ملفات خاصة

 
 
 

زياد الرحباني أو كيف ندخل الموسيقى في مزاج السخرية

الساخر الكبير الذي انقلب على الجميع بمن فيهم نفسه

فادي العبد الله

الموهوب والعبقري الثائر

زياد الرحباني

   
 
 
 
 
 
 

عندما خرج جثمان زياد الرحباني من المستشفى، وقف الحاضرون مصفقين، كأنه خروجه الأخير على مسرح كان قد طال ابتعاده عنه. ودّعوه بالورود وبأغنياته هو. هؤلاء ممن تأثروا بشخص زياد الرحباني، كلاما وتصريحات ومسرحا وحلقات إذاعية. ومذهل هو حضور صوته، الأجش العريض المفتر عن نصف ابتسامة دائما، في آذان اللبنانيين وفي حناجرهم.

كانت وفاته مناسبة لاستحضار كثيرين من مجايليه والجيلين الأصغر سنا علاقاتهم الشخصية بانتاجه وكيف تسلل إلى لغتهم وأفكارهم، حتى وإن تخلصوا لاحقا من بعض آثاره فيهم، وكيف رافقهم مراهقين فاشلين في العلاقات العاطفية حتى علمهم، بصوت المرأة، كيف ينعكس فشلهم المتمادي عليها. لكنها كانت أيضا مناسبة لكثيرين لمحاسبته أو للدفاع عنه بأثر رجعي على مواقفه السياسية. على أن نقاش فنان على موقف سياسي، بعد رحيله، هو أمر لا طائل منه، سوى التعصب له وعليه، أو الكراهية ونفي القدرة على فهم ما قدمه من فن، وهو الأساس الذي لولاه لما كان من حاجة للنقاش أصلا. فأيا تكن مصادر الهام الفنان أو مواقفه وتحليلاته السياسية أو عيوبه الشخصية أو رسالته الاجتماعية، فإن كل ذلك لا أهمية له في ذاته. فقد يشاركه آخرون المواقف او العيوب أو الرسائل نفسها ويظل عملهم فنيا بلا أي قيمة، والأمثلة على تفاهة فنانين وأعمال "ذات هدف ورسالة" لا تحصى.

قد تكون وفاة زياد الرحباني، بما تحتويه تجربته الفنية من ثراء هائل، مناسبة ضرورية للعودة إلى الفصل الحميد بين موقف سياسي أو لحظي أطلقه قيد حياته، وبين الموقف الفني والاجتماعي والمبدئي الذي يحمله عمله

والفنان عندما يموت، ينقطع النقاش الشخصي معه ولا يظل من شيء ذي مغزى إلا التفاعل مع المضمون الداخل في نسيج عمله الفني. وقد تكون وفاة زياد الرحباني، بما تحتويه تجربته الفنية من ثراء هائل، مناسبة ضرورية للعودة إلى الفصل الحميد بين موقف سياسي أو لحظي أطلقه قيد حياته، وبين الموقف الفني والاجتماعي والمبدئي الذي يحمله عمله بسخريته الحادة، حتى من نفسه. وهذه السخرية، التي تقول السيدة فيروز في حديثها عن ابنها، إن التقاطها هو أعمق ما يقوم به، وليس ذلك ممكنا إلا لشدة وعيه بالوجه الآخر، المأسوي، للحياة، هذا الوعي الذي حول حياته، بتقلباته وتردده الدائم بين أمور كثيرة، إلى عمل ساخر طويل ينقلب أول ما ينقلب على نفسه ذاتها.

ألف وجه لزياد

وفي الحقيقة، لا يمكن مقالة واحدة ان تلخص أو تتناول كل جوانب انتاج زياد الرحباني، الفريد دونما حاجة إلى أسطرته. فلزياد الف وجه: المسرحي، الشاعر الغنائي، الملحن، الممثل الكوميدي، الاذاعي، الموزع، صاحب النكات والمواقف و"المقالات" السياسية. في زياد الرحباني اجتمعت مجموعة هائلة من الشخصيات والمواهب، فكان للبنان موازيا لما يمكن ان يكونه في مصر مثلا شعراء مثل صلاح جاهين أو أحمد فؤاد نجم ممن يقطفون الكلام من أفواه الناس ويصوغونه أغنياتٍ، وملحنون مسرحيون مثل سيد درويش يعرضون على الناس مشاهدهم وكثرتهم وتنوعهم وخلافاتهم، وممثلون ممن كانوا نجوم أشهر المسرحيات مثل "مدرسة المشاغبين" أو "المتزوجون"، وأصوات إذاعية شهيرة ومميزة وحكاؤون ظرفاء مسموعون، وأصحاب أعمال موسيقية تشكل نوعا من موسيقى تصويرية لحياة بلد بكامله. وقد نضيف أنه، فوق كل ذلك، كان يفوق كل المذكورين، عدا أحمد فؤاد نجم، حدة سياسية وانخراطا في رغبة بمعارضة السلطة بل وبمعارضة الأساطير المؤسسة للرؤية الوطنية نفسها، لا بالعمل على خدمتها وتثبيتها.

وفي كل ذلك تقريبا، نجد في شغل زياد نوعا من ثيمة مضادة لشغل الاخوين رحباني، في العمل وفي الرؤية والموقف. مسرحه عرضٌ شاسعٌ للسخرية ولانهيارات اللغة الشعرية والأحلام والنهايات المسالمة المريحة ولانهيار بلد ومجتمع حلم بهما أهلوه. واستعماله لغة الشارع المديني، لغة اللبنانيين المواربة والمرتبكة والذكية أحيانا، دون ادعاء الارتقاء بها وإن كان يعالجها بحرفية وقصدية عاليين، هو بالضبط نقيض الإعلاء اللغوي في شعرية الأخوين رحباني واحالتهما الدائمة على عالم من رومنسية فردية حالمة وهانئة رغم الشجن.

في هذه التجارب مع فيروز، ومع غيرها من المغنيات حيث أبرز زياد حساسيته العالية تجاه مواقف المرأة في العلاقات، حاول الرحباني مزج الكلمات الجديدة تماما على الست فيروز بجملة لحنية حيوية متدفقة ومتعددة المصادر

وعندما أتيح له المجال للانفراد تقريبا بصوت فيروز – وهي، خلافا لرأي شائع، لم تكن في الواقع في حاجة اليه للوصول إلى الشباب، ولكن من أجل القدرة على الاستمرار في إنتاج الجديد بعد وفاة الكبار وهي كانت لا تزال في أواسط العقد السادس من عمرها - عمل مطولا على أغانٍ مفعمة بالإحالات على أغاني الأخوين رحباني، لكنها إحالات تقلبها رأسا على عقب: من الضبابية الرومنطيقية إلى تعب الحياة والمزاح وضيقة الخلق وغبار ما بعد معارك الحب الكبرى. في هذه التجارب مع فيروز، ومع غيرها من المغنيات حيث أبرز زياد حساسيته العالية تجاه مواقف المرأة في العلاقات، حاول الرحباني مزج الكلمات الجديدة تماما على الست فيروز بجملة لحنية حيوية متدفقة ومتعددة المصادر (من الألحان الشرقية، الشبيهة بفيلمون وهبه حد عدم التفريق بينهما أحيانا كما في "أنا عندي حنين" و"حبيتك تنسيت النوم"، وبدرجة أقل الطقاطيق الشائعة مصريا وشاميا كما في "بعثتلك يا حبيب الروح"، إلى البوسا نوفا والجاز والفانك والأنماط الأميركية).

لكن فيروز بالتأكيد فضلت البقاء على مسافة من المواقف السياسية التي كانت مادة غزيرة لكثير من إنتاج الرحباني الساخر مع سامي حواط وجوزيف صقر خصوصا، وكانت أحد مصادر شهرته الأساسية، مثلما سببا في انتشار طريقة كلامه وتركيبة قفشاته على لسان جيلين أو أكثر في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. وفي هذه السخرية ما يقرب زياد الرحباني من الشيخ إمام ونجم، وقبلهما وبدرجة أقل من سيد درويش وبديع خيري وأمين صدقي، إلا أن زياد الرحباني على خلاف الشيخ إمام لا يحول المغني إلى ممثل يستعمل مؤثرات صوتية تستوحي من المهرج والأراجوز ما ينقل سخريته إلى المستمع، بل يبقي السخرية في مضمون الكلام الذي يلقي زياد الرحباني بصوته المميز على حواشيه نثارا اضافيا من السخرية، والأهم إنه يبذر السخرية في الصوت الموسيقي نفسه.

