف السابقة. الموت ، التكاثر في الفيلم ليس مصدر الموت،
بل الأموات الأحياء: الأموات الذين ينهضون من قبورهم لقتل الأحياء.
يبدأون بعدد قليل ثم يزداد عددهم تدريجياً بمعدل المتوالية الهندسية.
وحينما يتم التغلب فجأة على الأموات الأحياء، ويظهر البطل من البيت
المحاصر، فان رعب الأموات الأحياء يستعاض عنه برعب آخر: وحشية الأحياء
الذين يقتلون البطل.
يبدأ الفيلم بمشهد تضليلي، ونوعاً ما كوميدي: سيارة تتوقف على
جانب الطريق أمام مدخل مقبرة متآكلة. الوقت خريف، وأوراق الأشجار
تتساقط على الأرض. نصادف جوني وبارب اللذين يزوران قبر أبيهما - إرضاءً
لأمهما - ، بارب تتمنى لو ان الزهور لا تذبل على قبر أبيها. السماء
ترعد بينما جون يسخر من الكنيسة، ثم يبدأ بالسخرية من بارب ويذكرها "
بالرجل البعبع " الذي كان يرعبها في طفولتها: " بارب، إنهم قادمون
لقتلك .. إنهم قادمون لقتلك " . وبقدر ما هي تحاول إيقاف سخريته، بقدر
ما هو يتمادي في السخرية، وهو يشير إلى رجل طويل يسير ببطء تجاههما.
الهزل يتحول فجأة إلى رعب شديد حين يصل الرجل الطويل ويقتل جون، بدون
أي سبب، ثم يبدأ بمطاردة بارب بلا رحمة. إنها تواجه مخاوف طفولتها
مجسدة في الواقع. هي تركض إلى السيارة، وتغلق الباب بقوة، لكنها تفشل
في تشغيل السيارة. في هذه الأثناء يحمل الرجل حجراً ويبدأ في كسر زجاج
نافذة السيارة للدخول إليها. المشهد كله مرعب تماماً، لكنها تتمكن
أخيراً من الفرار إلى بيت ريفي صغير (في هذه الأفلام تقع الأحداث
دائماً في بيت ريفي) ، وتدخل البيت بهستيرية طلباً للمساعدة، وتصعد
سلماً، شبيهاً بالسلم الذي رأيناه في فيلم (سايكو) فتصطدم بوجود امرأة
ميتة متفسخة، وتقع فريسة الإغماء التخشبي طيلة وجودها في الفيلم.
داخل البيت تقابل " بن " الشاب الأسود، بطل الفيلم، والذي
يشرح لها، وبشكل شعائري تقريباً، عن مواجهاته مع المخلوقات، بينما
الأموات يبدأون في محاصرة البيت.
ان بارب تبدو مشتتة، وشاردة الفكر، نتيجة لما رأته، انها ترفض
تصديق حقيقة ان أخاها قد مات.
بعد أن يقتل بن بعض المخلوقات يبدءان في تغطية البيت بألواح
خشبية، لكن بارب لا تساعد إلا بألواح خشبية لا نفع فيها. وعندما تأخذ
السماط فإنها تطويها بعناية وتهدهدها كأنما ستحصل على القوة من هذه
الأدوات المنزلية - انها تشبه كثيراً جيسيكا تاندي وأكواب شايها في
فيلم (الطيور) - يعلن الراديو عن حدوث قتل جماعي غامض في الثلث الشرقي
من البلاد. اننا ننتقل إلى لقطة قريبة لوجه بارب بينما يعلن المذيع
بأن القتلة يأكلون أجساد ضحاياهم.
تدريجياً، يكتشفان أشخاصاً آخرين في البيت، ويقابلان الشخصية
الأهم: هاري، الأصلع، الشرير، الدنيء، الذي كان مختبئاً مع زوجته
وابنته المصابة في القبو.
حين يدور النقاش بينهم حول ما يجب عمله، فان هاري يقول،
باقتناع تام، بأن عليهم الاختباء في القبو، وأن لا يخرجوا منه. ويدافع
عن مواقفه هذه بجملة من الأسباب المنطقية، لكن بن، لسبب ما، لا يوافق،
ويرى بأنه من الضروري لكل الناجين في البيت، العمل معاً، والبقاء معاً
فوق.
