كان السينمائي:
"موجة جديدة" يستحضر عبقرية جان لوك غودار
سليم البيك
في الفيلم يقتبس غودار من الفنان الفرنسي بول غوغان قائلاً:
"الفن إما انتحال أو ثورة". ما فعله غودار، بدءاً من فيلمه الأول حتى
الأخير، كان ثورات سينمائية متتالية، كان ثورات على نفسه، لم يكن ينتحل حتى
من نفسه.
حسناً فعل الفيلم باتخاذ الموجة الجديدة عنواناً، وليس اسم
غودار أو اسم فيلمه. فإن كان من ضرورة لاختصار الموجة الجديدة في فيلم واحد
ففيلم غودار يستحقها، وإن كان من ضرورة لاختصار مسيرة غودار السينمائية
فالفيلم ذاته يستحقها.
للسبب ذاته الذي يمكن لأحدنا أن ينجذب (جداً) إلى فيلم
"موجة جديدة"، يمكن أن ينفر (جداً) منه. لسبب هو، تقنياً، خارج الفيلم، وإن
كان، بالقدر ذاته، داخله تماماً، هو جان لوك غودار الذي إن أحبه أحدنا
سيُسعد بفيلم هو تماماً عنه. وإن أحبه أحدنا، كذلك، قد لا يُسعد بفيلم لم
يكن كفايةً عنه.
الفيلم ليس تماماً عن المخرج الفرنسي الأسطوري، بل عن
عمليات تصوير أول أفلامه، بالتالي، بالكاد يظهر مشهد من دون غودار الشاب
الداخل بكل ثورية وتمرد من عالم النقد السينمائي إلى عالم الإخراج. ليس إذن
غودار، تقنياً، داخل الفيلم بل درامياً. هو هنا شخصية في فيلم روائي.
حبُّ أحدنا لغودار سبب خارجي عن الفيلم وهو تماماً داخلي
فيه لأن غودار تحوّل هنا إلى شخصية سينمائية، وإن تقصَّد الفيلم، لموضوعه،
موضوعيةً ضرورية تكون توثيقيةً لواحدة من اللحظات الانقلابية في تاريخ
السينما، أوائل الستينيات وعملية الخلق الإبداعي لأول أفلام غودار، "حتى
آخر نفس"، الأكثر تأثيراً في الموجة الجديدة الفرنسية وبالتالي في الصناعة
والثقافة السينمائيين في التاريخ.
الفيلم (Nouvelle
Vague)
للأمريكي ريتشارد لينكليتر الذي أحسن استحضار الموجة الجديدة وعلى رأسها
جان لوك غودار، في فيلم مصنوع بدقة توثيقية، مستخدماً، غير الجانب البحثي
التفصيلي لعمليات صناعة أول أفلام غودار، الصورةَ كذلك باستعادة حية لأفلام
تلك الحقبة، تصوير مونوكروم بالخلل الجمالي والبقع السوداء لتلك الأفلام،
بصوت أقرب ليكون مركَّباً، مستخدِماً تقنيات الموجة الجديد ذاتها في
التقطيع، وإن كان بحذر، وزوايا التصوير الزائحة من هنا وهناك في هذا المشهد
وذلك.
الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية، البديع شكلاً والممتع
مضموناً، استحق ليكون بموضوع هو واحد من أفضل الأفلام في التاريخ، فيلم
غودار الذي استطاع أن يستحوذ سمة الافتتاحي للموجة الجديدة الفرنسية
والأكثر تأثيراً فيها، من أفلام أخرى معدودة سبقته بأشهر أو أعوام قليلة،
أبرزها فيلم صديقه الذي كتب قصة "حتى آخر نفس"، فرانسوا تروفو بفيلم "٤٠٠
ضربة". يبدأ الفيلم من غودار الناقد في مجلة "كاييه دو سينما"، يحاول
الذهاب إلى مهرجان كان السينمائي لمشاهدة فيلم تروفو، يقرر من بعدها إنجاز
فيلمه بنفسه، وينتهي الفيلم مع عمليات ما بعد الإنتاج لفيلم غودار، فندخل
وإن سريعاً، في مفهوم غودار، التثويري، للمونتاج.
من خلال الأحاديث، وكانت بالفرنسية، ومن خلال الاقتباسات
التي يوردها غودار، القارئ النهم والناقد اللاذع قبل إنجاز أول أفلامه حتى
آخرها قبل رحيله سنة ٢٠٢٢، من خلالها، ومن خلال صور فوتوغرافية لغودار من
تلك الفترة تحولت هنا إلى لقطات سينمائية، يدخلنا الفيلم إلى الأفكار التي
كانت الأسس الذي شكّلت أفلام الموجة الجديدة. الفيلم إذن، كذلك، درس
سينمائي.
حسناً فعل الفيلم باتخاذ الموجة الجديدة عنواناً، وليس اسم
غودار أو اسم فيلمه. فإن كان من ضرورة لاختصار الموجة الجديدة في فيلم واحد
ففيلم غودار يستحقها، وإن كان من ضرورة لاختصار مسيرة غودار السينمائية
فالفيلم ذاته يستحقها. "حتى آخر نفس" يلخّص غودار كما يلخص الموجة الجديدة.
هو، بحد ذاته، حقبة سينمائية ثورية.
في الفيلم يقتبس غودار من الفنان الفرنسي بول غوغان قائلاً:
"الفن إما انتحال أو ثورة". ما فعله غودار، بدءاً من فيلمه الأول حتى
الأخير، كان ثورات سينمائية متتالية، كان ثورات على نفسه، لم يكن ينتحل حتى
من نفسه. الفيلم الرائع أتى تكريماً مستحقَّاً لهذا الغودار، الوحيد الذي
يُقال فيه إن السينما بعده ليست كما كانت قبله.
محرر المجلة. روائي وناقد سينمائي فلسطيني |