يعود
المخرج الهندي المعروف ستياجيت راي، المصاب بمرض في القلب لأكثر من خمس
سنوات، إلى عالم السينما، بفيلمه السادس والعشرين ، وبفيلمه الأول
المأخوذ عن مسرحية " عدو الشعب " للكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن.
ومن المتوقع أن يعرض الفيلم، الذي يحمل عنوان
Ganashatru
بالبنغالية، لأول مرة في مهرجان كان السينمائي، في حين أن الموزعين في
بريطانيا وفرنسا قد تعاقدوا مسبقاً على توزيع الفيلم. إلا أن الفيلم لن
يعرض في كلكتا، وذلك نتيجة تحفظ ستياجيت راي على صالات العرض غير
المكيفة في المدينة، خاصة في أشهر الصيف الخانق. في هذا الصدد يقول
راي: " ان المراوح تطن طوال الوقت، وتغطي على صوت الفيلم ".
وحول
اختياره لمسرحية إبسن يقول راي، مسترخياً في شقته بمدينة كلكتا، في
ليلة بنغالية حارة: " ان السبب وراء اختياري لمسرحية، لأول مرة في
حياتي الفنية، هو انني لم اعد أعمل فيلماً، منذ خمس سنوات، نتيجة
للمرض، ولأن الأطباء وافقوا أن أعود للعمل في السينما شريطة أن أعمل في
الاستديو فقط، وليس في مواقع التصوير، هذا الالتزام جعلني أفكر في
المسرح.
كنت قد
قرأت إبسن وأنا طالب في الكلية، وتذكرت مسرحيته "عدو الشعب" ، وقررت أن
أعيد قراءتها مرة ثانية، واكتشفت انه بالإمكان عصرنة المسرحية، وإعادة
كتابتها بالبنغالية، وتحويلها إلى قصة هندية بحتة، تناسب الزمن الذي
نعيشه، لذا قررت أن أستعين بإبسن. بدأت العمل، كتبت السيناريو، ثم
أجريت تعديلاً فيه، وأعدت كتابته ثلاث أو أربع مرات، حتى اكتمل، واصبح
جاهزاً للإخراج.
كتب
إبسن مسرحيته، ذات الفصول الخمسة، في عام 1882 وتحكي قصة توماس
ستوكمان، الطبيب النرويجي الذي ينتقد المصالح الخاصة، ويحذر بأن مياه
الحمامات في المدينة ملوّثة بالنفايات الصناعية، مما أثار الحنق عليه،
حتى من قبل الليبراليين، الذين أصابهم القلق على مصالحهم الاقتصادية،
وتجري المحاولات لإسكاته، ويدفعون به إلى العزلة، حتى يتحول صاحب
المباديء إلى عدو الشعب.
ويعتقد
ان هذه المسرحية كانت رداً حاسماً وسريعاً من إبسن على موقف المجتمع
النرويجي السلبي تجاه مسرحيته السابقة "الأشباح" ، لذا فقد صوّر في
"عدو الشعب" نفاق الطبقة الوسطى، وسهولة تحوّل نظرتها المثالية تجاه
المجتمع.
يقول
ستياجيت راي، الذي أعطى دور الطبيب "غوبتا" (ستوكمان البنغالي) إلى
ممثله المفضل سوميترا جاترجي، بأنه لم يصادف أية عقبات أثناء إخراج
الفيلم، وبأن صحته كانت تبدو في تحسن أثناء العمل.
هذا
المخرج الذي أصبح على وشك أن يؤله من قبل مواطني كلكتا، والذين يكنّون
احتراماً عظيماً للفنانين، ويتهافتون على شراء أشرطة تحمل صوت راي،
أصبحت مسألة صحته موضع اهتمام كبير من المواطنين.
يقول
راي، الذي يرتدي قميصاً قطنياً أبيض وبنطالاً بنغالياً يطلق عليه
"البيجامة البنغالية" ، انه يشعر بألفة شديدة مع مواطني كلكتا وانه لا
يرغب في العمل في أي مكان آخر.
تتدافع
أصوات المدينة، عبر النوافذ الكبيرة المفتوحة، إلى داخل حجرته الكبيرة،
ذات السقف العالي، المتكدسة بالأوراق والكتب. أما شقته القديمة،
الأنيقة، فقد استحدثت بمصعد وضع في الصالة لتوفر على راي، الذي خضع
لعملية جراحية نتيجة انسداد الشريان التاجي، مشقة صعود السلم المرتفع.
يقول
راي عن فيلمه
Ganashatru
: "كل شيء تم تصميمه داخل الاستديو في كلكتا، وقد حددنا لهذا الفيلم،
الذي مدته حوالي مائة دقيقة، جدولاً زمنياً يستغرق 45 يوماً لتنفيذه،
ولكننا استطعنا الانتهاء منه في 28 يوماً، لقد عملنا بسرعة مذهلة، خاصة
وأن لدي طاقماً من الممثلين الرائعين.
في الاستديو كان الطبيب مع سيارة إسعاف على أهبة الاستعداد، وكان طبيب
العائلة، وأخصائي أمراض القلب، يزوراننا بين الفينة والأخرى، لقد كانوا
مهتمين لأن القصة كانت عن طبيب، فإضافة إلى ضغط دمي والنبض، كانوا
مهتمين بأحداث الفيلم، وكيف سيتصرف الطبيب في مثل هذه الظروف ".
يضيف
راي بضحكة خافتة: "كان قرارهم أن صحتي تتحسن أثناء العمل، وقد يكون هذا
التحسن ناتجاً عن تعاطي عقار الأدرينالين، أو لأي سبب آخر، وأخبروني
بأنه يتوجب عليّ إخراج فيلم واحد فقط في العام، وبأنني استطيع في فيلمي
القادم أن أضيف بعض المشاهد الخارجية" .
