«عندما بدأت مشواري الفني وقعت عقدا مع الجمهور بألا أخونه أبدا
مهما كان السبب.. حتى ولو مش هلاقى آكل لا ولن أخون جمهوري». (1)
هذه كلمات نطق بها مخرجنا الفنان هاني لاشين.. وتعبر حقيقة عن مبدأ
لم يحيد عنه أبداً.. وتمسكه بالفن الحقيقي طوال مشواره الفني
الطويل. بل أن هذه الكلمات، تختصر كلام كثير قد يمكننا أن نقوله عن
مشوار هذا الفنان المتميز. فالمخرج هاني لاشين، أحد الفنانين
المغيبين، ضمن سلسلة طويلة من المبدعين المصريين، المتوقفين قسراً،
عن الإبداع.. احتراما لنفسه وفنه.
لذا، سيكون مقالي هذا، متناولاً جزئية واحدة فقط من هذا المشوار
الطويل.. ألا وهي علاقته بالنجم عمر الشريف. ومما لا شك فيه، بأن
ارتباط اسم المخرج هاني لاشين بالنجم عمر الشريف، لم يكن عادياً..
أقصد بأن ذلك، كان له الأثر الكبير على تألق المخرج الشاب هاني
لاشين.. لكن ذلك لم يكن يحصل، لولا وجود خامة فنية وأرض خصبة
للتألق والتميز.
يتحدث لاشين عن التجربة، فيقول:
«كانت لحظة لقاء، ما أعظمها لحظة، لم أخطط لها مُطلقًا، ولم يخطر
في بالى أبدًا أن يؤدى دور البطولة في أحد أعمالي النجم العالمي
عمر الشريف، لكنها عندما حدثت وتعرضت لها كان أكثر ما يشغلني هو أن
أكون على قدر المسئولية...
بداية التعارف بيني والنجم العالمي جاءت وقت إخراجي أحد الأفلام
التسجيلية بعنوان «خطوات فوق الماء»، الذي حين انتهيت من تنفيذه
صادف وجود «الشريف» في القاهرة فراودتني فكرة أن أعرض عليه تقديم
الفيلم والتعليق عليه.
وبعد أن اختمر الموضوع في رأسي تمامًا، قابلته مقدمًا وشارحًا
العرض، فوافق على الفور، وفى اليوم التالي مباشرة وجدته حاضرًا في
الميعاد مؤديًا المطلوب منه ببساطة شديدة ودون تكلف».
(2)
ويستطرد لاشين، فيقول:
«حقق هذا الفيلم التسجيلي بعد عرضه نجاحًا كبيرًا، فحدثني «الشريف»
متسائلًا: «ناوى تعمل إيه في السينما؟»، فأخبرته بأنني أمتلك
سيناريو لفيلم اسمه «أيوب»، وشرحت له الفكرة فوجدته يقول: «معاك«.
بعد فترة قليلة بدأنا التصوير والتنفيذ، وأعترف بأنني شعرت برهبة
المسئولية في البداية بحكم أنها كانت أولى تجاربي السينمائية،
لدرجة أنني نسيت للحظات كل ما درسته وأعرفه عن علم الإخراج،
وثانيًا: لأني وجدت نفسي أمام مجموعة من عمالقة التمثيل في مصر،
وعلى رأسهم عمر الشريف ومحمود المليجي وغيرهما.
لكن هذه المخاوف سرعان ما تبددت لإيماني بأن
«البلاتوه» عبارة عن حلم يراه المخرج ويسعى لتحقيقه، ولذلك تعمدت
ألا أشغل نفسي مطلقًا بشيء قدر اهتمامي بتنفيذ رؤيتي، وتعاملت مع
كل الفنانين المشاركين في العمل بمقياس واحد لا تفضيل لأحد على
الآخر، وقد ساعدتني احترافية عقلية عمر الشريف على تجاوز هذا
الموضوع بسهولة، فتركيزي كان منصبًا على قيادة سفينة الفيلم للرسو
على شاطئ النجاح». (3)
أيوب ـ
1984
عمر الشريف + مديحة يسري + فؤاد المهندس + آثار الحكيم + مصطفى
فهمي + محمود المليجي ـ إخراج: هاني لاشين ـ تصوير: عبد المنعم
بهنسي ـ سيناريو وحوار: محسن زايد ـ قصة: نجيب محفوظ ـ مناظر: عبد
المنعم شكري ـ موسيقى: مصطفى ناجي ـ مونتاج: عادل منير ـ إنتاج:
التليفزيون العربي
فيلم (أيوب) هو الفيلم المصري الذي عاد به النجم العالمي الكبير
عمر الشريف إلى مصر ممثلاً.. بعد تجوال جاوز العشرين عاماً متنقلاً
بين استوديوهات السينما العالمية، وهو أيضاً فيلم تلفزيوني، اختار
به عمر الشريف العودة إلى جمهوره العربي من خلاله.. واختياره
للتلفزيون بالذات لهذه العودة جاء لإيمانه التام بأن للتلفزيون
جمهور عريض وواسع، باعتبار أنه ضيف دائم على العائلة ويدخل كل
البيوت.