الموسيقى أولا وآخرا

زياد الرحباني، الحالم بأن يكون عازف بيانو لا أكثر، هو أولا وآخرا ممسوس بالموسيقى، موسيقاه والموسيقات الأخرى التي يغرم بها ويسعى إلى تعريف الناس بها. وحولها وحول ما تتضمنه، في داخل نسيجها، ما ينبغي ان يكون مدار النقاش الأساسي في شأنه، وما سيكون موضوع آتي الأيام بعد أن يستنفد معاصروه ذكرياتهم وخلافاتهم.

في نسيج الموسيقى نجد ما يميز زياد الرحباني عن سائر الموسيقيين العرب. لا إعجابه المبكر بالجاز والبوسا نوفا فهذا لا يختلف كثيرا عن اعجاب سابقيه بالتانغو والرومبا مثلا واستيراد أساليب وايقاعات غربية، بل في إصراره على إبقاء "جملة" واضحة الشرقية في كثير من هذه الأعمال (بالطبع ليس في الأعمال التي "عربها"، بل تلك التي ألفها هو، وإن تفاوتت جودتها ومستواها في الحقيقة)، وكذلك في ملامح الحيوية والمرح والسخرية التي تتخلل موسيقاه ـ والسخرية هي أصعب ما يمكن الموسيقى أن تنتجه ربما ـ مثلما تتخلل توزيعاته للألحان، ما سنحاول رسم خطوط عريضة له في عجالة سريعة.

زياد الرحباني، الحالم بأن يكون عازف بيانو لا أكثر، هو أولا وآخرا ممسوس بالموسيقى، موسيقاه والموسيقات الأخرى التي يغرم بها ويسعى إلى تعريف الناس بها

بداية، يبدو أن زياد الرحباني ومنذ سن مبكرة كان مطلعا على التراث الشرقي أكثر مما كنا نظن من قبل. ولسنا نعرف كيف تأتى له أن يسمع "يا بنت المعاون" التي غنتها "الست نجيلة الشامية" على اسطوانات بوليفون سنة 1927 (شكرا لعمرو نصحي على اكتشاف هذا التسجيل) و"القراصية" التي هي غالبا من التراث الشامي، وقد أعاد استعمالهما في "سهرية" وفي "نزل السرور"، فاتحتي مسرحه حين كان لا يزال يافعا. ولا شك في أنه تشرب أيضا الكثير من إنتاج والده وعمه، وأيضا فيلمون وهبه، إضافة إلى أعمال المصريين مثل سيد درويش (وعند زياد الرحباني أحيانا نزعة تكرار أجزاء الجملة الموسيقية على الدرجة نفسها مثلما يفعل سيد درويش). وقد لحن زياد الرحباني عددا كبيرا من الأعمال التي لا تفترق كثيرا عن الأساليب الشائعة في تلحين الطقاطيق والأغاني البوب، سواء غناها ملحم بركات أو عبده ياغي أو هدى أو منى مرعشلي. لكن الأهم أنه احتفظ من ذلك بطريقة في تركيب الجملة الموسيقية، في مفرداتها الأصغر، تكشف بسرعة عن شرقيته حتى وإن كان يؤلف أو يوزع في إطار غربي أو لاتيني، وليس فقط في إطار شرقي ("ديار بكر" مثلا أو "وقمح"). وهي بالطبع واضحة الظهور في أغانيه "الشرقية" كمعظم أعماله مع جوزيف صقر، ويكفينا مثلا التأمل في التعقيد النسبي للمقدمة الموسيقية لأغنية "مربى الدلال"، حيث يمكن أن نتعرف إلى تقنية "السؤال والجواب" الشائعة في بناء الجملة، إلا إن زيادا يعقد بنية كل منهما بشذرات أقصر وأكثر تقطعا، وبعدم التناظر في الأطوال. وفي هذا المجال الشرقي نفسه منحنا زياد الرحباني لمحات بديعة (مثل التلميح إلى جنس الحجاز في مطلع "يا زمان الطائفية"، أو في استعماله للراست في "اسمع يا رضا"). وهو بالطبع لا يستنكف من المزاح مع شرقيته ومراجعها نفسها كما في "شو هالايام" التي يجري فيها إحالات على "هو صحيح" أو "الحلوة دي".

وعندما تتبدى هذه الشرقية في أعمال مؤلفة ذات إطار أكثر غربية، ويبدو ذلك في تجاور الدرجات الموسيقية وقصرها ما يولد حيوية وحركة متواصلتين (على خلاف استعمال الكمنجات في سحبات مطولة مثلا)، يكون عمل زياد الرحباني في رأيي في أفضل مستوياته، مبتعدا عن إعادة انتاج الموسيقى الغربية سواء في صيغها الجازية بأنواعها أو ما بات نوعا من موسيقى كلاسيكية شائعة في الموسيقات التصويرية مثلا.

احتفظ بطريقة في تركيب الجملة الموسيقية، في مفرداتها الأصغر، تكشف بسرعة عن شرقيته حتى وإن كان يؤلف أو يوزع في إطار غربي أو لاتيني، وليس فقط في إطار شرقي

يلوح ذلك مثلا في الجملة الأساسية من مقدمة "ميس الريم" أو في التدرجات المتصاعدة والقفلة الشرقية المميزة في "ضيعانو"، مثلما يتبدى في كثير من شغل زياد، بما فيه "أورينتال جاز" وما ادخله فيه من "تقاسيم" تحاول المزج بين الجاز وبين الأسلوب الشرقي في التقسيم. وهو يمزج هذه المفردات الشرقية بأخرى غربية، بما فيها من قفزات موسيقية واسعة بين الدرجات (كما في الفرق بين الجملتين الأوليين من "يا ليل ليلي" التي غنتها فيروز)، وكأن جزءا مهما من شغله يسعى إلى توسيع المساحة والمفردات التي يمكن المؤلف الشرقي أن يستعملها. وربما كان هذا من جوانب العمل الفني الجاد عبر الزمن، أي السعي إلى توسيع حدوده والتغلب على ما كان يتصور من قبله إنه نشاز أو غير متوافق مع القواعد المستقرة. ربما كان زياد الرحباني يقول أحيانا إنه يسعى إلى "موسيقى شرقية يفهمها العالم"، وهذه في رأيي مسألة ثانوية، إلى أنه، بغض النظر عن مصادره أو نياته، يقوم بما من شأنه توسيع فهمنا واحتمالاتنا في موسيقاتنا.

وتبرز هذه الشرقية أيضا في إصرار زياد الرحباني على الصوت المعدني المميز للبزق مثلا مرافقا للبيانو وللباص الكهربائي كما في "هدوء نسبي" مثلا، وفي بحثه عن ايقاعات عربية حتى على آلات غربية (كما يذكر في لقاء تلفزيوني عن تحويله إيقاع "الواحدة الكبيرة" إلى جملة على البيانو). وهو يبني توزيعه في غالبية الأحيان على مجموعة من المستويات، يكون البيانو (وهو استعمال أهله المفضل) أو الباص، "الفرشة" الأساسية لها، وفوقها تتراكب مجموعة من الشذرات أحيانا بآلات مختلفة، ومن ثم يمكن أن نعثر على استخدام للكمنجات لا يختلف جذريا عن كلاسيكية أهله.

