استطاعت الموسيقى، بفضل سطوتها الروحية على النفوس، أن تمتزج بالفنون
الأخرى كالشعر والرقص والفنون التشكيلية والسينما والمسرح، لتصبح وسيلة
مهمة من وسائل التعبير، ومادة أساسية في خلق الأجواء الملائمة للتفاعل
النفسي عند الجمهور تجاه الفن المقدم إليه. لذا نجد أن كثيراً من
الشعراء يلجأون إلى وضع خلفية موسيقية مناسبة أثناء تسجيل قصائدهم، كما
أن للموسيقى فاعلية قوية في التعبير عن المواقف الدرامية في المسرح،
ويندر أن تجد معرضاً للفنون التشكيلية أو للكتاب دون مراعاة للخلفية
الموسيقية الملائمة.
لكن
مع ذلك فإننا لن نجد فناً من الفنون استفاد من الموسيقى مثلما فعل الفن
السينمائي منذ تكوينه وحتى الآن، وربما ستبقى الموسيقى مستخدمة في
السينما طالما بقي هذا الفن.
ولا
أحد ينكر التأثير المباشر والقوى المستخدمة والقوى للموسيقى المستخدمة
في الأفلام على المتفرج، وأهمية هذه الموسيقى كعنصر أساسي في الفيلم
إلى جانب التصوير والديكور والماكياج والإضاءة، وغيرها من العناصر التي
تخلق لدى المتفرج حالة من الجو النفسي الذي يزيد من قابليته الوجدانية
في تلقيه الأحاسيس والانفعالات المختلفة التي تخلقها أحداث الفيلم.
إننا
لا نندهش حين ينفر المتفرج العادي الذي تعود على سماع الموسيقى في
الأفلام من مشاهدة الأفلام التسجيلية والوثائقية فهو يشعر انه سلب
الإحساس الذي اعتاده وهو تحرك الشاشة نحوه، أي يشعر انه سلب السحر
الحالم للصورة السينمائية التقليدية.
في
عام 1899 طلب الفرنسي أميل رينو بالمسرح البصري لمتحف جريفان من المؤلف
الموسيقي جاستون بولان وضع موسيقى خاصة مصاحبة لعروض الصور المتحركة،
وهذا ما دعا بولان إلى أن يضع مقطوعات موسيقية للبيانو تكون متناسقة مع
سير الأحداث يقوم العازف خلالها بالتتبع الدقيق لسير الصور.
وظلت
الأفلام الصامتة بعد ذلك يتم عرضها بمصاحبة عازف على البيانو أو
الاستعانة بالفونوغراف، وكان دور الموسيقى في تلك المرحلة متواضعاً
ومفيداً جداً، ليس فقط في إضفاء الصوت على ضوضاء أجهزة العرض
السينمائي، وإنما أيضاً لإبراز بعض التتابعات أو القضاء على السكون
وإقامة الخيط المتصل من وسط الصور غير المتصلة.
وفي
عام 1908 جرت محاولة تحسين هذه الصيغة عندما طلب إلى سان صانز أحد كبار
المؤلفين الموسيقيين الفرنسيين كتابة كراسة موسيقية خاصة بفيلم دوق دي
جيز لكنه رفض ذلك. ومع هذا فقد قام الكثير من الناشرين بإعداد منتخبات
موسيقية، وهي نوع من المقتطفات التي تضم بعض المقطوعات التصويرية أو
الوصفية الملائمة لجميع المواقف.
وفي
عام 1921 كتبت لأول مرة موسيقى من ماريوس فرانسوا جيار مطابقة تماماً
لزمن أحداث فيلم " أيلدورادو " للفرنسي مارسيل ليربييه، وبعد ذلك بوقت
قليل أعد أرتور هونيجير الموسيقى لفيلم " العجلة " لإبيل جانس.
وفي
عام 1924 وأثناء إعداد فيلم " استراحة بين الفصول " لرينيه كلير، جاء
المؤلف الموسيقي الفرنسي إريك ساتي بحل لمشكلة موسيقى الأفلام، فكتب
يقول: " الموسيقى يجب أن تبرز الصورة والحركة دون أن تأخذ هي أهمية
بارزة، ودون أن تفرض نفسها عن طريق الألحان الهارمونية القابلة
لاجتذاب المشاهدين وصرفهم عن الصور، ودورها يجب إذن أن يكون زخرفياً
صرفاً.