وعمر الشريف.. الفنان العالمي الكبير هو الذي اختار قصة الفيلم
التي كتبها نجيب محفوظ وكتب السيناريو لها محسن زايد.. كما أنه
اختار أيضاً السينمائي الشاب هاني لاشين ليقوم بإخراج الفيلم..
علماً بأنه يقوم لأول مرة بإخراج عمل درامي.. وكانت تربطه بعمر
الشريف صداقة فنية، حيث اشتغلا معاً في تنفيذ أفلام سياحية عن
مصر.. ويقوم بأداء الأدوار الأخرى كل من: مديحة يسري، فؤاد
المهندس، محمود المليجي، آثار الحكيم، مصطفى فهمي.
يحكي الفيلم عن عبدالحميد بك (عمر الشريف)، رجل أعمال هائل الثراء،
قاس وغليظ القلب، ويمثل المركز الذي يلتف حوله دائرة كبيرة من
أفراد عائلته ومعاونيه وأعدائه ومنافسيه الكثيرين وقلة من
الأصدقاء.
يصاب عبدالحميد بالشلل، ويصبح عاجزاً حبيس المقعد المتحرك، وتبدأ
الدائرة التي فقدت مركزها في التشتت.. فالابن الذي تعلم من مدرسة
والده النرجسية يدير أعمالاً خاصة به وحده.. والزوجة تعطي بعض
وقتها فقط لزوجها وتريد أن تتأقلم مع أحداث حياتها الجديدة.. ويبدأ
هو في العودة إلى ماضيه قبل أن يصبح عبدالحميد بك المليونير.. يعود
إلى أصدقائه القدامى، الذين يذكرونه بشبابه النقي، يوم أن كان
ممتلئاً بالرغبة في خلق مجتمع أفضل.
ما الذي يمكن أن يحدث للعملاق عندما يقع.. إنه لا يستطيع إلا أن
يجالس نفسه ويتأمل بعمق ويكتشف من خلال محنته، مدى الزيف والكذب
والنفاق والخداع الذي كان يعيش فيه، لقد انصرف عنه الأصدقاء وزملاء
العمل، فلا وقت عندهم للوفاء.. حتى أفراد عائلته ساعدهم الزمن في
احتواء مشكلته وتحويلها إلى عادة.
من هنا يقرر عبدالحميد بك، أو أيوب العصر الحديث، أن يفتح أوراقه
ويسجل من خلالها الحقيقة في مواجهة ذلك الكذب، وأن يتيح بهذه
الحقيقة للناس الدخول إلى كواليس عالم المال والأعمال.. وأن يبدأ
بنفسه كمثال ونموذج من الإجابة على السؤال: كيف أصبح مليونيراً؟
في هذه المذكرات، والتي يقرر أن ينشرها في كتاب بعنوان "أيوب يفتح
أوراقه"، يعترف بتفاصيل صعوده من وظيفة كاتب حسابات بسيط إلى أن
أصبح مليونيراً.. إنه يتحدث في مذكراته هذه عن كل شيء.. عن
التنازلات التي قدمها على حساب ضميره وكرامته، عداواته وتضحياته
بكل شيء في سبيل الوصول إلى الثراء والنقود.. فهو يروي حقائق مخجلة
في حياته تؤثر على كل الذين يحيطون به، حتى أفراد أسرته.
لقد أراد عبدالحميد أن يروي الحقيقة للناس.. إلا أنه يكتشف حين
يشرع في ذلك أنه قد عاد من جديد لأهميته، إذ أصبح محوراً خطيراً
لأحاديث رجال المال والأعمال الذين سوف تفضحهم سطور هذه المذكرات.