لكن "لمسة" زياد تتبدى أحيانا في استعمال البزق، كما ذكرنا، او القانون حتى حين يمتزجان مع الغيتار الكهربائي مثلا (في "ولعت كثير")، وفي الأخص في استعمال آلات النفخ النحاسية التي كان يحبها (على ما أورد عبود السعدي في شهادته في ملف مجلة "الآداب" سنة 2010)، التي كان يكتب لها كتابة صعبة بما تتطلبه من نفخات سريعة متقطعة staccato، وهذا الأسلوب يشبه أيضا أسلوبه في تقطيع بعض الجمل الغنائية (في "مثل ما كأنه ما تلفن" من "تلفن عياش" على سبيل المثل). وفي ظني أنه كان يستعمل النحاسيات بالضبط نقيضا لما هو معتاد من ربطها بالملكية والأمراء والصيد والفخامة والعسكر، أي للعب والتهريج والهزء من هذه الادعاءات. ومن ذلك مثلا استعماله المتكرر لها على ألحان شرقية صميمة، مثل "راجعة بإذن الله" و"اسمع يا رضا" بكل ما تحمله اذن هذه الآلات من "نشاز" وتنافر مع المزاج اللحني الأصلي.

بتحول زياد الرحباني إلى وارث، خسرنا تلك الطاقة الفريدة، وبوفاته اليوم نخسر حلم لبنان الاقدم ونخسر أيضا قدرة الاعتراض على ذلك الحلم

ومما كان يستعمله أيضا على سبيل المرح والسخرية التنويعات التي يدرجها في توزيعه، في المستوى الخلفي من اللحن، وراء الجملة اللحنية الأساسية، وهي تقنية كانت موجودة عند الأخوين رحباني من قبله ولكن اكتسبت معه أهمية رئيسة في التوزيع. فحتى في عمل شهير مثل "ع هدير البوسطة" (بصوت فيروز)، يمكن التنبه إلى هذا المستوى الثاني من الحشو الذي يورده بين النغمات الأساسية، ومن تنويعه المتواصل لهذا الحشو، وما يستدعيه ذلك أحيانا من تلاعب بتوقعات المستمع، سواء بعزف ما هو مغاير لما سمعه من قبل، أو بإغفال الحشو مطلقا واضمار بعض الجمل (كما يفعل موسيقيا وكما تفعل فيروز أحيانا حين تغني "زعلي طول" وتغفل "أنا واياك")، أو سوى ذلك من تنويعات. وفي ظني أن التنبه إلى هذه الميني ـ لوازم التي يدرجها زياد الرحباني ويتلاعب بها وينوع عليها، بين درجات الجملة الأصلية وفي طياتها، هو التنبه إلى ما يخبئه الرحباني أحيانا ويبنيه طبقات فوق طبقات من الموتيفات الموسيقية واللعب بها ومن التجارب في مزج الآلات ومن المفاجآت المبثوثة في أعماله

وفي مثل هذا الحشو، وشذراته التي لا تكاد تكتمل جملا موسيقية (مثل انطلاقات الكمان المتكررة كأنما دون طائل في "سلم لي عليه" أو تكرار نقرات "عودك رنان" كأنها صدى لأصوات الرصاص نفسه)، وفي الهمهمات التي يطلقها أحيانا زياد الرحباني وأحيانا فيروز، في أجزاء من جمل متقطعة ("ولقد.. فيطيب لي...)، نجد التقاء لغة زياد الرحباني، المستقاة من العي اللبناني (على رأي أحمد بيضون) وتأتأته، مع أسلوبه الموسيقي ومع كلامه الذي يبدو، غالب الأحيان، متقطعا مبهور الأنفاس متعبا.

كانت سخرية الرحباني اللاذعة اساسا موجهة فنيا ضد فن الجيل الرحباني الاول. فكانت وقوده الاساس، حتى انتهى إلى التصالح مع أهله في "إلى عاصي" حيث وضع عبقريته في التوزيع في خدمة أبرز الأغاني الرحبانية الأقدم، معلنا انتهاء تلك المعركة وعمليا انتهاء مبرراته للاستمرار في مجادلة الأخوين رحباني ومناكفتهما. وفي موته نكتشف حجم الغياب بالموت، وأيضا حجم الغياب الذي سبق الموت. بتحول زياد الرحباني إلى وارث، خسرنا تلك الطاقة الفريدة، وبوفاته اليوم نخسر حلم لبنان الاقدم ونخسر أيضا قدرة الاعتراض على ذلك الحلم. وأنى لنا، ولهذا البلد المتهدم الكسير، بصانعي أحلام جدد؟

 

####

 

زياد الرحباني ابن المؤسسة الرحبانية الحالم بالعودة إلى البيت

رحلة بحث عن فردوس لبنان الضائع

سامر أبوهواش

أليس في كل ثانية من الحياة

إنسان يضحك؟

إذن في الأرض ضحك متواصل (زياد الرحباني، صديقي الله 1971).

لعل أكثر كلمة ترددت على شفاه الجميع وفي تعليقاتهم، في وصف زياد الرحباني وأثره وفرادته في المشهد اللبناني الفني والاجتماعي والسياسي، هي "العبقري". ذلك اللقب هو عينه الذي حمله وارث العائلة الرحبانية، صخرة ثقيلة على ظهره، منذ بداية تجربته الفنية في سبعينات القرن الماضي وحتى رحيله السبت الماضي عن عمر 69 عاما. بدا لا مفر من هذا اللقب، إذ كيف، بغيره، يمكن اختصار تجربة بمثل هذه الكثافة والتعدد والاتساع؟ فالرجل ليس موسيقيا فحسب، ولا هو شاعر فحسب، ولا مسرحي، ولا كوميدي (أسود)، ولا معلق سياسي وناقد اجتماعي، هو هذا كله معا، وهو فوق ذلك ابن المؤسسة الرحبانية العريقة، الأمين على استمراريتها، والمتمرد عليها في آن، حتى بدت "العبقرية"، الكلمة التي لطالما عبر عن كرهه لها، قدر كرهه لصفة المتنبئ، هي الوحيدة القادرة على الإلمام بكل هذه الأدوار والصفات.

الناطق باسم جيل

وبصرف النظر عن دقة الوصف، من عدمها، وعن مرادفاته المختلفة، فإنه يُرجع نبوغ زياد الرحباني في الموسيقى والمسرح وغيرهما، إلى سمات أصلية مزروعة فيه بالولادة، حتى إن أحد المعلقين لم يتردد بالقول إنها "الجينات" التي ورثها عن والده عاصي الرحباني ووالدته المطربة فيروز. وإذ يطلق الوصف نفسه أناس يقفون على الضفة النقيضة تماما من تجربة زياد الرحباني، موسيقيا وسياسيا على السواء، فإن هذا على قدر بداهته، يضمر رغبة في استدخال هذه التجربة ضمن الرطانة الشعبوية التي تعفي نفسها، إما جهلا، وإما بسبب مهابة الموت، من تحديد ملامح محددة للتجربة، وتستعيض عنها بالدخول في منطقة العموميات السهلة والآمنة.

لكن الأهم هو أن مراسم الوداع تلك، وداع "العبقري" الذي يمتلكه الجميع ولا يمتلكه أحد في آن واحد، تخفي وهي تحيله على "الوراثة" و"الجينات"، جانبا أساسيا من تجربته، وهو أنها لطالما كانت – على فرادتها الشديدة – تجربة جماعية أو على نحو أدق تجربة تنمو وتتطور ضمن مجموعة. فزياد الرحباني لم يكن فحسب ناطقا باسم قطاع واسع من أبناء جيله، بل كان جزءا من هذا الجيل ونتاجا لتطلعاته وأحلامه وتناقضاته، وأيضا لمواهبه المتعددة في مختلف المجالات الإبداعية.

زياد الرحباني لم يكن فحسب ناطقا باسم قطاع واسع من أبناء جيله، بل كان جزءا من هذا الجيل ونتاجا لتطلعاته وأحلامه وتناقضاته، وأيضا لمواهبه المتعددة

تكرر في مراسم وداع الرحباني الابن وما رافقه من تعليقات، ما حصل مع والده عاصي وعمه منصور، أو ما اصطلح على تسميته بـ"الأخوين رحباني"، حيث انتزع من سياق التجربة الثقافية والفنية والسياسية والاجتماعية التي رافقت هذه التجربة، وشارك بها العشرات إن لم يكن المئات من الشعراء والصحافيين والموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين والنشطاء السياسيين إلخ، واختصرت التجربة برمتها بـ"عبقرية" عاصي على وجه التحديد، تلك التي أحسب أن زياد وجد نفسه بعد موت والده، مضطرا إلى حملها، بقدر ما كان مضطرا إلى حمل أيقونية والدته فيروز ومكانتها الأسطورية في لبنان والعالم العربي.