من المحتمل ان بن قال ذلك لأنه البطل بلا شك، ونحن، كمتفرجين،
نجد أنفسنا نؤيد موقفه، ونحكم على هاري بالجبن ، وضيق الأفق،
والأنانية، ونقتنع بالرأي القائل " إذا اتحدنا جميعاً فإننا سنكون في
وضع أفضل " . اننا نجد هنا مشهداً رمزياً للرجل الأسود وهو يحث على
التعاون: أنه نوع من الإيمان بأن الليبرالية ستحقق لنا أهدافنا.
كل الخلافات الشخصية تتوقف حين تبدأ المخلوقات بإدخال أصابعها
في شقوق النوافذ مواصلة، كالطيور، محاولة الاقتحام والقتل. في المشهد
الرئيسي للفيلم نراقب مذيع الأخبار في التلفزيون يعلن بأن المخلوقات
الغامضة، التي برزت للوجود، والتي تواصل أكل الأحياء، هي مخلوقات ميتة
فعلاً. وهناك إيحاء مبهم بأن هذه الظاهرة قد يكون سببها قمر صناعي دمر
أثناء رحلته لكوكب الزهرة. ولكن هذا التفسير غير مقنع علمياً.
أحد مذيعي الأخبار يقابل حشداً من الناس للحصول على معلومات
أكثر، ونستمع إلى آراء فجة ومضحكة، نكتشف بأن: " اقتل المخ يموت الغول
''، و '' أضربهم أو أحرقهم فيموتون بكل سهولة ''. المذيع يسأل : " هل
هم يمشون بالحركة البطيئة ؟ " ، فيكون الجواب بالإيجاب: " انهم أموات
".
ومع ان هاري يرفض التعاون، فأن المجموعة، تحت قيادة بن توافق
أخيراً على محاولة الحصول على بعض البنزين للشاحنة حتى يستطيعوا الفرار
من البيت.
"توم" و"جودي" (اللذين يمثلان الحب المثالي) يتطوعان لتنفيذ
المهمة، ولكن نتيجة لوجود الأموات الأحياء فان البنزين يتدفق وينتشر
حول الشاحنة، وتشتعل فيها النار فجأة، فيقتلان كليهما في مشهد مشابه
تماماً لمشهد الطيور وهي تتسبب في إشعال مضخة بترول المدينة في فيلم
(الطيور).
عودة إلى البيت نرى مواجهة بين هاري وبن الأسود: فقد كان بن
خارجاً مع الأموات بينما أغلق هاري الباب من الداخل مصرحاً: " بأن
شخصين قتلا بسبب ذلك الرجل "، وهو تصريح صحيح فعلاً، لأن بن هو الذي
حرض على محاولة الفرار. يستطيع بن أن يدخل عنوة إلى البيت، وفي ثورة
غضب يردي هاري قتيلاً، ويأخذ جثته إلى القبو مع ابنته الصغيرة.
في هذه الأثناء، يحاول أحد الأموات الأحياء خنق زوجة هاري،
ولكنها تتمكن من الخلاص منه. فجأة يندفع الفيلم في سرعة غير محتملة:
زوجة هاري تنزل إلى القبو، وتصاب بالرعب حين تشاهد ابنتها الصغيرة
الميتة، وقد عادت إلى الحياة، تأكل أباها. الفتاة الصغيرة تلتفت فجأة،
تأخذ مالجاً حاداً وتطعن به أمها حتى الموت. من فوق نسمع أصواتاً
وصراخاً: الأموات الأحياء تمكنوا من اقتحام البيت. فجأة نرى جوني، أخو
بارب، كميتٍ حي، يهجم على أخته ليقتلها ويأكلها. الفتاة الصغيرة تحاول
قتل بن. بن يركض إلى القبو، يغلق الباب ويصغي إلى أصوات الأموات
الأحياء، الذين استولوا على البيت تماماً.
