في القاهرة، قبل عقد من رحيلها، كنتُ في مهرجان السينما ( الدورة 37 عام
2015) أتنقل بين العروض والندوات، بين ضجيج القاعات وتوتر النقاد
والصحفيين. في إحدى الليالي، خرجتُ من زحمة الأحاديث إلى حديقة الفندق
لأستنشق بعض الصمت. لم أكن أتوقع أن يقودني ذلك الخروج البسيط إلى لحظة
ستبقى عالقة في حياتي كلها. هناك، تحت أضواء خافتة، كانت كلوديا كاردينالي
تجلس وحدها. لم يكن حولها حشد ولا مصورون ولا معجبون. فقط هي، في هدوء
غريب، كأنها في استراحة من الزمن.
جمعت أطراف شجاعتي ومضيت نحوها. كيف يمكن أن تقترب من أيقونة من أيقونات
السينما العالمية دون أن ترتبك؟ صافحتها، عرّفتها بنفسي: "ناقد سينمائي من
العراق". ابتسمت ابتسامة ودودة، كأنها كانت تنتظر أن يُكسر صمتها بكلمة
صادقة، وأشارت لي بالجلوس. طلبت قهوة، وبدأت بيننا محادثة لم تدم أكثر من
نصف ساعة، لكنها كانت كافية لتمنحني ذكرى عمر كامل.
قلت لها، مترددًا ثم واثقًا: "لا زلتِ في رونق جمالك، لم تأخذ منك السنون
شيئًا". ضحكت بخفة، تلك الضحكة التي تضيء وجهًا خبر الكاميرات والعدسات
والقصص. شكرتني، ثم بدا وكأنها مستعدة للانفتاح. حين ذكرتُ إعجابي الكبير
بفيلم الفهد لفيزكونتي، لمع في عينيها بريق خاص. أخذت تستعيد معي تفاصيل
تلك التجربة، أجواء التصوير، وقوة حضور فيزكونتي كمخرج يعرف كيف يلتقط جوهر
الممثل. تحدّثت عن صداقتها مع ألان ديلون، وكيف جمعهما العمل سابقا في روكو
وإخوته. وأنا أستمع إليها، شعرت أنني لست مجرد ناقد يدوّن الملاحظات في
عقله، بل شاهد صغير على حكاية من حكايات السينما الكبرى، تُروى لي شخصيًا
على مائدة قهوة.
ثم انتقلنا إلى الحديث عن تكريمها في مهرجان القاهرة، عن عرض فيلمها جحا مع
عمر الشريف، وكيف كان لذلك العرض طابع استرجاع للزمن الأول، حين كانت شابة
تفتح أبواب السينما العالمية على مصراعيها. كانت ممتنة للتكريم، ليس لأنه
اعتراف جديد، بل لأنه أعاد إليها إحساس البدايات، ذلك الإحساس الذي يظل
يسكن الفنان مهما بلغ من العمر والمجد.
شعرت أنني أطلت عليها، فاعتذرت بلطف. لكنّها ابتسمت مرة أخرى، وأستأذنت أن
نلتقط صورة شخصية، تلك الصورة، التي التقطتها بهاتف عابر،(بالاسود والابيض
كما هو حنين الماضي) صارت لاحقًا وثيقة حنين. ليست صورة لنجمة عالمية فقط،
بل لامرأة تقاسمت معي لحظة إنسانية نادرة. قبل أن أودّعها، حملتني تحياتها
إلى العراق، وقالت إنها تتمنى أن تزوره يومًا. وعد لم يتحقق، لكن الكلمات
بقيت كرسالة مؤجلة، مثل بطاقة بريدية لم تصل أبداً.
اليوم، وقد رحلت كلوديا كاردينالي عن عالمنا، أعود إلى تلك الليلة كمن يعود
إلى مشهدٍ محفوظ في ذاكرته أكثر من أي فيلم. رحلت الجسد، لكن بقي حضورها،
ليس فقط في أفلامها الخالدة – من ثمانية ونصف لفلليني، إلى الفتاة ذات
الحقيبة، إلى ذات يوم في الغرب – بل أيضًا في تلك اللحظة التي جمعتنا صدفة
في حديقة فندق بالقاهرة. لحظة علّمتني أن السينما ليست فقط شاشة كبيرة
وأدوار خالدة، بل هي أيضًا لقاء إنساني صغير، يحمل في داخله كل ما لا
تستطيع الأفلام أن تقوله.
أدركت بعدها أن التكريم في القاهرة لم يكن مجرد احتفاء بماضيها، بل كان
وداعًا مبكرًا. وكأنها مرّت من هنا لتقول لنا: "الفن يظل، والإنسان يرحل."
وما بين الصورة التي أحتفظ بها، والذكريات التي حملتها عن تلك الليلة، صار
موتها خبرًا شخصيًا، كأنني فقدت شيئًا مني، لا مجرد نجمة من نجوم السينما. |