مهرجان كان السينمائي بين بريق الفن وسلطة السياسة
عبدالرحيم الشافعي
أبرز حدث سينمائي عالمي تحكمه السياسة وتوجهات دول الغرب.
أصبح مهرجان كان السينمائي أحد أكثر المهرجانات إثارة
للجدل، حيث تتصاعد الاتهامات الموجهة إليه بأنه تحول إلى قوة ناعمة تروج
أيديولوجيات وقيما ثقافية تخدم أجندات سياسية غربية، وبأن الجوائز التي
يمنحها فقدت جزءا كبيرا من مصداقيتها كما أنه يسير نحو تهميش السينما
العربية الجادة مقابل دعم تلك التي تظهر صورا قاتمة عن الأنظمة والمجتمعات
العربية.
يُعتبر مهرجان كان السينمائي واحدًا من أبرز المحافل
الثقافية في عالم السينما، لكن هل هو فعلا منصة للإبداع الفني فقط؟ أم أنه
بات يخضع لتوجهات سياسية وأيديولوجية تفرض نفسها بشكل متزايد على الجوائز؟
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب إعادة النظر في ممارسات المهرجان في السنوات
الأخيرة، والتفكير في كيفية تأثير السياسة على الاختيارات الفنية، ولاسيما
في قضايا مثل حقوق الإنسان، والجندر، والمثلية الجنسية، والمساواة،
والعنصرية.
ويحتل هذا الحفل السنوي مكانة خاصة في عقول صُنّاع السينما
وعشاقها، ولكنه لا يُعدّ منصةً محايدة أو غير متأثرة بالسياسات الثقافية
الغربية، ففي السنوات الأخيرة أصبح من الواضح أن المعايير التي يتم بها
اختيار الفائزين لا تتسم دائمًا بالحيادية، فبينما يتم تصوير المهرجان على
أنه مكان للاحتفاء بالسينما ذات الجودة الفنية الاستثنائية، إلا أن ما يعزز
هيمنته في الساحة الدولية هو أيضًا فرضه لنسق ثقافي معين، يتماشى مع قيم
وأيديولوجيات تهيمن على الخطاب الغربي، تلك الأيديولوجيات تجد طريقها إلى
الجوائز من خلال تمكين الأفلام التي تتبنى قضايا سياسية، اجتماعية أو
ثقافية قريبة من مواقف أوروبا الغربية، مثل القضايا المرتبطة بالجندر،
والمثلية الجنسية، وهو ما يجعل البعض يتساءل إن كان المهرجان فعلا يشجع على
الإبداع السينمائي، أم أن هناك لعبة ثقافية تقود إلى تكريس معايير فنية
مشروطة سياسيًا.
إن التصعيد في دعم قضايا مثل المثلية والجندر، قد لا يعكس
بالضرورة تطورًا إيجابيًا في السينما كفن، بقدر ما يعكس إستراتيجية سياسية
محكومة بالصراع بين الثقافات، إذ يُراد فرض نموذج ثقافي يعبّر عن الانفتاح
الغربي، وهذه الحركات السينمائية تُحتفى بها لكونها تُمثّل، بشكل أو بآخر،
ترجمة فنية لسياسات دولية تسعى لتمكين هذه القيم الثقافية في بقاع مختلفة
من العالم، وأصبح من الواضح أن المهرجان، وإن كان لا يعبّر عن موقف حكومي
مباشر، إلا أنه يعمل كأداة دبلوماسية ناعمة، فالفيلم الذي يروّج لقيم معينة
يرتبط ارتباطًا وثيقًا ببعض القوى الغربية الكبرى، ويُمكن أن يُرى ذلك في
الجوائز التي تُمنح لأفلام تحمل رسائل تحاكي قضايا تحظى باهتمام كبير في
الساحة السياسية الغربية.
◄
تترأس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية الممثلة الفرنسية
الشهيرة جولييت بينوش، لتقود مجموعة من الأسماء المتميزة في تقييم الأفلام
المتنافسة
ورغم محاولات مهرجان كان تقديم نفسه كمهرجان مفتوح للتنوع
الثقافي والفني، فإن هناك ميولا واضحة لرفض الأفلام التي تتعارض مع بعض
القيم الغربية المهيمنة، فالفيلم العربي الأصيل الذي يُسلّط الضوء على قوة
الثقافة العربية وهيمنة الثقافة الدخيلة، يجد صعوبة في الحصول على التقدير
نفسه الذي يحصل عليه فيلم يتناول قضايا تسيء للعرب والعروبة، رغم أن العالم
يُطالب بإنصاف القضية الفلسطينية مثلا أو سوريا أو العراق أو أفغانستان أو
لبنان، إلا أن مهرجان كان لا يبدو حريصًا على منح هذه القضايا الصوت الأوسع
في مسابقاته الرئيسية، فغالبًا ما يتم تقديم هذه الأفلام في أطر ثانوية أو
هامشية أو لا تقبل أساسا، أو يُكتفى بإشارات رمزية لها، من دون أن تكون في
بؤرة الاهتمام.
