سينماء.. لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي

الحالة القوطية:

جسر ما بين الخوف والتاريخ

بقلم: تغريد العتيبي

 
 

كتب ديفيد بنتر، ناقدٌ في فلسفة الرعب، ذات مرة في تصوير الحالة القوطية كأفلام مصاصي الدماء والأشباح والأموات-الأحياء والقلاع والبيوت المهجورة وليالي الخيال المظلمة أنه بسبب استراتيجيات الإبعاد الجغرافي والتاريخي، القوطية لا تبدو أنها «تمثل عالمًا حقيقيًّا»، إلا أنها «قد تُقدِّم في الواقع هذا العالم في شكل مقلوب أو تمثِّل تلك المناطق من العالم والوعي الذي لا يتوافر لعملية التمثيل الطبيعية». وهي إحدى العبارات التي اختزلت مفاهيم عدة في تصوير الرعب سواء كتابيًّا أو مرئيًّا وهو تعدّيه عن الواقعية وحدودها كالمنطق والعقل والجدليات الأخلاقية، لكن هذا التعدّي قد يكون استراتيجيةَ إزاحة واعية.

تلك الاستمرارية في الإزاحات والاعتماد على قوالب متعارف عليها من التصويرات القوطية خلقت مفارقةً في كونها العلامة الفارقة لشهرة صنف القوطية ومنه الرعب كأدب وسينما، ولكن أيضًا وسائل تضمين مبطنة وفعّالة؛ فتلك الكتابات والإعادات سبب شهرتها. ومن هنا انطلقت فكرةُ تمثيلها «المختلف» لمناطق مختلفة من الوعي والتجارب الإنسانية والاجتماعية والفردية في صور أشباح ومصاصي دماء ورموز رعب تختزل تلك التضمينات.

لذلك فإن المنتجات الثقافية بتصويراتها رغم الإزاحات سواء جغرافيًّا أو تاريخيًّا أو كليهما كوّنت جسرًا يربطنا بمخاوف الثقافات والمجتمعات المنتجة رغم تكرارية قوالب الرعب وشهرة رموزه. فمثلًا أفلام الزومبي «الأموات-الأحياء» قد تعبِّر في حقبة ما عن العبودية في الولايات المتحدة، وبينما في حقبة أخرى عن الثورات أو الحروب الأهلية أو الرأسمالية، ما جعل الطابع الغالب في النقد الثقافي سابقًا في القرن العشرين ينظر إلى تلك المنتجات الثقافية على أنها لا تنتمي إلى «الذائقة الأدبية العالية» أو الكلاسيكيات بالرغم من اختلاف التضمينات التي في حد ذاتها كوّنت تلك المفارقة وتوابعها من جعل تلك المنتجات إذن أقرب صوتٍ يمثلُ العامة من مخاوفَ وقلق وماضٍ وتجارب تجسدّت. ومن هنا أتت أهمية النظر إلى تصويرات المجتمع ومنتجاته في صنف الرعب أخذًا بعين الاعتبار أنها أحد أسرع الأصناف تطوُّرًا ونُموًّا في المملكة العربية السعودية منذ عودة دور السينما ونشأة صناعة سينمائية محلية.

من هذا المحور ما يُنتج عبر الشاشة من سينما الرعب ولا سيما في القراءات الأولى يجب أن يُؤخذ بعين الإعتبار؛ فهنالك ما يقتدي ويحذو وهذا غالبًا ما ينتج أعمالًا تتعرض لنقد لاذع بصفة «التقليد»، وهناك من يتمكن من الأصالة بمعرفة الثقافة العامة ورمزياتها مقوّضًا تلك السياقات في إنتاجات مرئية تبدو مألوفة لكن أصيلة في مضمونها كمصاص دماء يجوب الصحاري.