في هذه الأثناء، يعود هاري إلى الحياة، كميتٍ حي، لكن بن يقتله
ثانية. زوجة هاري تفتح عينيها فجأة لكن بن يقتلها. لا يمكن لأية كلمات
أن تصف الرعب في هذه المشاهد .. فصالة السينما ضجت بالصراخ العالي
للمشاهدين، وبعبارات الاشمئزاز لمنظر الفتاة الصغيرة وهي تأكل أباها،
وتقتل أمها.
يصل الفيلم إلى ذروته بالقتل العنيف لرموز العائلة، والإيحاء
بأن لا كرامة للحياة البشرية، وعدم وجود أي قيم سوى العنف والموت
والمزيد من الرعب.
ان توقعاتنا عن البطولة التقليدية تختل حين نرى ان بطلنا لم
يتمكن من الهرب من الأموات الأحياء إلا بعد أن حجز نفسه في القبو، أي
انه قد قبل بما رفضه سابقا (مضحياً بأرواح الآخرين) ورفضناه نحن أيضاً.
وهكذا، فان بن أستطاع أن ينجو من هذه الليلة بفضل أنانية
وتفاهة هاري، التي كانت لها تبريراتها المنطقية، وبعدم صحة الإيمان
بالليبرالية، أو المشاركة، أو التعاون الإنساني.
ننتقل من ليلة القديس " والبورجا " هذه إلى نهار اليوم التالي
حيث تعرض الكاميرا من الهيلوكبتر لقطة عامة لمرج أخضر. في البدء يبدو
كما لو اننا نرى المزيد من الأموات الأحياء يعبرون الريف، ولكننا نكتشف
بأنهم جماعة من الناس يساعدون الشرطة في إقرار الأمن والنظام. يعبر
المحررون الريف ببطء، ويصوبون بنادقهم إلى رأس كل ميت حي باق. ومع ذلك،
لسبب ما، فان ظهور المحررين لا يبدو انه يثير ارتياحنا، بالشكل الذي
كنا نتوقعه: فهم يطلقون دعابات جافة، ومزعجة تماماً: " فينس ، هناك
شخص يتنزه ". وهم يواصلون مهمتهم، بإيقاع بطيء، يبدون فيه كالأموات
الأحياء.. وفي الواقع هم كذلك، لأنه حين يسمعهم بطلنا يخرج راكضاً
متهللاً، لينضم إلى العالم الذي استعاد هيئته الطبيعية، فان الرجال
يقتلونه ظناً منهم انه أحد الأموات الأحياء.
المشهد الأخير هو عبارة عن لقطة لجثة بن وهي ترمى على كومة من
الجثث وتحرق. وهكذا، فالعالم مليء بالأموات الأحياء حتى بدون وجود ليلة
الأموات الأحياء.
يمكن مقارنة عدمية جورج روميرو، وهو مخرج فيلم (ليلة الأموات
الأحياء) بعدمية يوجين يونيسكو: لا شيء يبقى، أو له قيمة: الليبرالية،
الأخوة، العائلة، الحب، الاستقامة، الإيمان.. ولا حتى البطولة.
فيلم (ليلة الأموات الأحياء) هو بالتأكيد أكثر أفلام الرعب
سوداوية، والمجردة من أدنى بصيص أمل، وهو يعكس اليأس الضمني الذي ميز
الغليان الاجتماعي، والاغتيالات، والعنف غير المبرر في الستينيات. أما
بالنسبة لروميرو، فان اليأس التام هي الحقيقة الوحيدة.
إن كان رعب الهرمجدون يبدو، بشكل ما، محدوداً، أو عابراً، فان
النجاح الملحوظ لفيلم (الفك المفترس) لابد انه دحض هذه الفكرة. فقد
استطاع فيلم (الفك المفترس) الذي عرض في عام
1975
، أن يحقق أرباحاً خيالية جداً، إذ حقق في أقل من أربعة شهور ما حققته
أفلام مثل صوت الموسيقى، ذهب مع الريح، الأب الروحي، وطارد الأرواح
الشريرة.
ان فيلم (الفك المفترس)
JAWS
، بطرحه تقاليد شاملة، ومختلفة، عن الأفلام الأخرى،
يمثل انعطافا جديداً سيحفظ، بلا شك، تواصل أفلام رعب الهرمجدون لسنوات
طويلة.