يقول
راي عن ترجمته للمسرحية: "انها اقتباس حر لإبسن" وأن "الناس سيتعرفون
على إبسن، لقد حافظنا على أجوائه وبنائه للمسرحية، ولكن على الرغم من
ذلك، كان عليّ أن أجري التغييرات، كان لزاماً عليّ أن أجري التغييرات،
فسلوك الناس يختلف من مكان لآخر".
يقول
راي بأنه أخذ يسحب شيئاً فشيئاً التأصل المسرحي في هذا العمل الدرامي،
وأنه أعطى القصة بعداً سينمائياً، وذلك بالابتعاد عن خشبة المسرح، وهذا
استدعى إجراء تغييرات إضافية على عمل إبسن.
"هناك
الكثير من الكلام، والمداخل، والمخارج، في الفصل الأول، حاولت تحويل كل
هذا إلى مشاهد سينمائية، بقدر المستطاع، وتدريجياً مع تطور القصة، بدأ
العمل ينتقل شيئاً فشيئاً من إبسن إلى لغة سينمائية، خاصة في مشهد
الاجتماع الجماهيري في الفيلم، الذي يختلف كثيراً عن المشهد ذاته في
المسرحية. لقد كان مشهداً حركياً، وحراً، استفدت فيه كثيراً من
انسيابية حركة الكاميرا، والقطع، وغير ذلك، بعيداً عن الإفراط في
الحوار".
يقول
راي أنه يدرك ان لمسرحية إبسن إسقاطا معاصراً في الهند، مثلما في
الخارج، وإضافة إلى كون الفيلم يعبر عن وجهة نظر هندية، فإنه يتطرق إلى
مشاكل موضوعية، ويضيف: "ان التلوث لا يزال مشكلة، مثلما كان قبل مئات
السنين، بل أكثر من ذلك، أكثر بكثير من ذلك ".
"هناك
اهتمام كبير بالفيلم في الخارج، ربما بسبب إبسن، إضافة إلى أن أرثر
ميلر له عمل مسرحي مستوحى من إبسن، ويعرض حالياً بنجاح كبير في لندن،
لكنني واثق أن هناك أسباباً أخرى لهذا الاهتمام بالفيلم ".
فيلم
راي السابق "البيت والعالم"
Ghare Baire
المأخوذ عن قصة لرابندراناث طاغور، عرض أيضاً خارج الهند قبل أن يعرض
في كلكتا. ولكن راي، الذي يحظى بمكانة دولية مرموقة لم يصل إليها كثير
من المخرجين الهنود- البنغاليين، أو غيرهم – ينتقد بحدة الهجوم الذي
يشنه بعض النقاد الهنود عليه، ويتهمونه أنه يصنع أفلاماً من أجل
المتفرج الغربي.
يقول
راي: "أنا دائماً أخرج أفلاماً للمشاهد الهندي في المقام الأول، ولم
أعرف أبداً أي نوع من الأفلام يصلح للتوزيع خارجاً، ولم أتمكن من سبر
غور الأشياء التي تلقى قبولاً جيداً لدى المتفرج الغربي، لقد أنجزت
فيلم "صالون الموسيقى"
Jalsagher
معتقداً انه فيلم هندي جداً، وذلك لوجود الكثير من الغناء الكلاسيكي
الهندي، والرقص، والموسيقى، وكانت قصة الفيلم تحكي عن مشاكل هندية
بحتة، واعتقدت ان هذا الفيلم لن يلقى نجاحاً في الخارج، لكنه لاقى
استحساناً كبيراً عند عرضه في الخارج، ويعد الآن "من أكثر أفلامي شعبية
في فرنسا، ويعتبر واحداً من الأفلام العظيمة في تاريخ السينما" .
يقول
ضاحكاً من أعماقه: "أنا لا افهمهم، فيلمي الأول "أغنية
الطريق"Pather
Panchali
(1955) استقبل بنجاح كبير في كلكتا، حتى قبل أن يحصل على جائزة في
مهرجان كان، ليس صحيحاً ما يقوله الناس من ان نجاحي في الخارج أعطاني
أخيراً موطيء قدم هنا، هذا غير صحيح على الإطلاق، كنت دائماً أخرج
الأفلام وفي ذهني المتفرج الهندي، وفي الواقع واجهت مراراً صعوبات جمة
في ترجمة الحوار، لأنه كان هندياً جداً، أو بنغالياً جداً، لو انني
فكرت في المتفرج الغربي أولاً، لكان لزاماً عليّ أن أفكر في أفلام
مختلفة".
يقول
راي ان ارتباطه الوثيق بولاية البنغال قاده إلى رفض الكثير من العروض
لإخراج أفلام أجنبية: "كان بإمكاني أن أخرج أفلاماً في هوليوود، فلقد
تلقيت عروضاً كثيرة، لكنني رفضتها لأنني لا أملك جذوراً هناك، أريد
لجذوري أن تكون حيث المكان الذي أعمل فيه. أنا متجذر بعمق هنا، ومهتم
فقط بالموضوعات الهندية".
يشعر
ستياجيت راي بامتنان لنجاحه في الخارج، على الرغم من المساحة الضئيلة
نسبياً – قياساً بالمستوي الهندي – للسوق البنغالية، وعلى الرغم من
الحظر المفروض على الأفلام الهندية في بنغلاديش، التي تتحدث البنغالية.
يقول راي: " السوق العالمية ساعدتني على البقاء كمخرج أفلام" .
الأيام البحرينية في 13 سبتمبر 1989
|