تهمل تلك النظرة جانبا أساسيا في تجربة الأخوين رحباني، كما في تجربة زياد، الوعي الحاد بأن نمو هذه التجربة لا يكون من دون الآخرين، فرأينا مختبر الأخوين رحباني، مسرحيا وموسيقيا، يضم في زمنه معظم المواهب التي كانت موجودة، ويستدخل العناصر الشابة والواعدة، بما فيها تجربة زياد نفسه، حيث كانت تجربة "سهرية" مثلا نوعا من الاستكمال للمختبر المسرحي الرحباني، وإن حملت الطابع الخاص للابن في بداية تمرده. كما رأينا أن عمل زياد الرحباني نفسه لطالما كان ضمن مجموعة، تتغير فيها الأسماء أحيانا، لكن الثابت يبقى التفاعل مع الآخرين، وتقديمهم إن لزم الأمر، وفي أحيان قليلة حتى الافتراق عنهم والنزاع معهم.

عائلتان

يصعب فصل المسارات المتعددة في تجربة زياد الرحباني، بداية من نشأته في كنف العائلة الرحبانية، ثم انتقاله إلى كنف العائلة الأوسع، التي يمكن اختصارها باليسار اللبناني (عبر الحزب الشيوعي تحديدا)، ولعل جزءا كبيرا من تجربته، في الجانب الفني الموسيقي كما في جانب التعليق السياسي/ الاجتماعي، نابع من وعيه بهاتين العائلتين، انتسابه إليهما، وسجاله الدائم معهما، والسعي الدائم إلى العثور على صوته الخاص ضمنهما، وتاليا ضمن النسيج اللبناني الأوسع.

في ديوانه الأول والوحيد الذي كتب قصائده حين كان في الثانية عشرة من عمره، ونشر حين كان في الخامسة عشرة، بعنوان "صديقي الله"، نرى ملامح كثيرة مما سيصبح عليه ذلك الطفل، انطلاقا من وعيه المبكر بالعالم من حوله. يبدو لافتا، قياسا بتجربة الرحباني مثلما نضجت واستقرت عليه لاحقا، حجم الألفة والحميمية العائلية في قصائد ذلك الديوان. نرى طفلا لا يريد مفارقة البيت، ويريد أن يمضي الوقت كله رفقة والديه، في أحضان الطبيعة، بعيدا من العالم الخارجي:

"صرت أخاف/ أن أطيل النوم/ كي لا يذهب الجميع/ وأبقى وحدي" يقول في مقطع من القصيدة. أو يقول في مقطع آخر: "يوم أذهبه إلى المدرسة/ أحسه سفرا يا أمي/ أحسه بعدا عنك وعن أبي/ وعن شباكنا المكسور (...)  ويقرع الجرس فأهرب من المدرسة (...) ويلوح لي بيتنا من بعيد/ وأرى أهلي يقفون أمام الباب/ على السطوح/ يلوحون بالمناديل كي لا أضيع عن البيت".

يبدو لافتا، قياسا بتجربة زياد الرحباني مثلما نضجت واستقرت عليه لاحقا، حجم الألفة والحميمية العائلية في قصائد "صديقي الله"

العالم، بالنسبة إلى ذلك الطفل، يبدو مكانا خطرا، موحشا، وإذا أخذنا في الحسبان أن القصائد كتبت قبل سنوات من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في أبريل/ نيسان 1975، لبدا لافتا أيضا عدد المرات والسياقات التي يذكر بها الحرب وآثارها المحتملة (التشرد، الدمار، الخراب) بوصفها ما يتهدد ذلك العالم المنزلي والقروي الآمن: "وفجأة/ انفجر البعيد/ ارتج بيتنا/ خاف المطر وسقط عن الشبابيك (...) ركض أبي إلى الشباك ينظر/ ركضت إلى الصورة المكسورة/ وعيناي تقولان: ماذا؟"/ وسمعت كلمة الحرب/ وسألت: ما الحرب/ وعلا صراخ في الخارج".

تدل تلك القصائد (سواء أكان كتبها زياد بالفرنسية ثم ترجمت بالعربية أم كتبت أساسا بالعربية) التي كتبها زياد طفلا بعيد حرب 1967، عن أجواء النقاشات الدائرة على الأقل في بيت أهله، ذلك البيت الذي كان في ذلك الوقت محل اجتماع نخب البلاد من مثقفين وأدباء وسياسيين، ولعل أغاني الأخوين رحباني وفيروز من تلك الحقبة، فضلا عن المسرحيات، تكمل الجانب الآخر من هذه الصورة القاتمة، من ذلك الخوف من المستقبل، ومن أن "الريح التي تخرب الخارج" في طريقها إلى لبنان. يظل هذا كله محض تأويل، إلا أن ما يمكن الوثوق به هو أن زياد الرحباني كان منذ نعومة أظفاره مشغولا بشؤون العالم (بلده) وشجونه، مدركا لتلك الأخطار التي تهدد البنيان الساكن، الريفي غالبا، الذي شيده أهله، وفي الوقت نفسه مشغولا بأسئلة وجودية حول الله والعالم، وبالبحث عن أجوبة عن تلك الأسئلة.

تطور الخطاب

مرحلة وعي زياد الرحباني الأولى ستتخللها أزمة في العلاقة بين والديه، وقد ذكر أكثر من مرة تلك المرحلة، قائلا إنه كان أحيانا يحتاج إلى التدخل للفصل بين عاصي وفيروز حين يتشاجران، وإذا كانت هذه العلاقة وما شهدته من أزمات محل كثير من القيل والقال والتخمينات (والكتابات الصحافية)، فإنها تبقى في الحيز الخاص، إلا أن زياد يوردها ضمن أسباب اختياره الرحيل عن بيت والديه باكرا، والذي تزامن مع اندلاع الحرب الأهلية... ذلك الخروج من العالم الأول (البيت، الأهل، المنطقة، القرية)، وإن لم يكن انقلابا عليه بالضرورة، هو في الوقت نفسه دخول إلى عالم آخر مواز كان يتشكل منذ استقلال لبنان عن فرنسا، ثم نكبة فلسطين 1948، مرورا بصعود الناصرية، وحرب 1958، ودخول لبنان في لعبة المحاور الإقليمية والدولية، وصولا إلى صعود اليسار وحركات التحرر، والتي كان لبنان جزءا لا يتجزأ منها جميعا

ما يمكن الوثوق به هو أن زياد الرحباني كان منذ نعومة أظفاره مشغولا بشؤون العالم (بلده) وشجونه، مدركا لتلك المخاطر التي تهدد البنيان الساكن، الريفي غالبا، الذي شيده أهله

في مسرحياته، وأغنياته ذات الطابع السياسي، وبرامجه الإذاعية ومقابلاته، منذ نهاية السبعينات، وحتى منتصف التسعينات، ثم الحروب التي أعقبت ذلك، نرى تطور "خطاب" زياد الرحباني، الذي قد يبدو شكليا متناقضا أحيانا، إلا أنه يظل ثابتا على فكرة واحدة، وهي محورية لبنان بوصفه المعضلة والخلاص والهاجس الدائم في آن واحد.

صحيح أن ظاهر الخطاب يوحي دائما باستحالة لبنان وطنا نهائيا لأبنائه، ويصل في بعض الأحيان إلى اعتباره لا وطنا، وصحيح أن الرحباني أبدى في بعض المراحل إعجابه بنموذج بعض الدول الديكتاتورية في المنطقة (ولا سيما نظام البعث في سوريا)، إلا أنه هذا الإعجاب لم يكن أيديولوجيا بقدر ما عبر عن خيبة أمل مزمنة، وعن توق في الوقت نفسه إلى ذلك الفردوس المفقود الذي كانه لبنان.

