عادة
ما يقاس نجاح أي فيلم بجماهيريته، وبالاهتمام الذي يثيره. وعلى هذا
الأساس فأن فيلم " سلاماً يا بومباي " حقق نجاحاً عالمياً هائلاً. فقد
حاز على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان (كان) الدولي، وحظي بتقدير
المتفرجين، في أمريكا الشمالية وأوروبا.
لا
يرتبط نجاح فيلم " سلاماً يا بومباي " بضجيج صناعة السينما، ولا
باستحسان المنتجين، وإنما يرتبط أساساً بواقع تنفيذ وإنتاج الفيلم بشكل
عام.
عملية
ولادة وإنتاج الفيلم، أثبتت بأن القرار السليم، والتعاطف، والإتقان، هي
وصفة ناجعة لخلق معنى للحياة وللفن.
فيلم "
سلاما يا بومباي "، من وجهة نظر العاملين في حقل التنمية العالمية،
وبرامج مساعدة أطفال الشوارع، أعطى الكثير من الدروس، ليس لأن الفيلم "
هز الوعي " لدى ملايين الناس، الذين نادراً ما كانوا يعيرون أي التفات
للأطفال المحرومين من متعة الطفولة، بل لأن الفيلم استخدم أيضاً أطفال
الشوارع أنفسهم في الإبداع والتعبير عن الهدف. إضافة إلى ذلك، فأن "
سلاماً يا بومبـاي " حقق حالة من " الاكتفاء الذاتي والاستمرارية " ،
وخصص جزءاً من أرباح الفيلم لتعضيد مشروع يقام في بومباي لمساعدة أطفال
الشوارع، لإيجاد مكان يجمعهم ويحفزهم على الإبداع.
تقول
ميرا ناير، مخرجة الفيلم: " كلهم قالوا انها مهمة مستحيلة .. قالوا من
المستحيل تصوير الممثلين في منطقة الضوء الأحمر حيث تنتشر المواخير.
وقالوا من المستحيل تصوير أطفال يدخنون الحشيش في مقبرة للمسلمين.
وقالوا من المستحيل تصوير محطات القطار في بومباي. وقالوا من المستحيل
تصوير فيلم كامل يقوم بتمثيله أطفال أميين من الشارع. وقالوا إذا
صوّرنا في ماخور فاننا سنتعرض للابتزاز من قبل المومسات. وقالوا من
السخف مجرد التفكير في التصوير بكاميرتى
35
م.م
محمولتين باليد في مهرجان (غانباتي) الحاشد .. لقد سمعتُ كلمة مستحيل
كثيراً في ذلك الصيف في بومباي " .
يحكي
الفيلم قصة الصبي " كريشنا " ، الذي بعد أن يُفصل من عمله في السيرك،
يشتري تذكرة قطار إلى اقرب مدينة كبيرة، فيجد نفسه في شوارع بومباي.
هناك، يجد وظيفة يسلم فيها أكواب الشاي مع الخبز للزبائن، ويشارك
أطفالاً آخرين مثله الحياة في الشوارع. ويأمل في أن يتمكن من جمع
خمسمائة روبية (
50
دولاراً أمريكياً) ليعود إلى بيته / حلمه. ومن أجل هذا الأمل فأن حياته
ترتبط بمروج مخدرات يدعى " شيلوم"، في الخامسة والعشرين من عمره، و "
بابا " ملك المخدرات في المنطقة ، و " ريكا " المومس الخنوعة مع
طفلتها "مانجو " التي تبلغ الثامنة من عمرها، و"سولاسال" (إي ذات
الستة عشر عاماً) وهي فتاة نيبالية، عذراء، تباع كمومس.
فيلم "
سلاماً يا بومباي " يوحد الجانب الدرامي القوي في الأفلام الروائية،
بواقعية الأفلام الوثائقية. أما السيناريو، الذي كتبته سوني
تارابوريفالا - وهي من مواليد بومباي - فقد نفذّ أثناء التصوير. مواقع
التصوير كلها حقيقية تماماً، مما أضفت لمسة واقعية جريئة على القصة.
لذا فحين يكون المشهد حساساً، يتجنب الفيلم الجوانب العاطفية، وحين
يكون المشهد تراجيدياً، فانه لا ينحدر إلى الوحشية الخيالية. أما
الشخصيات فقد تحوّلت إلى أناس حقيقيين يعيشون حياة صعبة حقيقية، وأصبح
الممثلون كما لو أنهم يعيشون حياة واقعية.
في
إحدى اللقطات المؤثرة في الفيلم نرى " ريكا " تذهب للمطالبة بابنتها من
إصلاحية الأحداث، فيخبرونها بأن المحكمة قررت إبقاء " مانجو " تحت
الحجز القضائي، لأن الإصلاحية ستكون مكاناً أفضل من العيش في مبغى مع "ريكا"
.