رواية (الفك المفترس) ، التي حققت رواجاً كبيراً، كتبها بيتر
بينتشلي، وحولها المخرج ستيفن سبيلبرغ للسينما، الذي كان وقتها جديداً
على هذه المهنة .. فقد أخرج من قبل فيلم (شوغرلاند أكسبريس) الذي لقي
نقداً مشجعاً، ولكن لم يحقق نجاحاً تجارياً، وكذلك أخرج الفيلم
التلفزيوني (مبارزة) ، وهو فيلم قريب الصلة إلى أفلام رعب الهرمجدون،
إن لم يكن فرداً من العائلة، إذ يحكي الفيلم عن مبارزة سيكولوجية بين
سائق سيارة صغيرة (دينس ويفر) وشاحنة زنتها عشرة أطنان تطارده على
الطريق العام .
ولأننا لا نرى وجه سائق الشاحنة، طوال الفيلم، فان الشاحنة
تتحول إلى رمز للرعب الوجودي.
فيلم (الفك المفترس) يعالج موضوع هجوم سمك قرش عنيف على منتجع
مدينة نيو إنجلاند. وسبيلبرغ يحول، كما في فيلم (مبارزة) ، سمك القرش
المتوحش إلى رمز للرعب الوجودي بعدم إظهار سمك القرش فعلياً حتى مضي
ثلث الفيلم تقريباً. وحين يظهر سمك القرش أخيراً (في نموذج ميكانيكي
مقنع وبارع) ، كان رعب المتفرجين غامراً جداً. فنتيجة للاحتفاظ بالوحش
المرعب فقد لقي ظهوره صراخاً عنيفاً من قبل المتفرجين.
لم يحدث منذ (سايكو) في عام
1960
و (الطيور) في
1962
ان استطاع فيلم أن يتلاعب بالجمهور، بنقله من رعشات الرعب إلى ذروة
الرعب، كما حدث في فيلم (الفك المفترس).
المشهد الأول في الفيلم يظهر مجموعة من الناس متحلقين حول
النار مما يعطينا إيحاءً فورياً بأصول الإنسان البدائية والقبلية. نرى
شاباً يطارد فتاة باتجاه الشاطيء في طقوس جنسية سرمدية غريبة. ان
التأكيد هنا على بدائية الإنسان، وعلى حاجاته الأساسية، يجعل المتفرج
مهيئاً للرعب القادم، لأكثر مخاوف الإنسان بدائية: الخوف من ان يُفترس.
عندما يهاجم سمك القرش الفتاة يتمازج الصراخ ويصبح مبهماً:
صراخ الحب، الصراخ الطفولي، صراخ الخوف.
ينقلنا سبيلبرغ من هذا المشهد الليلي إلى مشهد المنتجع في
اليوم التالي: مكان عصري، نظيف، ساطع دائماً، تظهرها لقطات الكاميرا
الجميلة.
بالتأكيد لا يمكن أن نتوقع أن تكون هذه قصة مرعبة: فاسم
المدينة " أميتي "، والوقت هو عطلة نهاية الأسبوع الأول من يوليو- وقت
الاستمتاع والانطلاق ، وليس الخوف - مع ذلك، يواصل سمك القرش هجومه.
حينما يهاجم سمك القرش شاباً صغيراً، وتقع المدينة فريسة للرعب
من جديد، يحرك سبيلبرغ الكاميرا، بشكل سريع، من مكان إلى مكان آخر،
مركزاً على بطله روي شيدر.
شيدر يندفع إلى الماء مغيراً وجهة نظره، ومجبراً على التدخل،
وهذا ينبيء بأن شيدر سيكون في المشهد الأخير من الفيلم بعيداً في أعماق
البحر (مع إنه كان دائماً يكره الماء) ، يصارع سمك القرش المتوحش،
وسيكون إلى أعلى عنقه في الماء في معمودية حقيقية.
يبدو شيدر هنا مثل تيبي هيدرن في (الطيور) ، التي أجبرت على
الاعتراف برعب الحياة ، وعلى التخلي عن رضاها الذاتي.
في بداية (الفك المفترس) يعترف شيدر بأنه جاء إلى " أميتي "
هرباً من رعب مدينة نيويورك، وما بها من معدلات الجريمة الهائلة. لكنه
لم يتحرر من مخاوفه إلا بعد أن جرب وأعترف بشمولية التوازن المضطرب
للواقع الإنساني.