مشكلة لبنان الجوهرية كما عبر أكثر من مرة هي في الطائفية السياسية، إلا أنها أبعد من ذلك، تكمن في كونه جزءا من لعبة المنطقة السياسية. فزياد الرحباني على شيوعيته، لم يكن يرى لبنان جزءا من منظومة أوسع، وحتى تحالفه في فترة ما مع "حزب الله"، كان مرتبطا بالواقع اللبناني، وبالاصطفافات التي ولدتها الحرب الأهلية، وبالنظرة إلى لبنان وهويته، أكثر مما هو مرتبط بالواقع العربي الأعرض. فعلى سبيل المثل، لا يتضمن مختبر زياد الرحباني الموسيقى الواسع، ورغم رغائبية بعض الأطراف اللبنانية، اهتماما كبيرا بفلسطين (لا نكاد نجد أغنية واحدة عن فلسطين)، وقد علق ذات مرة – عن حق – أن الفلسطينيين هم الأقدر على النهوض بقضيتهم وتحصيل حقوقهم، أما انخراطه في الشأن السوري فهو لا يختلف عن ذلك، أي من حيث أنه كان يتعامل مع الواقع السوري (بما في ذلك ثورة 2011) انطلاقا من الصراعات اللبنانية الداخلية، ومن نظرته إلى الدولة والجماعات في لبنان.    

لبناني صميم

ظل زياد الرحباني إذن لبنانيا صميما، منخرطا في الأزمات اللبنانية، متفاعلا مع العالم من حوله انطلاقا من هذا الانخراط، لا العكس، وهو بذلك يستكمل تماما إرث الأخوين رحباني، بل يمضي خطوة أبعد بأن يجعل جل اهتمامه الشأن اللبناني، وتحليل الأزمات اللبنانية، والشخصية اللبنانية، ومحاولة فهم الاستعصاء اللبناني (وصولا إلى القناعة بأن لبنان يجب أن يحكمه ديكتاتور ("بخصوص الكرامة..." و"لولا فسحة الأمل")، راثيا لبنان الفردوس المفقود، وليس رافضا له بالضرورة، بل تواقا إلى استئنافه.

ظل زياد الرحباني لبنانيا صميما، منخرطا في الأزمات اللبنانية، متفاعلا مع العالم من حوله انطلاقا من هذا الانخراط، لا العكس، وهو بذلك يستكمل تماما إرث الأخوين رحباني

في العودة إلى صفة "العبقرية"، وبالإضافة إلى أهمال استخدامها المطلق والإنشائي والتعميمي هذا، لفكرة الجماعة (خصوصا الجماعة الثقافية والفنية) والتي ساهمت في تشكيل وعي زياد الرحباني، فإنها تهمل جانبا أساسيا يتعلق بالتعلم والتثقيف الذاتيين، سواء بما يتعلق بالموسيقى أو القراءة عموما، وقد أعرب الرحباني ذات مقابلة عن مدى حرصه مثلا على قراءة الصحيفة كاملة، بوصفها محلا للفهم وأيضا لاستجلاب مادة التفكير والحكي، كما تشي تعليقاته الكثيرة عن قراءاته في السياسة والاجتماع وعلم النفس وإن لم يكن يقول ذلك صراحة، والأهم من ذلك كله تبقى المثابرة. فزياد الرحباني لم يكن فنانا يكتب ويلحن انطلاقا من إلهام يهبط عليه، إنما وبكلامه هو، كما بشهادة من عرفوه عن كثب، من عمل يومي دؤوب، وحتى ما سمي بـ"الجاز الشرقي" الذي اعتبر صاحب الإنجاز الأكبر عربيا فيه، نابع من ثقافة بحث واطلاع واستلهام، تماما مثلما فعل والده وعمه من قبل مع الموسيقى الغربية الكلاسيكية والموسيقى (والشعرية) العربية الشرقية. هي الموهبة الفذة إذن، مصحوبة بالقلق اليومي، بعمل لا ينتهي، ما يمكن أن نقول إنها تشكل مجتمعة عبقرية زياد الرحباني الحقيقية، موسيقيا على الأقل، وإن لم يكن مسرحيا، أما العبقرية الأخرى التي ربما يشير إليها الجميع ضمنيا، فهي عبقرية الرصد والمتابعة والمراقبة والتحليل والاستنتاج (وإن لم يكن صائبا دوما)، ومعها عبقرية اللغة القادرة على تجسيد ذلك كله في مزيج فني أصيل، تجعل من زياد الرحباني واحد عصره، وتجعل إرثه قابلا للحياة لأجيال آتية.

 

####

 

زياد الرحباني ابن لبنان الضال وصوتُ لعنته

جاء بلغة جديدة وأتقن هجاء الهويات الراسخة

محمد أبي سمرا

وضع زياد الرحباني (1956- 2025) حياته الشخصية والعامة ومواهبه الفنية في مهب الأهواء التي عصفت ببلده لبنان وأهله وبالشرق الأوسط تاليا، منذ هزيمة 3 دول عربية في حرب 5 يونيو/ حزيران 1967. كان لا يزال طفلا أو فتى بريئا آنذاك، وابنا لفيروز (نهاد حداد: 1935) وعاصي الرحباني (1923- 1986). وهما، إضافة إلى منصور الرحباني (1925- 2009)، الأركان التأسيسية الثلاثة للمؤسسة الفنية اللبنانية الأشمل، الأقوى حضورا وفاعلية وتأثيرا في أجيال متلاحقة بلبنان المعاصر ومحيطه العربي.

الصرح الفيروزي الخالد

فمنذ مطلع خمسينات القرن العشرين، وحتى عام 1975، قامت تلك المؤسسة الفنية بتجديد الفنون الشعبية والفولكلورية المشرقية: من أداء غنائي وإيقاعات موسيقية ولحنية، إلى كلمات أغان أخرجها الرحبانيان من تقليد شائع إلى تعبير شعري محدث. وهما وضعا هذا كله في إطار مسرح غنائي استعراضي متجدد لصوت فيروز القمري الفريد ونجوميتها المتسامية على الأرضي والدنيوي إلى الطيفي والضبابي. واستمر الثلاثة طوال ربع قرن من السنوات في تشييد عمارة متكاملة من الصور الطوباوية الزاهية للبنان، بوصفه بلدا قمريا من ضباب وغمام ونسائم وينابيع وبيوت على تلال وادعة... للألفة والسهر والحنين والرجاء والمحبة والخير والعطاء والجمال والبراءة.

وساكنت صور لبنان تلك صدور ومخيلات وكلمات ومشاعر وانفعالات أجيال من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وصولا إلى المغرب واليمن، فعبدوها عبادتهم لصوت فيروز القمري الحزين حزنا شفيفا مواسيا وممزوجا بالرضى وبطيف من فرح العيش في الطبيعة الريفية البريئة.

لم يتداعَ الصرح الفني الرحباني - الفيروزي وصوره في مخيلة اللبنانيين مع بدايات تصدع الوئام الأهلي الطائفي اللبناني في 1969. وحتى في سني الحروب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) بقي ذاك الصرح معينا ومنبعا لحنين اللبنانيين الأليم الذي لا ينضب لبلدهم الفيروزي المعبود في صوت "سفيرة لبنان إلى النجوم". وظلت فيروز بصوتها وبطقوسية حضورها النجومي الأيقوني، تجسد لبنان القمري ذاك الذي يوحد آلام اللبنانيين وأحلامهم فيما هم يحتربون ويقتتلون، وحتى اليوم، فيما فيروز التسعينية تودع ابنها البكر زيادا إلى مثواه الأخير، بتجلد "أم يسوع الحزينة/وما من يعزيها"، على ما يحب لبنانيون كثيرون القول، وكتبوا ذلك في تشييعهم زياد الرحباني.