بذلك قد لا يكون الاختيار «واعيًا» من قبل المبدع إنما حصيلة مختزلة من التجارب والبيئة والصدمات والمخاوف التي شكلّت تلك التصويرات في اللاوعي. لكن يقتضى بالناقد السينمائي الوعي بالتصوير السينمائي وأساليب إزاحة تلك الأصوات والثقافة والحقبة التي زجّت بها. فكما ذُكر القالب القوطي قد يكون متعارفًا عليه وتقليديًّا لكنّه قد يمثل أيديولوجيات مغايرة كمثال الزومبي «الأموات-الأحياء». تلك الأصوات والمنتجات المحلية ربما ترتكز على تصويرات الثقافة العامة أو تقتبس من الموروث الشعبي والأساطير كقصص الجن وليالي السمر، لكن الوحوش بحد ذاتها هي الدلائل والركائز التي تقرأ نقديًّا. فالنقّاد يقرؤون مخاوف الثقافة والمجتمع من رموز الرعب التي تنتجها.

لكن القوطية ليست سهلة، ولا نستطيع أن نُعلّق بها مجرد خطاب سرية وانكشاف وبوح، حيث إن هنالك أيضًا جانبًا مظلمًا للجانب المظلم. فبالرغم من أنها تُنتقد غالبًا بأنها ازدهار ميلودرامي، فإنّها تمثل لحظة جوهرية عندما تتشكل تلك المنتجات كدلائل على مواجهتنا للحياة النفسية. ففي تلك اللحظة، كما عرفنا من دانتي فصاعدًا هي زيارتنا لــ «هيديز» ذلك الجزء من سردية الحياة حين نحتاج إلى الذهاب لما هو بالأسفل قابعًا في أصولنا وفي احتمالية أنَّ كل شيءٍ هنالك ممكن وقانون الأخلاق غير مفعّل. في القوطية يُسمح لنا — حتى مشجّعٌ — أن نرى أشياءَ لربما فضلنا عدم رؤيتها البتة... لكن من خلالها نحن محفزون على كتابة وقراءة الأسرار. حُثثنا على تفحص الموت واحتمالات تجاوزه. وبذلك ننقل ونُخبر، كُتّاب القوطية يعودون بتقارير ونصوص ونقاد القوطية يفعلون الشيء سيان.

فعلينا مثلًا تحرّي ما تعزفه «تشيللو» «رواية تركي آل الشيخ، نشرت في عام 2021 وبنسخة سينمائية سنة 2023» في نطاقها السينمائي بما يتضمنه المسموع، وما قد تحدّث عنه المسلسل المحافظ والتقليدي «عندما يكتمل القمر» (للمخرج عمر الديني، 2019)، في تصوير النساء المستقلات وما يطارد نزهة شباب في الصحراء في أول فيلم مروّج في صنف الرعب في السعودية «أبو نويرة» (للمخرج عبد الله أبو الجدايل، 2020).

فلا شك أنّ نهضة تلك الأصوات القوطية السينمائية والتلفزيونية والمكتوبة مهما اختلفت شرائح المجتمع المنتجة ومصادرها فهي دلالة على توجه المجتمع بشكل عام للحديث عن مخاوفه وقضاياه وهمومه مع بعضه، مكونًا ومجسّدًا موروثًا يُدرس لاحقًا لفعاليته في فهم تلك الأصوات مهما «صعُب» التعبير، فالقوطية ليست سهلة كما ذُكر، لكن في مبالغتها وميلودراميتها السهلة طرق عدة في التمثيل والتجسيد. 

حيث ذكر بنتر أن تلك الزخارف القوطية أثبتت على مدى السنين وبالفعل أن القرون قادرة على تحوّلٍ فعّال يشير بالنظر إلى تطور الحضارات -وهذا صحيح في حال الصين وتايلندا وجنوب إفريقيا كما هو في أوروبا، وعلى غراره التحرك نحو الحداثة والتنوير شعارات القوى العظمى تلك- إلى أن هنالك دومًا تحركًا مصاحبًا للكشف عمّا يقبع تحت تلك الشعارات والحركات وما تكبحه وما تخفيه في الظلال.

_____________________________________________________________________________________

Bibliography:

The Literature of Terror: Volume 1: The Gothic Tradition by David Punter, 2014

The Gothic Condition: Terror, History, and the Psyche, 2016

سينماتك في ـ  10 ديسمبر 2023

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004