سينماء.. لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي

في مئوية ميلاده:

عثمان سمبين.. وسينما ما بعد الاستعمار

بقلم: عصام زكريا

 
 

في 2004 كان المخرج والمؤلف السنغالي عثمان «أو أوسمان» سمبين رجلًا مسنًّا مريضًا تخطى الثمانين من العمر، عندما صنع فيلمه الأخير «مولادي». شاهدتُ الفيلم في أحد المهرجانات، وكانَ أول فيلم أشاهده لـسمبين، رغم أن اسمه كان معروفًا بوصفه واحدًا من أساطير السينما العالمية، مقترنًا دومًا بلقب «أبو السينما الإفريقية»، ولكن قبل زمن الإنترنت والثورة الرقمية وأسطوانات الـ«دي في دي» كان من الصعب مشاهدة الأفلام القديمة. الآن أصبحت أفلامه «ومعظم تراث السينما العالمية» متاحة بأكثر من وسيلة.

كان الفيلم باهرًا لي؛ لا يُشبه الأفلام الروائية التقليدية من ناحية السرد أو التمثيل أو الإيقاع، وكان ذلك متوقعًا من صانع أفلام ارتبط اسمه بطرق الحكي الشعبية، وإحياء تقاليدها الإفريقية في السينما.

الأكثر إبهارًا بالنسبة لي كان موضوع الفيلم، والحيوية التي صيغ بها، والروح الثورية التي يحملها، كأن صاحبه لم يزل شابًّا في الثلاثين. وفوق ذلك يوجد وعي مميز بالعلاقة بين التخلف الحضاري والسياسي في بلد ما، وأوضاع النساء وصغار السن في هذا البلد.

كان الفيلم بمثابة صرخة الحرية الأخيرة، مثل التي أطلقها ميل جيبسون في نهاية فيلم Brave heart لرحلة نضال استمرت منذ الطفولة، قبل الاستقلال، ثم خلال الحرب العالمية الثانية، وبعدها، في سبيل الاستقلال، ثم بعد ذلك، في مواجهة أوجه الفساد والديكتاتورية والتخلف التي لم تختفِ، وإن كانت قد غيرت أقنعتها فحسب، بعد الاستقلال.

تمرُّ في هذا العام الذكرى المئوية لميلاد سمبين «1 يناير 1923- 9 يونيو 2007»، وهي فرصة لتذكُّر اسمه، ومشاهدة أعماله، واستدعاء مسيرته الملهمة.

لم يكُن مُقدَّرًا للصبي الصغير، المولود في داكار، الذي عمل في تكسير الأحجار وإصلاح السيارات، أن يكون أكثر من مواطن، مثل أبناء جلدته، يشقى طوال حياته من أجل لقمة العيش، ويموت دون أن يسمع باسمه أحد. في العشرين من عمره أُخِذ الفتى إلى فرنسا «باعتباره فرنسيًّا» ليشارك في الحرب العالمية الثانية، وكانت بداية تفتُّح وعيه على فظائع الحرب وأسبابها الاستعمارية. ومن المعاناة مع عمال السكة الحديدية في داكار، إلى العمل حمالًا في ميناء مارسيليا، أدرك الشاب ضرورة الكفاح ضد الظلم، وسرعان ما انضم إلى حركات العمال الاشتراكية، ما مكنه من تثقيف نفسه وإجادة الفرنسية، وبدأ في كتابة عدد من الروايات والقصص القصيرة، وأصبح خلال سنوات واحدًا من الأدباء الأفارقة اللامعين الذين يقيمون في فرنسا ويكتبون بلغتها، وحصلت بعض أعماله على جوائز كبرى، وكتب عنها كبار النقّاد والمفكرين الفرنسيين. لكن عدم قدرته على الوصول إلى مواطنيه السنغاليين بسبب اللغة ظل هاجسًا مؤرقًا له. ولما كان يعشق السينما منذ طفولته قرر سمبين، وهو في سن الأربعين، أن يسافر إلى موسكو لدراسة السينما على يد واحدٍ من أعلامها، وهو المخرج مارك دونسكوي.

من موسكو عاد عثمان سمبين إلى السنغال في 1963 ليصنع أول أفلامه، وهو «بوروم شاريت»، أو «الحوذي»، الذي يسجل في 30 دقيقة فقط يوميات حوذي فقير، بأسلوب واقعي يذكر بأعمال تشيكوف، وأعمال الواقعية الجديدة في إيطاليا، ويتسم بنبرة حزن واضحة، تكشف عن مشاعر سمبين تجاه ما آلت إليه الأوضاع في بلاده بعد تحقق حلم الاستقلال، في 1963.

يتحول الحزن إلى سخط وغضب في فيلمه التالي «نياي» (1964)، وهو فيلم قصير آخر يشرح فيه بنية المجتمع الريفي الأبوي، من خلال مأساة عائلية مروعة، يقوم فيها أب بالاعتداء على ابنته، ويقوم الابن بقتل أبيه، وينتهي بسكان القرية يطردون الفتاة خارجها، كما لو أن الذنب ذنبها.