في اللقطة الأخيرة، حينما يفترس سمك القرش كوينت (على ما يظهر
في عضتين مختلفتين) نرى شيدر يسبح فرحاً إلى الشاطيء يحمل تقديراً
جديداً للعالم، وللجنس البشري، و للبحر. " كنت أكره البحر، ولا أستطيع
أن أتخيل السبب " .
إننا لا نندهش حين نجد تشابهاً شاملاً بين هذا الفيلم وبين
فيلم (الطيور) ، فكلا الفيلمين يعالجان موضوع منتجع هاديء، ورائع، يقع
فجأة تحت تهديد مرعب من قبل هجمات، لا مبرر لها، من الحيوانات. ومثلما
لم تستطع الطيور أبداً أن تثقب بوصة واحدة من الخشب، فان سمك القرش لم
يستطع أيضاً ابتلاع الضحايا بالكامل.
يتشابه حصار الطيور لمدينة بوديغا باي، بشكل عام، ولمنزل رود
تايلور، بشكل خاص، مع حصار سمك القرش لمدينة أميتي، بشكل عام ،
وللسفينة " أوركا " بشكل خاص. في الواقع، نصف أحداث الفيلم تقريباً
تجرى في البحر، على سطح السفينة أوركا، المصابة برهاب الاحتجاز،
وبهجمات سمك القرش الضاري.
التقليد الوحيد الذي لم يتبعه (الفك المفترس) هو تكاثر الرعب..
فهو يستخدم سمكة واحدة بدلاً من جيش من أسماك القرش.
نتعرف على كوينت، قاتل سمك القرش المحترف (أدى دوره روبرت شو)
وذلك عن طريق واحدة من تلك اللمسات الرائعة التي كانت تسمى باللمسات
الهتشكوكية، والتي من المحتمل أن تسمى، في وقت قريب، باللمسات
السبيلبرغية: فالصوت المرعب لخدش الأظافر على السبورة هو بالتأكيد
واحدٌ من أكثر الأصوات رعباً.
ان رسم كوينت الصريح لسمك قرش وهو يفترس إنساناً ينذر بموته هو
. لكن ما هو أكثر أهمية في الفيلم هي القصة التي يرويها كوينت على ظهر
السفينة " أوركا" عن تجربته خلال فترة الحرب في يومي
30/29
يونيو
1945
. ففي يوم التاسع والعشرين كان كوينت على ظهر الغواصة الأمريكية "
أنديانا بولس " والتي كانت في رحلة من سان فرانسيسكو إلى تينيان في
الباسفيك لتسليم القنبلة الذرية. في الثلاثين من يوليو أنهت الغواصة
مهمتها واتجهت إلى الفلبين، لكنها دمرت فجأة بثلاثة طوربيدات أطلقتها
الغواصة اليابانية(
1-58) حاول البحارة، الذين يقدر عددهم ب
1169
رجلاً ، النجاة من الموت بالسباحة في البحر، لكن دماء الجرحى والموتى
جذبت مجموعة كبيرة من أسماك القرش. وبعد خمسة أيام مليئة بالقلق والرعب
بدأ الرجال يختفون في أعماق البحر.
أما كوينت، وبقية الرجال، فقد تم إنقاذهم. المحصلة النهائية
كانت مقتل خمسمائة شخص، معظمهم افترستهم أسماك القرش في البحر.
المتابع لأفلام رعب الهرمجدون لا يندهش من هذه الإيحاءات
الظاهرية غير المبررة لإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي.
فالرعب، مهما كان مصدره (الطيور، الجراد، سمك القرش أو رودان) ، فانه
دائما يتصل، بطريقة ما، بالقنبلة الذرية.
في (الفك المفترس) مشهد شبيه بأفلام الرعب اليابانية: فسمك
القرش يشبه غودزيللا في غريزته، اننا أول ما نسمع قصة كوينت نعرف بأنه
سيموت، وان سمك القرش بالتأكيد سيعود لإنهاء مهمته التي لم تنفذ في ذلك
اليوم من عام
1945
في الباسفيك، وبأن سمك القرش لن يهزم إلا بعد أن يعاقب كوينت ويفترسه
(هل بسبب دوره في نقل القنبلة الذرية ؟) .