والأرجح أن أحدا لم يتجرأ على توجيه سهام النقد التهكمي اللاذع لمثل هذه الصور - وهي من صور الطوبى اللبنانية في الفنون الرحبانية الفيروزية - قبل الرحباني الابن الضال، سليل الركنين الأهم في بناء صرح تلك الطوبى الزاهي، والناشئ في كنف البيت الذي وضع أنغامها وألحانها وكلماتها وصورها ولوحاتها المسرحية الاستعراضية طوال الربع الثالث من القرن العشرين، وعايشها وخبرها على نحو يومي حميم، فيما هي تُصنع، وقبل فراره منها شابا إلى تعبير فني آخر يناقض مشروع أهله الفني المتحقق.

الأرجح أن أحدا لم يتجرأ على توجيه سهام النقد التهكمي اللاذع لمثل هذه الصور - وهي من صور الطوبى اللبنانية في الفنون الرحبانية الفيروزية - قبل الرحباني الابن الضال

لقد فر زياد الرحباني سئما من ذاك الكنف العائلي ومن الطوبى اللبنانية التي صنعها أهله، ولجأ في العام 1976 إلى كنف ما كان يسمى آنذاك "الحركة الوطنية اللبنانية" اليسارية والعروبية في بيروت الغربية. وهو ترك خلفه ما كان يسمى بيروت الشرقية المسيحية، التي وُصفت في الغربية باليمينية والانعزالية. حدث ذلك بعدما اكتمل انقسام لبنان كتلتين أهليتين كبيرتين، مسلمة ومسيحية، وارتسمت بين مناطقهما خطوط تماس ومعابر حربية كثيرة.

وكان سبق زيادا في فراره من هناك، شيوعيون وقوميون سوريون كثيرون إلى غرب بيروت. أما من مكث من أمثال أولئك المحازبين المسيحيين في ديارهم وبين أهلهم، فقد ارتضوا الصمت والانطفاء على هوامش المجتمع المسيحي المتجهة نحو التجانس الطائفي، حيث سيطرت الميليشيا المسيحية المحاربة، في مواجهة ميليشيات فوضوية كثيرة محاربة في مناطق الأكثرية الإسلامية.

الابن المدلل لأهله ولبنان

قبل ذلك، أي في النصف الأول من السبعينات، كان الرحباني الابن ألِف في فتوته الفنية واستطاب الإقامة الموقتة ببيروت قبل انقسامها الحربي إلى بيروتين. أقام آنذاك شهورا، وأقله لمرتين في تلك السنوات، بمنطقة رأس بيروت الكوزموبوليتية منذ نشأة الجامعة الأميركية فيها. آنذاك كان زياد الرحباني لا يزال ابنا مدللا للعائلة الرحبانية وللبنان تاليا. وعلى المنوال الفني الرحباني - الفيروزي نسج عمله المسرحي الأول "سهرية" (1973)، وعرضه لأشهر على مسرح سينما أورلي برأس بيروت.

أما عمله الثاني "نزل السرور" (1974) الذي عُرض أيضا في المسرح نفسه، فخالفت فكرته الأساسية المسرح الرحباني، وأرهصت ببدايات النزاع اللبناني. وغنى صديق الرحباني الابن الشاب، جوزيف صقر (1942 - 1997) خريج المسرح الرحباني - الفيروزي، الأغنية الشهيرة التي ألفها ولحنها زياد لتلك المسرحية وقال فيها: "كنا بأحلى الفنادق (كناية عن لبنان الجميل)/ جرجرونا ع الخنادق". لكن تلك الكلمات لم تُحمل على محمل الجد، بل أثارت موجات من الضحك والتصفيق. وكانت الحساسية الطبقية ظهرت بطابع فولكلوري لدى زياد في عمله المسرحي الأول، في أغنية صقر الشهيرة أيضا: "الحاله تعباني يا ليلى/ خطبة ما فيش/ أنتِ غنية يا ليلى ونحنا دراويش".

عوامل كثيرة أدت إلى فرار الرحباني الابن من ديار أهله: منها حياته البيتية والمدرسية ومنها مزاجه الشخصي الفني المتمرد والحر

لكن نمط العيش في رأس بيروت كان جذب زياد الرحباني طوال النصف الأول من السبعينات، حينما كان أهله يقدمون عروضهم المسرحية في شهور الشتاء من كل سنة في مسرح "قصر البيكاديلي" بشارع الحمراء. وبرزت موهبته الموسيقية آنذاك في تلحينه أغانٍ لبعض تلك العروض، قبل أن يصير "ابنا ضالا" في بيروت الغربية ابتداء من العام 1976.

المشاكسة والتمرد

عوامل كثيرة أدت إلى فرار الرحباني الابن من ديار أهله: منها حياته البيتية والمدرسية التي روى بعضا من شذراتها في مقابلات تلفزيونية. ومنها مزاجه الشخصي الفني المتمرد والحر. وكذلك الضيق والانتظام الخانقان اللذان أطبقا على حياته ومزاجه في بيئته الأهلية والطائفية في بدايات الانقسام الحربي اللبناني.

وهذا في مقابل ما كان خبره من رحابة الحياة وسيولتها وتنوعها في رأس بيروت ما قبل الحرب. وبلغت الرحابة والسيولة حد الفوضى الهاذية في الشطر الغربي من العاصمة اللبنانية المنقسمة في حرب السنتين (1975- 1976)، عندما حل زياد الرحباني وأقام في رأس بيروت ابنا ضالا هاربا من ديار أهله، طلبا للحرية والتمرد.

والأرجح أن هذه العوامل طبعت شخصية زياد الحياتية والفنية: ابن ضال ومشاكس بلا هوادة ولا توقف أو عودة أو توبة. وربما ساعده في ذلك، إلى مزاجه التكويني وانقلابه عليه، كونه الابن البيولوجي والفني لركني المؤسسة الفنية والثقافية والرمزية الأوسع تأثيرا ونفوذا في تشكيل صورة لبنان المعاصر، على الصعيد الرسمي وفي المخيلة الشعبية. وهذا إضافة إلى أنه ابن فيروز، أيقونة لبنان شبه المقدسة في هذه المخيلة. وهو التقى كثيرين من أمثاله وأشباهه في غرب بيروت "الحركة الوطنية" اليسارية والعروبية، والتي شرعت في تكوين ثقافتها ونتاجها الفني اليساري الجديد، في مواجهة ما سمته "الثقافة الانعزالية" اللبنانية في المناطق المسيحية ببيروت الشرقية.

والحق أن بيروت الشرقية كانت خالية تقريبا من الحياة الثقافية والفنية التي كان غرب بيروت ومنطقة رأس بيروت وشارع الحمراء مسرحها ومركزها منذ مطلع الستينات. فدور السينما والمسارح والترفيه، والصحف، ومقاهي الرصيف، ودور النشر، كانت كلها تقريبا في رأس بيروت، شأن تجمعات المثقفين والصحافيين والكتاب والفنانين التشكيليين والسينمائيين والممثلين الذين كانت لقاءاتهم ونشاطاتهم تلتئم هناك. وظلت رأس بيروت على هذه الحال طوال سنوات الحرب.

بلغته المفككة والنزقة بعريها من الإنشاء الخطابي والبطولي تصدر الرحباني الابن الضال مشهد الكلام اليومي في لبنان كله تقريبا

كانت بيروت الشرقية "صحراء ثقافية" في زمن الحرب، قياسا بما حصل في غربها. ففضلا عن تمركز الحياة والأنشطة الثقافية والفنية في غرب العاصمة، لم يكن إنتاج "ثقافة بديلة" يحظى باهتمام الأحزاب والميليشيات التي سيطرت على بيروت الشرقية. وهي كانت تنفر أصلا من التيارات الثقافية والفنية الجديدة وتعتبرها، على نحو شبه هستيري، مخربة للثقافة اللبنانية التقليدية الصافية. هذا فيما صرفت اهتمامها على التنظيم والتأطير وتأمين الخدمات والجبايات المالية... وصولا إلى "توحيد البندقية المسيحية" تحت لواء قيادة واحدة، تصدرها بالدم والمقاتل قائد "القوات اللبنانية" الشاب بشير الجميل.