تصلح أعمال سمبين كأفضل ما يكون لدراسات «ما بعد الكولونيالية» (أي تلك الأعمال التي تتناول الحياة ما بعد رحيل الاستعمار)، وهو إذ ينتقد الاستعمار في حد ذاته، أو ينتقد مواطنيه الذين جاءوا إلى الحكم بعد رحيل المستعمر، لا يغيب عنه تلك العلاقة الوثيقة بين الاستعمار في ثوبه «الاقتصادي» الجديد، والفساد الذي يغرق الحكام والسياسيين المحليين.

يتجلى ذلك في فيلمه التالي «فتاة سوداء»، 1966، أول أفلامه الطويلة، الذي يُعد أيضًا أول فيلم روائي طويل إفريقي (المقصود بإفريقيا هنا بلاد جنوب الصحراء، مستثنى منها بلاد الشمال العربية).

اقتبس سمبين فيلمه من قصة قصيرة له اقتبسها -كما ذكر بنفسه في حوار لنشرة نادي سينما القاهرة أجراه معه الراحل يوسف شريف رزق الله (أكتوبر- 1979)- من واقعة حقيقية حدثت في مدينة مارسيليا 1958، حيث انتحرت فتاة سنغالية كانت تعمل لدى أسرة فرنسية دون سبب واضح سوى الحنين لموطنها. في ستين دقيقة فقط يروي سمبين قصة الفتاة التي ضاق بها الحال في موطنها، حيث يُصوِّر الفيلم الفتاةَ وعشرات مثلها يجبن البيوت بحثًا عن عمل دون جدوى، وعندما تتلقى دعوة للسفر للعمل في فرنسا تنتابها الفرحة لأنها ستنتقل إلى مدينة النور والحضارة. دائما ما يحلل سمبين انبهار المستعمرين بمستعمريهم، ويُحلِّل أيضًا الرفض المتعصب لكل ما يأتي من بلاد الاستعمار، ويرفض سامبين كلا الموقفين المتطرفين، مؤكدًا ضرورة الحفاظ على الهُويّة مع اللحاق بركب الحضارة والتقدم.

بمرور الوقت تكتشف الفتاة أنها شبه سجينة في المنزل الذي تعمل فيه، تقضي اليوم كله في العمل، وتعاني الوحدة الشديدة، ولا يُمكنها حتى قضاء إجازة للتنزه في المدينة ورؤية العالم.

قصة حزينة أخرى صاغها سمبين بشاعرية مؤثرة، وإتقان فني ملحوظ، لفت انتباه النقاد وحاز إعجاب المحكمين في لجان تحكيم المهرجانات، وفاز، من بين ما فاز به، بالتانيت الذهبي لمهرجان قرطاج.

مرة أخرى يعود سمبين إلى نقد أوضاع ما بعد الاستعمار في فيلمه التالي «ماندابي»، أو «الحوالة البريدية»، 1968، حيث يستعرض معاناة مواطن بسيط في الحصول على قيمة حوالة مالية أرسلها له أحد أقاربه، بسبب البيروقراطية والفساد، فوق انتشار البطالة والفقر المدقع. وهو أول فيلم يمزج فيه بين الكوميديا والهجاء الاجتماعي، كما أنه أول أفلامه الملونة.

مع الوقت يزداد شعور سمبين بالمرارة واليأس من تحسن الأحوال في بلاده، لكن الهجائية الأكثر سخرية على الإطلاق ستأتي في 1975 مع فيلم «خالا» Xala (أو اللعنة) الذي اقتبسه عن رواية له صدرت بالاسم نفسه في 1972.

 يبدأ «خالا» بمشهد طرد المستعمرين وتولي أبناء البلد إدارة سياستها واقتصادها، ولكن في أول اجتماع لهم يعود الموظفون الفرنسيون الذين طُردوا حاملين حقائب مليئة بالأموال يوزعونها على مجلس الإدارة، ويبقون على مدار الفيلم يحركون الأمور من بعيد. واحد من هؤلاء هو الحاجي يقرر أن يتزوج للمرة الثالثة رغم اعتراض ابنته وعدم رضا زوجتيه الأولى والثانية، ولكنه لا يستطيع أداء واجباته الزوجية بسبب لعنةٍ ما أصابته، ويربط سمبين كالعادة بين عجز الرجل وعجز رجال الدولة عن إدارتها.

من الناحية الفنية، فإن أبرز ما يميز هذه الأعمال وغيرها (صنع سمبين 12 فيلمًا ما بين قصير وطويل) هو طرق الحكي التي تُحول الوسيط السينمائي الحداثي إلى حكاء إفريقي تقليدي، حيث يتهادى السرد مُفسِحًا المجال للتأمل والغناء والتعرف على طبيعة الحياة بتفاصيلها الدقيقة، وسمبين واحد من أوائل الذين دمجوا بين الأسلوب الروائي والوثائقي.

في ذكراه المئوية، يستحق سمبين أن نشاهده ونتعلم من أفلامه ليس فقط عن السينما، ولكن عن العالم، وبالأخص عن عالَم ما بعد الاستعمار.

سينماتك في ـ  29 نوفمبر 2023

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004