بغض النظر عن ظاهرة (الفك المفترس) الملفتة للانتباه، لابد أن
نشير هنا إلى أن رعب الهرمجدون أثر على نوع آخر من الأفلام، التي عادت
للظهور بقوة في السبعينيات، أعني أفلام الكوارث، مثل المطار، مغامرة
السفينة بوسيدون، مطار
75
، الجحيم الشاهق، الزلزال ، القوة الماحقة ، الموجة المدية ( تحوير
أمريكي للفيلم الياباني دمار طوكيو ) .. كل هذه الأفلام تعالج نفس
موضوعات الصراع اللانهائي. الاختلاف الرئيسي بالطبع هو ان الرعب غير
المميز في أفلام الكوارث ليس رعباً تكاثرياً، ولكنه رعب شامل - كالنار
والماء والزلزال .. الخ - لكن أهم اختلاف هو الاختلاف الفلسفي: ففي
حين نجد ان الرعب في (مغامرة السفينة بوسيدون) هو شبيه برعب الطيور،
إلا ان محصلة الفيلم ومضمونه يؤكدان على معاني الخلاص، وعلى الإيمان
الثابت في أسس الارتقاء الإنساني بدلاً من الرعب الوجودي. وهكذا، أصبحت
أفلام الكوارث انعكاسا بطولياً لأفلام رعب الهرمجدون.
الاستثناء المهم هو بالطبع فيلم (الزلزال) الذي ينتهي نهاية
سوداوية حيث تدمر مدينة لوس أنجلوس بينما البطل الأمريكي تشارلتون
هيستون، والبطلة الأمريكية الجملة آفا غاردنر، يلقيان قدرهما المرعب
غرقاً في بلاعة. وهذا ما جعل الفيلم يصبح نسخة من أفلام رعب الهرمجدون.
ان أفلام رعب الهرمجدون، والتي أهملت طويلاً، تطرح، برؤاها
الوجودية، مفهوم النظرة العالمية بتماسك وتحد، كما يعبر عنها أي مؤلف
آخر، وهي نتيجة لصلتها بالمسرح الطليعي، ومسرح العبث، ولنجاحها التجاري
الكبير، فقد أصبحت تعرض فهماً مميزاً معاصراً للجانب العنيف في مخاوفنا
اليومية.
أوراق سينمائية (نادي البحرين
للسينما) في 1 يوليو 1985
المصدر:
الأحلام السوداء – تشارلس ديري- دار نشر بارنز - 1977
هوامش:
1-
الهرمجدون : كلمة عبرية تعني " جبل مجدو " ، أي المكان الذي ستقع فيه
المعركة الفاصلة بين قوى الشر المؤلفة من يأجوج ومأجوج وكل الأرواح الشريرة
بقيادة إبليس، وبين القوى السماوية المدعومة من الله. والهرمجدون اسم مرتبط
باسم " مجدو " الذي يقع في مرج ابن عامر على الطريق بين مصر ودمشق، وقد
شهدت هذه البقعة كبريات المعارك منذ بدء العالم حتى أيام نابليون بونابرت،
فيها هزم باراق ودبوره سيسرا ومركباته ، ومات أخزيا بسيف ياهو، ومات يوشيا
في المعركة مع فرعون نخو. ويقول المفسر جنكل ان كلمة " مجدو " ترجع إلى
القصة البابلية القديمة عن الصراع بين الخالق مردوخ وبين تيامات قوة الفوضى
الشريرة . أنظر:
1-
الكتاب المقدس - العهد الجديد - رؤيا يوحنا:6:15
-
اتحاد جمعيات الكتاب المقدس -
1978.
2
- سفر الرؤيا - الإصحاح السادس عشر - باب (الرعب السماوي - دار الثقافة
المسيحية - القاهرة
1969
(المترجم).
2-
يوجين يونيسكو :(دور الكاتب المسرحي) لندن أوبزرفر -
29
يونيو
1958
3-
ج . ل . ستيان : الملهاة السوداء ( كامبردج، انجلترا، مطبعة جامعة كامبردج
،
1962
.
|