سينماء.. لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي

 «Hamartia»

«همارتيا» في الأفلام الدرامية

بقلم: تغريد العتيبي

 
 

كان لاستدلالات أرسطو في مجال الدراما الأثر الكبير في حفظ قوانين هذا الفن من الاندثار، ولو لم يفعل ذلك ويُضمّنها كتابه «فن الشعر» لضاعت أسرار عبقرية أسخيليوس وسوفوكوليس ويروبيدس وأرسطوفانيس في الكتابة الدرامية التي ألهبت مشاعر الأثينيين، وجعلتهم سادةَ هذا الفن، وشهد لهم العالم كله بذلك.

اسْتقرأ أرسطو النصوص الدرامية اليونانية التي سبقته، تفحَّصها، أطال النظر فيها، طالعها شكلًا ومضمونًا، شاهد أثرها عل جماهير الإغريق، وأحس بمشاعرهم ولامس عواطفهم، وفي عملية بحث مستمرة لسنوات اكتشف السرَّ المشترك لدى عظماء الكتاب في ذلك الوقت. إنها «المحاكاة»، رآهم يحاكون الواقع كما يمكن أن يحدث، وليس كما حدث، وشاهد البطل التراجيدي بخصائص محددة. أثبت أرسطو هذه «النتيجة» في كتابه على شكل نظرية يُمكن تعميمها، وفعلًا سار بها الدهر وعمّت أنحاء واسعة من الكرة الأرضية، وما زالت حية حتى هذه الساعة.

ويبرز في كتابه «فن الشعر» مصطلح Hamartia همارتيا، بوصفه واحدًا من أهم المصطلحات التي تحدّث عنها أرسطو بدقة فائقة ضمن سياق المحاكاة والدراما والحبكة والشخصيات، مدللًا على أهميته في العمل التراجيدي، ومن دونه لن يشعر الجمهور بالشفقة والخوف ومن ثم التطهير.

هذا المصطلح سيكون موضوع مقالة اليوم، تعريفًا ومفهومًا، انطلاقًا من أهمية كشف ملامح البطل الإغريقي جليًّا لكتّاب السيناريو والمؤسسات المعنية بالسينما، من حيث تصميم شخصية البطل بصورة يرفع فيها الكاتب درجة «المأساة» في عمله وفقًا لقاعدة «همارتيا». ذلك أن إشكالية النصوص الدرامية أيًّا كانت: سينما، مسرح، مسلسلات، لدى كثير من الكتّاب تتمحور حول أبطال باهتين، دون أخطاء مأساوية، وغير ملائمين، ولا تأثير لهم على الحضور بالشكل الذي يُحدِث الشفقة والخوف. وهي إشكالية لامستُها في أثناء عملي في تحكيم النصوص الدرامية في أكثر من موقع، ومن خلال اطّلاعي على كثير منها خلال مسيرتي الأكاديمية في مجال المسرح والسينما.

وتهدف هذه المقالة إلى تعزيز مهارة الكتّاب في تصميم البطل التراجيدي وفقًا لقاعدة «همارتيا» التي بسط فيها أرسطو القول في كتابه فن الشعر، بحيث يكتب المؤلف وفي ذهنه قواعد دقيقة تساعده على رسم شخصية البطل، وهذا أفضل من طريقة «الصواب والخطأ»، تلك الطريقة التي يتبعها البعض عندما لا يرون أمامهم منهجية علمية يسلكونها.

 

تعريف همارتيا Hamartia

يمثل مصطلح همارتيا واحدًا من أهم المصطلحات التي تَعرّضَ لها أرسطو في كتابه: «فن الشعر» بشيء من التفصيل، في سياق حديثه عن الحبكة والشخصيات، وهو أحد أهم العوامل التي قامت عليها المآسي اليونانية والمآسي التي جاءت بعدها، وهو مصطلح يتعلق بالبطل في النصوص الدرامية، ويعني به أرسطو ذلك «الخطأ المأساوي» غير المقصود الذي يقترفه البطل فيُحدِث مأساة تعصف بالأحداث، وتغير اتجاهها، وتقلبها رأسًا على عقب، ويطول أثرُ هذا الخطأ جمهورَ المشاهدين فيشعرون بالشفقة والخوف ويلهب عواطفهم.

يقول أرسطو: «ويبقى بعد هذا البطل الذي يقف بين هذين الطرفين، أي الشخص الذي ليس إلى الدرجة القصوى من الفضيلة والعدل الذي يتردى في الشقاوة والتعاسة لا بسبب رذيلة أو شر ولكن بسبب خطأ ما، أو سوء تقدير «همارتيا»»[1]. ويعرّف معجم المسرح مصطلح همارتيا بأنه «كلمة يونانية تعني الخطأ التاريخي. في التراجيديا اليونانية، يؤدي الخطأ في الحكم أو الجهل إلى كارثة»[2].

ويتجسد هذا الخطأ غير المقصود على سبيل المثال في قصة ثستس (Thyestes) الذي أكل لحمَ أبنائه في وليمة دون أن يعلم، «وتقول قصته بأنه ضاجع أيورب زوجة أخيه أتريوس، ولكي ينتقم الأخير من شقيقه، دعاه لوليمة بدعوى المصالحة والتراضي، وفي هذه الوليمة كان ثستس يأكل لحم أبنائه الصغار دون أن يعرف أن أخاه ذبحهم»[3].