من هنا يثور عليه الجميع، عندما يعرفون بقراره.. ويبدأ الصراع
والصدام قاسياً. يحاولون تدمير المذكرات قبل أن ترى النور، ويحاول
هو أن تطبع بأي ثمن وبأية طريقة، وحتى النهاية.. لتكون معركته
الشرسة الجديدة وهو المشلول.. أما تلك القوى العاتية القادرة على
تفتيت أقوى الخصوم.
و(أيوب) فيلم جيد، يثير قضايا اجتماعية ونفسية هامة، وينجح في
تفادي الوقوع في القوالب السينمائية التقليدية المعروفة للسينما
المصرية. ولقد التزم كاتب السيناريو بتتابع الأحداث التي كتبها
نجيب محفوظ في قصته القصيرة.. وبقدر ما أفاده هذا الالتزام في أغلب
مشاهد الفيلم، بقدر ما تسبب في وقوع الكثير من الأخطاء. فالأديب
الروائي يملك حرية أكثر في الانتقال بين الأحداث ولا يضيره مطلقاً
أن يستخدم الصدفة في حل ما يعوق أبطاله من مشكلات.. فالصدفة موجودة
في الحياة، ولها منطقها في الأدب الروائي.. ولكنها ليست كذلك في
السيناريو الدرامي.. بل أن أكبر عيب يوجه للسيناريست، عندما يلجأ
إلى حل مشاكله بالصدفة.
وهذا هو ما حدث في مأساة البطل في فيلم (أيوب)، الذي يشفى لمجرد أن
يرى كابوساً، فيصبح قادراً على الحركة.. وكان على السيناريست أن
يبحث عن المعادل السينمائي.
أما بالنسبة لشخصية البطل (عمر الشريف) فقد كانت في حاجة إلى دراسة
سيكولوجية أكثر عمقاً.. حيث أن دوافع المرض واليأس من الحياة هي
التي دفعته إلى هذه المواجهة مع النفس.. وكان من المنطقي بمجرد
شفائه وعودته للحياة من جديد، أن يعيد النظر ويعيد حساباته مرة
أخرى.. باعتبار أن هذه المواجهة ستقتله أولاً قبل أن تقتل الآخرين.
لذا كان على السيناريست أن يبين لنا لحظات التردد والصراع الداخلي
بين أن يكتب المذكرات أو لا يكتبها.. وربما أراد السيناريست مزيداً
من التعاطف مع عمر الشريف، إلا أن هذا لم يكن في مصلحة الشخصية
كبناء درامي.
وأما الإخراج فقد امتاز بالبساطة والنعومة البعيدة عن التكلف
واستعراض العضلات، فالمخرج هاني لاشين في أولى تجاربه الدرامية،
نجح في لفت الانتباه، وتقديم أسلوب بسيط ساعده على تجاوز الكثير من
الأخطاء.. حيث أن أخطاءه لم تزد عن مجرد هنات قليلة لا يدركها
المتفرج العادي.. هذا إضافة إلى نجاحه في قيادة فريقه الفني من
فنانين وفنيين.
لقد أدى عمر الشريف دوراً كبيراً يليق بعالميته، وحافظ في شخصيته
(أيوب) على ألا يقع في مأزق الأداء الميلودرامي، خاصة وأن الشخصية
تسمح بذلك، ولكنه ظل حريصاً على ألا يعبر الخيط الرفيع. أما فؤاد
المهندس، فقد أدى واحداً من أهم أدواره على الشاشة، حيث تنبع
الكوميديا دائماً من الأعماق، محافظاً في دوره على روح السخرية
المستمرة. افتقد دور آثار الحكيم المكتوب على الورق للصدق
والواقعية.. فلم تستطع أن تضيف شيئاً، حيث غاب الصراع الداخلي في
الشخصية تماماً، والذي يعطي للممثل القدرة على الإبداع والعطاء.
أما المليجي العملاق، فقد افتقدناه حقيقة في الفيلم.. ويبدو أن
رحيله المبكر قبل انتهاء دوره في الفيلم، أدى إلى عدم ظهوره إلا في
مشهدين لا يستحقان موهبته.
