جديد حداد

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

هكذا تحدث تاركوفسكي

 

بقلم: حسن حداد

 
 
 
 
 
 
 
 
   
   
   
 
   
 
 
 
 
 
 
 

رحل وتركنا في هذا التيه السينمائي المشحون بفذلكات التكنولوجيا السينمائية الطاغية.. رحل لنصبح فارغين من كل هذا الكم المعرفي والفلسفي الذي كرس حياته كلها لتجسيده على الشاشة.. تاركوفسكي، الفنان العملاق الذي قدم من خلال أفلامه، تحفاً فنية سينمائية وقصائد وفلسفة ورحل.. رحل بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان. فنان استثنائي، قل أن يجود بمثله هذا الزمن الذي نعيشه.

مناسبة هذا القول.. تلك المقابلة المنشورة في موقع "جهة الشعر" لهذا الفنان العملاق عشية وفاته.. والتي ترجمتها السينمائية المصرية مي التلمساني. حقاً كانت هذه المقابلة قادرة على استنهاض هذا الإحساس بالفقد لدي لهذا الفنان الأسطورة.

فهو يقول عندما يتحدث عن التفاؤل والأمل:

(...مناقشة التفاؤل والتشاؤم أمر فيه بلاهة. إنها مفاهيم فارغة من المعنى، إن من يحتمون بالتفاؤل إنما يفعلون ذلك لأسباب سياسية أو إيديولوجية، لأنهم لا يبغون البوح بما يفكرون فيه. كما يقول المثل الروسي: المتشائم هو متفائل عليم. إن موقف المتفائل موقف خبيث فكريا، موقف مسرحي يخلو من الصدق. في المقابل، الأمل صفة من صفات الإنسان، وهو ميزة البشر التي يولدون بها. إننا لا نفقد الأمل في مواجهة الواقع لأن الأمل غير عقلاني، يفرض نفسه ضد كل منطق. يقول "ترتوليان" عن حق: "إنني أعتقد لأنه من العبث أن نعتقد". ويتأكد الأمل لدينا حتى في مواجهة أكثر مجتمعاتنا الحالية بؤسا، ببساطة لأن البشاعة، مثلها مثل الجمال، تثير لدى من يؤمن أحاسيس تؤكد الأمل وتدعمه...).

فكيف لنا أن نعيش كل هذه السنوات، من غير أن يكون هذا الاستثنائي بيننا؟!

إنه يتحدث بفلسفة لا يضاهيها الا الإحساس بالفقد.. فها نحن نعيش يومنا دون التحلي بالأمل أو بالتفاؤل.. ونحن نراه يتحدث عنهما، وهو ينتظر الموت.. كيف لنا أن نواصل هذا العيش هكذا؟! أحلامنا ليس لها معنى.. فارغة من التفاؤل والأمل.. فليس لنا إلا أن نعيش هذا الفقد لفنان مثله.

فعندما يتحدث عن أحلامه، يسترسل في فلسفته الحياتية...

(...أعرف الكثير عن أحلامي، وهي تكتسب عندي أهمية قصوى، لكني لا أميل للكشف عنها: أريد أن أقول لك إن أحلامي مقسمة إلى قسمين: هناك الأحلام الاشراقية التي أتلقاها من عالم الماوراء من عالم الغيب، وهناك الأحلام العادية التي تأتي من علاقاتي بالواقع. الأحلام الاشراقية أو التنبؤية تأتيني أثناء النوم عندما تنفصل روحي عن عالم الوديان وتصعد إلى قمم الجبال. ما أن ينفصل الإنسان عن الوديان، يبدأ رويدا رويدا في الاستيقاظ. وفي اللحظة التي يصحو فيها، تكون روحه نقية طاهرة وتكون الصور محملة بالمعنى، إن الصور التي نعود بها من العالم العلوي هي التي تحررنا، المشكلة أنها تختلط سريعا مع صور الوديان ويصبح عسيرا علينا أن نجد المعنى، الشيء الأكيد هو أن الزمن، في العالم العلوي، قابل للانعكاس، الأمر الذي يثبت لي أن الزمان والمكان لا يوجدان إلا من خلال تجسدهما المادي. الزمن ليس موضوعيا...).

هكذا تحدث تاركوفسكي.....!!