وهمارتيا هنا أو الخطأ المأساوي يتعلق بشخصية البطل بشكل مباشر ضمن سياق البناء الدرامي ككل، والخطأ الذي يرتكبه البطل يؤثر على سير الأحداث، ويغير من علاقات الشخصيات الأخرى ضمن قوانين درامية أخرى، مثل: الضرورة والاحتمال والتعرف والانقلاب. وللمشاهد أن يتخيل ردة فعل ثستس بعد أن يعلم بأنه أكل لحم أبنائه الصغار بالخطأ، وله أن يتخيل حجم الانقلاب الذي سيحصل في الحكاية، والكم الهائل من المشاعر الذي تملَّكه حيالها، إنها وفق كثير من النقاد، واحدة من أكثر الأساطير دمويةً في التاريخ اليوناني.

وفصّل أرسطو في الخطأ المأساوي، وأتى بالاحتمالات الممكنة له، ووضعه مراتب: الأهم، والمهم، وأقل أهمية والنوع الأسوأ. لم يبتكرها، وإنما لاحظها في الأعمال الدرامية لدى الكتاب الذين سبقوه، جمعها ونظمها ثم ضمنها كتابه لمزيد من إتقان العمل الدرامي. يقول:

 قد يقترف الفاعل فعله عن وعي، وعن معرفة بالأشخاص الذين يقع عليهم الفعل...وقد فعل هذا يوروبيديس مع ميديا وهي تقتل طفليها... وقد يقترف الفاعل فعله المفزع، وهو يجهل علاقته بالأشخاص الذين يقع عليهم الفعل، ثم يكتشف بعد ذلك حقيقة هذه العلاقة... كما أن هناك نوعًا ثالثًا، وهو أن يكون الفاعل على وشك، أن يقترف الفعل المهلك، عن جهل وعدم معرفة بالأشخاص الذين سيقع عليه الفعل، يتراجع عن ذلك بعد أن يكتشف حقيقة الصلة بهم[4].

على سبيل المثال: أوديب يقتل أباه، ويتزوج أمه وهو لا يعلم، وعندما علم حصلت المأساة، وانقلبت الأحداث رأسًا على عقب حتى أنه فقأ عينيه حسرة وندمًا على ما فعل. أما في مسرحية كريسفونتس، «ففيها تهم ميروب بقتل ابنها، وهي لا تعرف أنه ابنها، وعندما تكتشف من هو تتوقف عما همت به»[5]. وهذا النص الذي يصفه أرسطو بالأفضل، مفقود سوى شذرات منها، يقول حمادة: «كريسفونتس (Cresphantes) إحدى مسرحيات يوروبيديس لم يصلنا منها غير ثلاثة وثلاثين سطرًا، أما كريسفونتس فهو اسم أحد ملوك مسينيا»[6].

 وفي موضع آخر يبين أرسطو أسوأ الأخطاء المأساوية.

ولعل أسوأ الاحتمالات جميعًا، تلك التي يهم فيها الفاعل أن يرتكب فعله ضد أشخاص يعرفهم، ثم ينثني عن تنفيذ ما همّ به، فهذا الأمر منكور وغير تراجيدي، بسبب خلوه من المعاناة، ومن ثم لا أحد من الشعراء يأتي بمثل ذلك إلا في حالات نادرة، مثل تهديد هيمون بقتل كريون في مسرحية أنتيجوني[7].

هذه الأحوال للخطأ المفزع: عن وعي، ويفعل بجهل، ثم انكشاف الأمر، بعد أن يقع الخطأ، أو بجهل، ثم انكشاف الأمر، ثم تراجع، وهو أفضلها، أو بمعرفة ثم يتراجع عن الفعل، وهو أسوؤها، وهي في مجملها أفعال متوقعة تشبه ما يحصل في الواقع الفعلي، نقلتها «المحاكاة» الإغريقية في عالمها الممكن والمحتمل، فصارت أعمالًا فنية خالدة.

والبطل الذي يقع بين الفضيلة والرذيلة ويخطئ خطأً مأساويًّا من غير قصد، هو الذي يكون تأثيره أقوى وأعم عند الجمهور، أكثر من الشخص الفاضل فحسب، أو الشرير فحسب، لأن الشخص الذي بين المنزلتين هو الذي يشبه الناس في واقعهم المعتاد، وتحديدًا ذلك البطل الذي يحمل في تكوينه «نقيصة» تدفعه للخطأ المأساوي، كأن يكون غضوبًا أو مغرورًا أو ممتلئًا بالغيرة، أو لخطأ في التقدير، والنصوص الإغريقية «حاكت» أناسًا يفعلون في الواقع، حاكتهم بأخطائهم ونقائصهم. يقول أرسطو: «والأمر الثالث هو أن تكون الشخصية مشابهة للواقع»[8].

والمشابهة التي ذكرها أرسطو هنا، لا تعني نقل الواقع حرفيًّا، وإنما تخيل بشر مثلنا، لهم واقع كواقعنا، ومشكلات تشبه مشكلاتنا، ولكن ليس لها علاقة بمشكلاتنا، فالدراما ليست معنية بهمومنا، إنما لكل شخصية درامية همومها في واقعها الدرامي نفسه، فهي مشغولة به، وليس لديها الوقت لتعالج مشكلاتنا.


 

 


[1]حمادة، إبراهيم،  كتاب أرسطو فن الشعر ، (القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1982م)، ص132.

[2]باتريس بافي، معجم المسرح، ترجمة: ميشال خطار، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2015م)، ص265

[3]كتاب فن الشعر، مرجع سابق، ص 136.

[4]كتاب فن الشعر، مرجع سابق، ص 142 ــ 143.

[5]المرجع السابق، ص 143.

[6]المرجع السابق، ص 147.

[7] المرجع السابق، ص 143.

[8]كتاب فن الشعر، مرجع سابق، ص 149

سينماتك في ـ  10 ديسمبر 2023

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004