ومع
ظهور السينما الناطقة في عام 1927 أشيع استخدام الموسيقى في الأفلام،
وكانت صالات العرض بها مكان خاص لأوركسترا ضخم يصل إلى مكان العرض قبل
الوقت المحدد بفترة قصيرة، وكانت الإضاءة الخاصة بالنوتات الموسيقية
وحركة عصا قائد الأوركسترا أو ضبط أوتار الآلات الموسيقية كثيراً ما
تلفت أنظار المتفرجين، ولكن مع ذلك كان دور الموسيقى غير محدد وواضح،
وعن ذلك كتب موريس جويير، واضع الموسيقى الخاصة بأفلام " 14 يوليو " و
" وآخر أصحاب الملايين " لرينيه كلير، في تحديده لدور المؤلف الموسيقى:
لنذكر الموسيقيين بشيء من التواضع، فنحن لا نجيء إلى السينما لكي نستمع
إلى الموسيقى، بل إننا نطلب منها أن تعمق لدينا الانطباعية المرئية،
ونحن لا نطلب منها أن تكون معبرة وأن تضيف مشاعرها إلى مشاعر الشخوص أو
مخرجي الأفلام ولكن نطلب منها أن تكون زخرفية وأن تضيف زخارفها إلى تلك
التي تقدمها لنا الشاشة، وأخيراً أن تتخلص من كل العناصر الذاتية،
لتقدم لنا في نهاية الأمر، وبطريقة محسوسة، الإيقاع الداخلي للصورة دون
أن تترجم المحتوى العاطفي أو الدرامي أو الشاعري.
ان
ازدياد الاهتمام بالسينما وتطورها المتنامي أظهر الحاجة لوجود موسيقى
خاصة لكل فيلم، وظهرت مهنة مؤلف موسيقى الأفلام، وهذا أدى إلى جذب
العديد من مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية الحديثة مثل سيرغي بروكوفييف الذي
وضع موسيقى أفلام ايزنشتاين "إيفان الرهيب " و "الكسندر نيفسكي " ،
وديمتري شوستاكوفتش الذي عمل في السينما منذ عام 1924 ووضع موسيقى
لأفلام كثيرة منها " أرملر ويوتكوفتش في كونتربلان " ، وأسماء أخرى
كثيرة نذكر منها : أرنولد باكس ، آرثر بليس ، ويليام والتون ، فون
ويليامز ، ارون كوبلاند ، فرجل طومسون ، وليونارد برنستين.
ومعظم
أعمال هؤلاء كانت تقدم في الحفلات الموسيقية كأعمال كلاسيكية، مثل
السنفونيا لفون ويليامز من فيلم " اسكتلندي في القطب الجنوبي "
والبرليود والفوجه من فيلم "الأول من القليل " أو متتالية " في الواجهة
المائية " لليونارد برنستين من فيلم بنفس الاسم.
كما
أن أرنولد شونبرغ، أهم الأسماء في موسيقى القرن العشرين – ألف مقطوعة
"مشهد سينمائي" تخيل فيها انه يضع موسيقى لفيلم سينمائي.
واستغل المخرجون في وقتنا الحاضر إمكانات الموسيقى الكلاسيكية لإظهار
المواقف الدرامية أو التعبيرات الفنية في أفلامهم مثل استخدام موسيقى
انطونيو فيفالدي في فيلم "الأبناء الأشقياء " لكوكتو، وفيلم " الفصول
الأربعة " لألان ألدا المأخوذ عن عمل موسيقى بنفس الاسم لفيفالدي، أو
استخدام شتراوس وليغتي في " أوديسة الفضاء 2001 " لستانلي كوبيرك،
والاستخدام المدهش لموسيقى بيلا بارتوك في فيلم " اللمعان " لنفس
المخرج، كذلك نذكر استخدام برغمان لموسيقى باخ في فيلمه " الصمت ".
في
وقتنا الحاضر يعامل المؤلف الموسيقى كنجم، ويظهر اسمه في إعلانات
الأفلام بحجم اسم البطل، كما أن الكثير من المقطوعات الموسيقية التي
وضعت أساسا للأفلام صارت من كلاسيكيات الموسيقى الناعمة المنتشرة في
العالم، نذكر من ذلك موسيقى "أنشودة لارا " لموريس جار والتي ألفها
لفيلم " الدكتور زيفاغو " واختيرت في مهرجان برلين 1980 كأفضل عمل
موسيقي منذ أربعين سنة. والفالس البطيء لنفس الفيلم صار من المقطوعات
الشهيرة. كذلك الثيمة الرئيسية في فيلم " قصة حب " لفرانسيس لاي والذي
فاز بجائزة الأوسكار عن موسيقى الفيلم، وأيضاً الثيمة الرئيسية لفيلمي
" الأب الروحي " و " روميو وجولييت " لنينو روتا.
كما
أن المؤلفين الموسيقيين، حرصاً منهم على جودة الأداء الفني والتقنية
العالية، صاروا يستخدمون اوركسترات عالمية، خصوصاً أوركسترا لندن
السيمفوني كما حصل في أفلام مثل " حرب النجوم " ، " سوبرمان " ، "
دراكيولا " و " الإمبراطورية تعيد الضربة " و "غزاة القوس المفقود"
وكلها من تأليف جون ويليامز.
أخبار الخليج البحرينية في 8 أغسطس
1983
|