على خلاف ذلك تماما كانت حال بيروت الغربية في زمن الحرب: عشرات التيارات والميليشيات والمنظمات العسكرية المختلفة والفوضوية، المتصارعة والموحدة شكليا في إطار فضفاض تتصدره منظمات المقاومة الفلسطينية وأحزاب "الحركة الوطنية" اليسارية والعروبية بقيادة القطب السياسي الدرزي كمال جنبلاط وزعامته. وكانت هذه القوى والمنظمات والميليشيات تحظى بمداخيل مالية خارجية مهولة للقيام بأدوارها الحربية والإعلامية والثقافية. هذا فيما كانت جموع من المثقفين والشعراء والصحافيين والفنانين العرب الفارين من بلدانهم، حطت رحالها في بيروت الغربية.

سحر الفوضى والهذيان

في ذلك المناخ الفوضوي وجد زياد الرحباني ضالته وحريته الثقافية والفنية واللغوية في رأس بيروت وشارع الحمراء. فبدأ نشاطه ببرامج إذاعية في إذاعة لبنان الرسمية التي سيطرت عليها أحزاب الحركة الوطنية، ثم في "صوت الشعب" التي أنشأها الحزب الشيوعي اللبناني الذي راق للرحباني الابن الضال الانتساب إليه والعيش في صحبة مثقفيه وكوادره. وسرعان ما اكتشف المستمعون إلى هاتين الإذاعتين صوتا ولغة جديدتين تماما، ويتحدث إليهم صاحبهما عن أحوالهم وحياتهم اليومية المباشرة وهمومها في زمن الحرب والقتل اليومي، ساخرا من لبنان الطوبى وصورها وثقافتها التي كانت محض عمارة هشة خلبية ووهمية، فهوت كصرح من خيال مزقه الرصاص ولطخته الدماء.

وبلغته المفككة والنزقة بعريها من الإنشاء الخطابي والبطولي في برنامجيه الإذاعيين "بعدنا طيبين قولوا الله"، و"العقل زينة"، تصدر الرحباني الابن الضال مشهد الكلام اليومي في لبنان كله تقريبا، تأييدا له ونفورا منه، في أوساط وبيئات مختلفة ومتعارضة.

وسرعان ما انتقل زياد الرحباني من الإذاعة إلى خشبة المسرح في رأس بيروت وشارع الحمراء، حيث قدم عروض أعماله المسرحية: "بالنسبة لبكرا شو؟" (1978)، "فيلم أميركي طويل" (1980)، "شي فاشل" (1983)، "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993)، "ولولا فسحة الأمل" (1994). وتصدر الرحباني الابن وجوزيف صقر بصوته الغنائي الذي في منتهى الرقة والإلفة والحنان، المقام النجومي في هذه الأعمال التي تجلت فيها موهبة الابن الضال في هجائه العبثي، الهاذي والسوداوي، نمط العيش والتفكير والتعبير في لبنان. وقد تساءل في إحدى أغانيه: "هاي (هذه) بلد؟"، ثم أجاب "لأ مش بلد/ هاي أرطة عالم مجموعين. مجموعين؟... لأ مطروحين... لأ مضروبين... لأ مقسومين... قوم فوت نام... وصير حلام أنو بلدنا صارت بلد".

جدد شخصية فيروز الغنائية بارتجالات كلامه الغنائي النثري وبألحانه وتأليفه وتوزيعه الموسيقيين المتجددين، وهو بذلك جدد العمر الفني والنجومي لفيروز، فقربها من ذائقة جيل جديد

والأرجح أن اللبنانيين لم يطربوا يوما حتى أقصى الطرب، مثلما أطربهم هجاؤهم أنفسهم على هذا النحو في لغة زياد رحباني المتدفقة الهاذية، إلا في ما غنته أمه فيروز بلغة رحبانية معاكسة تماما، منشدة لبنان حلم يقظتهم السعيد الذي تحول إلى كابوس أسود، بعدما كان "بين الله والأرض كلام" و"صخرة عُلقت بالنجم... أعبدها" (في شعر سعيد عقل وصوت فيروز).

وفي قاع ذاك الهجاء الزياد رحباني الهذياني الثاقب في سوداويته الموازية للواقع، والتي تطاول بلدانا عربية شتى اليوم، كانت تسود صور لبنان الطوبى الرحبانية الفيروزية الزاهية، وتتحول إلى محض رماد. وربما ما من أحد سوى الرحباني الضال امتلك هذه الغريزية اللغوية الشفوية المتدفقة في تهفيت وتسويد أحلام اليقظة اللبنانية السعيدة في لغة الرحبانيين وصوت فيروز الملاك السماوي.

النجومية المضادة

وطوال سنوات الحرب تصدر زياد الرحباني المسرح النجومي للحياة الفنية في بيروت، وإلى جانبه السينمائي مارون بغدادي، وظاهرة "شعراء الجنوب" اللبناني، ومارسيل خليفة مغنيا قصائد محمود درويش بنفس موسيقي يستوحي بعضا من المدرسة الرحبانية.

لكن الرحباني الابن الضال أسس نجوميته على نفور من النجومية التقليدية السائرة. وهذا ما جعلها نجومية مضاعفة في استلهامها تراث أهله الفني، نقده والخروج عليه خروجا صارخا في سخريته وتهكمه منه، بنثر الكلام المستل من وقائع الحياة اليومية ومفارقاتها.

ثم لم يلبث زياد الرحباني أن جذب والدته فيروز، أيقونة لبنان الطوبى الساحرة، فجدد شخصيتها الغنائية بارتجالات كلامه الغنائي النثري وبألحانه وتأليفه وتوزيعه الموسيقيين المتجددين. وهو بذلك جدد العمر الفني والنجومي لفيروز، فقربها من ذائقة جيل جديد.

وفي مقالة عن فيروز في كلمات زياد، كتب أحمد بيضون أن "قمر الصباح الباكر (الفيروزي، صار) يحكي بلايا السهرة" الزيادية. وذلك لأن "البيت الذي كانت فيروز ترتبه فينا كل صباح (قد) تهدم". وهذا بعدما "ترك زياد حضن أمه (وراح) يعلـمها كلاما لم يتعلمه منها" في البيت.

 

مجلة المجلة السعودية في

01.08.2025

 
 
 
 
 

زياد الرحباني: حين يكون الموت ولادةٌ أخرى

سلمان الواسطي

كان زياد الرحباني عدة أشخاص مبدعين مجموعين في شخص واحد، لذلك كانت هناك صدمة لدى جمهوره بهذا الفقد الكبير.

يقول هايدغر "إن الموت ليس نهاية الكائن"، فالموت في نظره ليس انقطاعا بيولوجيا، بل لحظة يتكشف فيها هذا الوجود بأشد صورة صدقا وتجليا، فعندما يموت الإنسان لا يعود متاحا للتفاعل اليومي ولكنه يترك خلفه فراغا وجوديا، ذلك الفراغ يظهر قيمة حضوره السابق وأثره في المحيط الذي يعيش فيه كأن الموت يرفع الستار عن أهمية هذا الإنسان، لذلك شكل غياب زياد الرحباني أشبه بفقدان نقطة ارتكاز جمالية في وجداننا الجمعي، فكانت لحظة إعلان وفاته هو أشبه بإعلان ولادتهُ من جديد، وفق اشتراطات جمالية وفلسفية تم تشكيلها بشكل مباشر وبشكل تلقائي في نفوس الجماهير، يا لها من عبقرية جمالية وثقافية تُعاد التشكيل من جديد ليعود المبدع لدورة ثانية في الحياة، ولكن هذه المرة قد تمتد لمئات وآلاف السنين، لذلك يدرس النقد مثل هكذا ظواهر وسبب تشكيلها وتكوينها ولماذا حدثت هذه الصدمة لحظة الإحساس بالفقدان النهائي للمبدع!!