الأراجوز ـ
1989
عمر الشريف + ميرفت أمين + هشام سليم + أحمد خليل + سلوى خطاب ـ
إخراج: هاني لاشين ـ تصوير: محسن نصر ـ تأليف: عصام الشماع ـ
مناظر: رشدي حامد ـ موسيقى: عمار الشريعي ـ مونتاج: كمال أبو العلا
ـ إنتاج: جيميني فيلم . هاني لاشين وشركاه
اسم عمر الشريف بدأ يتردد من جديد في الاوساط الفنية المصرية
والعربية، وذلك بعد عودته للعمل في مصر. هذا الفنان الذي سحرته
السينما العالمية وجذبته إليها وهو في قمة تألقه الفني في دنيا
الفن العربي. كانت تلك مغامرة لكنها ناجحة، بل وكانت بمثابة
التجربة الفنية والحياتية الهامة في مشواره السينمائي، حيث تسنى له
الاختلاط بكبار السينمائيين، أمثال: المخرج ديفيد لين، والممثلين
بيتر أوتول، أنتوني كوين، وغيرهما.
لهذا السبب، لم يكن غريباً ان نشاهد ذلك الاداء المتميز من عمر
الشريف في فيلم (الاراجوز)، فهو أحد تلامذة المخرج العبقري ديفيد
لين.
عودة عمر الشريف إلى السينما المصرية، بعد غياب طويل، بفيلم
(الاراجوز) ليشكل تحدياً من هذا الممثل لكل الظروف التي مرت
بمشواره السينمائي. فالفيلم كان فيلم الافتتاح لمهرجان الاسكندرية
السينمائي عام 1989.
أما مخرج الفيلم هاني لاشين، فيقول: (...لا يشغلني كثيراً ان أقدم
اعمالاً غير تقليدية ولكن الذي يشغلني هو تقديم فكرة أشعر من
خلالها انني أقول شيئاً سواء كانت هذه الفكرة جديدة أو غير
جديدة...).
هكذا يفكر هاني لاشين، فما قاله قد تجسد الى حد كبير في فيلمه
(الاراجوز). ففكرة الفيلم جيدة والسيناريو مكتوب بشكل متقن، وذلك
رغم الاسلوب التقليدي في رسم الشخصيات وتتابع الاحداث الدرامية.
الفيلم يحكي عن محمد جادالكريم (عمر الشريف)، ذلك الرجل الريفي
الاصيل، أراجوز القرية المتمسك بالقيم والمبادئ والتقاليد. والذي
يحاول من خلال عمله البسيط وأدائه لدور الاراجوز، ان يكشف عن اصحاب
الفساد في قريته، وانتقاد السلبيات الموجودة فيها. وهو ينجح غالباً
في مسعاه هذا، لكنه رغم ذلك لم ينجح في ان يعلم ابنه بهلول (هشام
سليم) دروس القيم والمبادئ، لذلك يصبح الابن فيما بعد على طرفي
النقيض من والده، حيث يبيع المبادئ والتقاليد، بل ويبيع أهله
أيضاً.
هذه الحكاية التقليدية البسيطة هي فكرة الفيلم. وكون الفيلم
تقليدياً، لا ينفي وجود مخرج متمكن من أدواته الفنية والتقنية، فقد
كان أداء الممثلين تحت إدارته معبراً وجميلاً، حيث استطاع استخراج
الكثير من طاقاتهم الادائية المكبوتة، فشاهدنا عمر الشريف وميرفت
أمين وهشام سليم في أفضل حالاتهم التمثيلية.
هذا إضافة الى بقية العناصر الفنية التي تظافرت جميعاً للارتفاع
بمستوى الفيلم. فمثلاً نجح المخرج في تجسيد وقع هزيمة 67 في مشهد
قوي وخال من أية جمل حوارية، يحتوي على كادرات جمالية متقنة
ومعبرة. ذلك المشهد الذي يبدأ من نقطة الاظلام بموسيقى معبرة عن
ذلك الشعور بالإحباط والهزيمة لتظهر لنا لقطات صافية وجميلة للقرية
المنكوبة وأهلها.
كذلك كان المونتاج بارزاً في كل مشهد، وخصوصاً في تنفيذ الاغنيتان
اللتان أداهما عمر الشريف.. أغنيتان لم تخرجا عن سياق الحدث
الدرامي، بل وكان لهما دوراً بارزاً ومهماً في تطور الاحداث.
هذا هو فيلم (الاراجوز)، الذي أطلق نجمين في وقت واحد.. عمر الشريف
بعودته الجديدة، ومخرجه الموهوب. فقد جعل هذا الفيلم من هاني لاشين
مخرجاً مرموقاً يقف في مصاف كبار المخرجين المصريين.
|