 

تحفة تاركوفسكي.. هدية أمين..!! 

كنت اعرف بأن العبقري تاركوفسكي من المبدعين المفضلين لدى الصديق الناقد أمين صالح.. وأعرف أيضاً بأن أمين أفضل من ترجم للسينما.. لذا كان الكتاب الذي صدر بالإنجليزية وحصلت عليه من مكتبات لندن عام 1988 وهو أول ترجمة بالإنجليزية لكتاب "النحت في الزمن" للعبقري تاركوفسكي.. هذا الكتاب سيكون أجمل هدية مني لصديقي.. بل إنني حين استحوذت عليه، كان جل تفكيري هو هل سيترجم أمين هذه التحفة السينمائية..؟!!

وبالفعل.. ها هو الكتاب بالعربية ينشر ويجد مكاناً مناسباً بل ومتميزاً له في المكتبة العربية.. إنه أفضل ما ترجم للعبقري تاركوفسكي، وذلك بشهادة أغلب النقاد العرب..!!

الكتاب.. النحت في الزمن.. عبارة عن رؤية فكرية وسينمائية جسدها تاركوفسكي من خلال تجاربه مع أفلامه ومع الحياة التي عاشها.. وهو أيضاً سجل حافل بطريقة التفكير الفريدة ـ الفنية منها والحياتية ـ التي انتهجها تاركوفسكي.. هذا العبقري والمنظر السينمائي الفذ..!!

يكتب أمين صالح على الغلاف الخلفي للكتاب: (أندريه تاركوفسكي عبقري السينما، الذي اعتبره إنجمار بيرجمان "واحداً من أهم المخرجين في زمننا"، يتحدث، في كتابه الهام هذا (النحت في الزمن)، عن تجاربه السينمائية، عن أفكاره ورؤاه وذكرياته، عن إمكانيات السينما واحتمالاتها المتضمنة والتي لم تسبر جوهرياً إلا في حدود ضيقة، عن طبيعة الإبداع الفني، عن المعضلات الخاصة بالفن السينمائي، عن ضرورة الفن وحاجة الإنسان إليه، عن العناصر الفنية والفكرية التي تشكل الفعل الإبداعي، وعن المعنى الشعري لفن السينما.

لقد رحل تاركوفسكي في ديسمبر 1986م، في باريس، تاركاً لنا هذا البيان الفني، في كتاب يكتسب قيمة وأهمية من وضوح الرؤى وعمق الأفكار التي يطرحها، ومن ثراء وروعة العوالم التي طبعها في أفلامه الأخاذة).

وبالفعل.. أثناء قراءة الكتاب ينتابك شعور بأن السينما لابد أن تكون هكذا.. لابد أن تصبح هي الحياة.. ممارسة السينما كممارسة الحياة.. فقد اكتشف تاركوفسكي من خلال تجربته ومشواره مع السينما ـ والذي لم يتعدى الـ 30 عاماً ـ بأن السينما لابد أن تحاكي كل شيء في الحياة.. لا بد لها من التواصل مع المتفرج.. أن لا تستسلم لما هو موجود من قوانين وأنظمة.. أن تبحث في مكنونات هذا الفن الخلاق وتصل إلى نتائج ستكون بالفعل مذهلة..!! نراه مثلاً (تاركوفسكي) يكتشف بأن المونتاج يختلف عن الإيقاع.. بل نراه يؤكد بأن: (الإيقاع ليس هو التعاقب القياسي، الموزون للأجزاء. إن حركة الزمن ضمن الكادرات هي التي تخلق الإيقاع... وهو العنصر المكوّن الرئيسي للسينما).

ترجمة هذا الكتاب.. والترجمة إلى العربية بالذات، لمثل هكذا كتاب لم تكن مهمة سهلة.. ترجمة أمين صالح نجحت كثيراً في توصيل كل الرؤى والمشاعر وتلك الرقة المتناهية التي تحدث بها تاركوفسكي وهو يقدم للمتلقي حياته وسينماه.. إنها حقاً لمهمة صعبة تصدى لها الناقد أمين صالح.. أثمرت هدية فنية أخرى قيمة ـ إضافة إلى أعمال تاركوفسكي نفسه ـ قدمها أمين للقارئ العربي..!!

 
 

مجلة نقد21 المصرية

عدد يناير 2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004