زياد الرحباني كان مقدر لهُ أن يسير وفق المسار الذي رسم لهُ من قبل والدهُ السيد عاصي الرحباني ووالدته السيدة فيروز أن يصبح موسيقارا متميزا ويسلك نفس مسار والدهُ وعمه، ليكتب ويلحن الأغاني والمسرحيات الرومانسية عن قصص الحب في الضيعة أو فلة من فلل الباشاوات والأغنياء ويبقى ضمن مسار رومانسي كلاسيكي حالم، ولكن تركيبتهُ الشخصية والثقافية التي تعمقت منذ بدايات قراءاتهُ في الاطلاع على الفكر الفلسفي وعلم الاجتماع والتاريخ جعلتهُ يرى الواقع والحياة في لبنان والعالم العربي بشكل مختلف، فهو رأى الواقع اللبناني مليئاً بالمفارقات: الطبقية، والطائفية، والنفاق السياسي، وتحولات المجتمع، خصوصا حين بدأت الأزمة اللبنانية تتفاقم منذ اندلاع الحرب الأهلية. كل هذه التحديات جعلت زياد الرحباني يختط لهُ مسار مختلف في تناول الحياة إبداعيا، أي ابتعد عن المسار التقليدي الذي كان يقدمهُ آل الرحباني خصوصا مع والدته التي كانت المحرك الملهم بصوتها لهُ ولآل الرحباني، فهو شعر من الصعب الانسجام بين ما يملك من دوافع إبداعية ومحركات نفسية وثقافية والواقع الذي يحيط به إذا ما مضى في المسار الموسيقي الرومانسي الكلاسيكي، فزياد لم يسخر ليُضحك فقط، بل كان يعمل على تفكيك الواقع أمام أعين الجمهور ليجعلهم يفكروا في خطايا وذنوب هذا الواقع وكيفية إعادة إصلاحه، ففي مسرحية" لبكرا شو" كان يطرح سؤلاً بسيطا ظاهريا لكنهُ يحمل قلقاً وجودياً عميقاً. والذي ميز مسرح زياد الرحباني وهو مسرح موسيقي وساخر أنهُ قدم أبطال من هامش الحياة ليقذف بهم إلى مواجهة جمهور لم يكن يتوقع أن يقدم هؤلاء المنسيون في الحياة والمهمشين تلك الأسئلة التي قد تبدو عبثية ولكن حقيقية إلى حد المرارة واللوعة، إنهم يتحدثون بلهجة الشارع لكنهم يطرحون أسئلة تشبه أسئلة نيتشه وسارتر ليسألوا أسئلة "من نحن؟" وهل نحن أحرار؟ ولماذا ممزقين إلى حد اللعنة!! وهذا ما نراه في مسرحية "فلم أمريكي طويل "و"كيفك أنت".

كان زياد الرحباني لا يحاكي الذوق العام ولا يطلب رضاه هو يريد أن يحدث ضجة في المجتمع وفضح تناقضاته، كان يبث أفكاره عبر الجمل والنغمات وخصوصا في المسرح فيعلوا هوس الجمهور فيه وفي أبطاله، حيث لم يعتد الجمهور من قبل بمثل هكذا جرأة سياسية وثقافية واجتماعية، فزياد فهم الفن عبارة عن ممر للوجع الجماعي، لم يكن يكتب لأنهُ يعرف الجواب، بل لأنهُ يشتبه بالأسئلة؟ كان فنه أشبه بمرآة مشروخة تعكس هشاشة الوجود اللبناني والعربي. ومع التحولات العربية للمجتمع في السياسة والفن والتطور، كان زياد يطور أساليب إبداعهُ وطرق الوصول إلى الجمهور، فهو يكاد الفنان والموسيقار الوحيد الذي يدور ويتأقلم مع كل تحول يحدث في الواقع اللبناني والعربي، فساعة تراه يتحدث إلى الجمهور وخصوصا الشباب عبر المذياع وأخرى عبر المسرح ويغيب فترة من الزمن وكأنهُ اختفى إلى الأبد ليعود من جديد بلحن كبير وكلمات نابعة من أزقة وحارات بيروت والبقاع والجنوب اللبناني فيلهم الجمهور ويسحرهم إلى حد الجنون!! كما في"كيفك أنت" حيث قدم أغنية في غاية الروعة من الكلمات والتلحين، حيث تلاعب في خلق توتر من خلال التلاعب بين الجاز والمقامات الشرقية فهي ليست أغنية للحب فقط بل تأمل في تغير الزمن والهوية العاطفية، وهذا ما لم يعتاد عليه الجمهور اللبناني والعربي من وجود مبدع يغامر ويختفي ليعود ويتكلم بنفس لغتهم اليومية ويحولها إلى المسرح والغناء. وأدى وجود والدتهُ السيدة فيروز بكبريائها الجميل وصوتها الساحر ورزانتها المتقدة إلى وجود ذلك المعادل الموضوعي لصورة زياد التي فيها كل هذا التناقض، أدى ذلك إلى حالة من تبادل الانبهار ما بين هاتين الشخصيتين من قبل الجمهور واستمر ذلك حتى ظهر جلي في مراسيم العزاء لزياد فكان الجمهور يترقب كيف ستظهر السيدة فيروز في وفاة ابنها الكاتب والموسيقار الملهم، هل ستحتفظ بنفس الوقار أم أنها ستنهار وتكون باكية منكسرة كما نرى ذلك في أغلب الفواجع، فكان ظهورها يناسب وقار إبداعها وقوة كبريائها، فبينما كان زياد يرقد رقدتهُ الأخيرة ويدور حوله الصخب، كان كبرياء حزن فيروز يرتل حوله أناشيد الفقد الأخير.

مع رحيل زياد الرحباني نفقد إيقاعا داخليا كان يعيد تشكيل الفوضى بصوت ساخر وحنين متوحش لا يكون الغياب مجرد نهاية، بل بداية جديدة لأسئلة لم تطرح بعد، زياد الرحباني كان عدة أشخاص مبدعين مجموعين في شخص واحد، لذلك كانت هناك صدمة لدى جمهوره بهذا الفقد الكبير.

 

ميدل إيست أونلاين في

01.08.2025

 
 
 
 
 

"أيام قرطاج السينمائية" يكرم زياد الرحباني في دورته الـ 36

دعاء فودة

أعلنت إدارة مهرجان "أيام قرطاج السينمائية"، تكريم الموسيقار والدراماتورج والممثل والصحفي اللبناني زياد الرحباني، خلال الدورة السادسة والثلاثين التي تُقام في الفترة من 13 إلى 20 ديسمبر 2025.

ويشهد المهرجان خلال دورته المقبلة في إطار التكريم، عرض مجموعة من الأفلام التي شارك فيها زياد الرحباني، إلى جانب تنظيم أنشطة خاصة خلال الفعاليات تسلط الضوء على مسيرته الفنية، ويأتي هذا التكريم تقديرا لمكانته البارزة في السينما العربية، حيث ارتبط اسمه بعدد من رموزها مثل فاروق بلوفة، رندة الشهال، قاسم الحول، ومارون البغدادي، سواء من خلال مشاركته كممثل أو تأليفه لموسيقى أفلامهم.

وأكدت إدارة المهرجان، أن حضور زياد الرحباني هذا العام سيكون من خلال حسّه الفني الفريد وذكائه الموسيقي، وليس عبر "فيلم أميركي طويل"، في إشارة إلى إحدى أبرز أعماله المسرحية الساخرة.

يذكر أن، مهرجان "أيام قرطاج السينمائية" هو أحد أعرق المهرجانات السينمائية في العالم العربي وأفريقيا، تأسس عام 1966 ويُعقد سنويًا في تونس، ويُعرف باهتمامه بالسينما ذات البعد الثقافي والاجتماعي والسياسي، مع تركيز خاص على إنتاجات الجنوب العالمي.

ويعد زياد الرحباني هو واحد من أبرز الفنانين العرب المعاصرين، وُلد عام 1956 وهو نجل المطربة فيروز والملحن عاصي الرحباني، عُرف بأعماله التي تمزج بين الموسيقى والمسرح والدراما، وبتقديمه رؤى نقدية للمجتمع والسياسة من خلال أسلوب ساخر ومباشر، كما وضع موسيقى عدد من الأفلام التي شكّلت علامات فارقة في السينما العربية.

 

بوابة أخبار اليوم المصرية في

01.08.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004