فتقول " ريكا " : (هي كل ما لدي في هذا العالم .. هي ابنتي، كيف يمكن
للدولة أن تكون أماً لها ؟).
ومن
اللقطات التي تعبّر عن كرامة الشخصيات، بشكل واضح، مشهد موت "شيلوم " ،
من جرا تعاطيه جرعة مفرطة من المخدرات، حيث نرى "كريشنا " مع أصدقائه،
يعدّون جثته للحرق، ويطوفون بالنعش، المكلل بالأزهار، عبر الشوارع،
مبتهلين باسم الله.
امتدت
ورشة عمل الممثلين، التي ساعدت على تنفيذ الفيلم، مدة ستة أسابيع فقط.
في الأسبوعين الأولين تم اختيار
130
طفلاً لحضور ورشة العمل، ومن ثم قلص باري جون، مدير الورشة، العدد إلى
19
طفلاً. وبدأت مرحلة الانضباط الصارم. كانت أوقات الورشة محددة بستة
أيام في الأسبوع، وبثماني ساعات في اليوم. وقد حددت، في البداية، غرامة
تأخير قدرها خمس روبيات. ومع أن هؤلاء الأطفال، لا يحملون معهم أي
ساعات، وبعضهم يقطع مسافات طويلة، إلا انهم كانوا يبدأون العمل مبكرين.
تقول
ناير: " لقد كان جلياً بأن الأطفال، بكل عنادهم وخشونتهم، لم يكن لديهم
أبداً أي مكان يلتجئون إليه طوال حياتهم، وقد لاقى هذا الاهتمام
الجديد بهم، بصفتهم مخلوقات بشرية، الكثير من الفرح .. كنا نناقش معهم
أوضاعهم الحياتية أثناء الاختبارات التمثيلية، والحركات، والرقص، مما
جعلهم يرتجلون الحوار في اللقطات التي كانت قريبة إلى نفوسهم. ان أسلوب
المشاركة هذا جعل الأطفال يبدعون بأنفسهم".
كانت
ميرا ناير تدرك تماماً بأنها لا تستطيع إصلاح الأطفال، أو هدايتهم إلى
الطريق الصحيح، لكنها ساعدت الأطفال بفتح حساب مصرفي لهم، وبينت لهم
كيفية الصرف، ووضعت مبلغاً سخياً من أجورهم كوديعة ثابتة .. كما أخبرت
الأطفال، صراحة، بأنها لا تستطيع أن تكون أماً لهم إلى الأبد.
تقول
ناير: " لسنا ليبراليين مصابين بعقدة الذنب " . وتضيف ناير، التي
أطلقوا عليها اسم (كاشو ديدي) أي الأخت القاسية: " كنا هناك من أجل هدف
معين، ومهمة معينة، لقد أخبرناهم بأن عليهم الانضمام إلينا، أو التخلي
عنا، وعليهم أن يحددوا ذلك الآن " .
ان
تجربة العمل، في هذا الفيلم، خلقت لدى الأطفال شعوراً بالأهمية
الذاتية، والإحساس بالكرامة الشخصية، فقد استطاع بعضهم أن يفلت من أسر
الماضي، كما في حالة " نيدو " البالغ من العمر
17
عاماً، والذي قرر العودة إلى أمه وأخته اللتين تعيشان في مدينة نائية،
وعاد معهما ثانية إلى بومباي ليريهما معالم المدينة. "سارفودين " (12
عاماً) الذي
هرب من البيت لأن والده ضربه، بعد أن رأي معه تمثالاً منحوتاً لغانيش،
الإله الفيل، أصبح يعلم الأطفال المكفوفين كيفية الاستفادة من الرموز
الدينية في النحــت. "هانسا " (
8
سنوات) ، والتي أدت دور " مانجو " في الفيلم، حصلت على عقد لتمثيل فيلم
آخر. طفل آخر أصبح الآن يدير وكراً للقمار. وآخر يكسب رزقه بعرض
بالونات صيد على الشاطئ. أما "شفيق سيد" الذي أدى دور " كريشنا" فقد
التحق بمدرسة ثم ما لبث أن تركها.
تقول
ناير: " انه ولد من الشارع بكل جوارحه، ويود البقاء على هذه الحال ..
لذا فهناك بعض القصص الناجحة وأخرى غير ناجحة تماماً .. لكن النضال
سيستمر من أجلهم، وسنحاول أن نكون على اتصال بهم جميعاً " .
الأيام البحرينية في 22 مايو 1989
المصدر:
Action for
Children, Volume 111, 1988
|