ويضع مهرجان كان سينما المؤلف في قلب رؤيته، حينما يُمنح
المخرجون سلطة كبيرة على أعمالهم، ويُعتبرون كالمبدعين الرئيسيين في
العملية السينمائية، بينما يمكننا أن نرى أن هذا التوجه يتحول أحيانًا إلى
فخ يتسلط فيه بعض المخرجين الغربيين على توجهات سينمائية مهيمنة تُبرز
موضوعات تخدم أجندات ثقافية معينة، فالأفلام التي تتناول قضايا الهوية
والهويات الجندرية تصبح محط اهتمام أكبر، بينما يُنظر إلى الأفلام التي
تتناول موضوعات أخرى، مثل السياسة أو الاقتصاد بطريقة مباشرة، على أنها أقل
أهمية من الناحية الفنية.
ويعمد المهرجان إلى تكريس صورة الآخر ضمن سياق ثقافي محدد،
فتصبح الأفلام التي تُظهر معاناة الإنسان في الجنوب العالمي، خاصة في
أفريقيا، أميركا اللاتينية، أو العالم العربي، مشهدًا عاطفيًا يُعزز من
صورة مأساة الضحية، ولكن هذا التقديم يأتي بشكل غير موازٍ مع ما يُمكن أن
يُعتبر خطابًا ثقافيًا حقيقيًا وجادًا، إذ كثيرًا ما يتم تجريد هذه الأفلام
من عمقها السياسي أو الاجتماعي، لتحويلها إلى مجرد صور رمزية عن المعاناة،
التي تُستهلَك في سياق غربي، وفي هذه الحالة يضع المهرجان نفسه في موقع حكم
عالمي على فنون السينما، ويتبنى في الكثير من الأحيان قيما تنسجم مع الغرب
ولا تأخذ في الاعتبار السياقات الثقافية الأصيلة لهذه الأفلام.
ولنكن صريحين فأفلام السينما العربية التي تسيء لحكام الدول
العربية تقبل والتي تحتفي بحكامها وسياستهم غالبًا ما تُستبعد من جوائز كان
أو تُمنح في إطارات هامشية، والسبب لأن بعض المواضيع السياسية لا تنسجم مع
المناخ الفني والسياسي الذي يُروّج له في المهرجان، فالموقف الصريح ضد
الاحتلال الإسرائيلي مثلا، والذي يُعبّر عن معاناة الشعب الفلسطيني، غالبًا
ما يتعرّض للحجب أو التخفيف، في حين يتم منح الجوائز لأفلام تحمل رسائل
غامضة لا تشخص المسؤولية بشكل مباشر. ويُنظر إلى هذه الممارسات باعتبارها
خضوعًا للضغوطات السياسية التي تسعى إلى تجنب المساءلة الفعلية بشأن قضايا
الشرق الأوسط، بما في ذلك قضية فلسطين.
ويمكن الحديث هنا أيضا عن دبلوماسية الجوائز، أي أن الجوائز
تُمنح استنادًا إلى الاعتبارات السياسية والثقافية، فمن غير المستغرب أن
الأفلام التي تتناول قضايا مثل المساواة والنسوية، وحقوق المثليين، أو
التغيرات الاجتماعية المُتسارعة في الغرب، تتلقى تقديرًا أكبر مقارنة
بالأفلام التي تطرح قضايا اجتماعية أو سياسية في الجنوب العالمي، كل هذا
يثير تساؤلًا مهما: هل تظل السينما وفية لجوهرها كفن، أم أنها تحولت إلى
مجرد أداة دعاية تعكس مصالح ثقافية وسياسية معينة؟
◄
الفيلم الذي يُسلّط الضوء على قوة الثقافة العربية لا يحصل
على التقدير الذي يحصل عليه فيلم يسيء للعرب
لا يمكننا أن ننكر أن مهرجان كان يبقى واحدًا من أكثر
المهرجانات السينمائية تأثيرًا في العالم، ولكن هل هو مهرجان فن بحت، أم أن
السياسة والأيديولوجيا أصبحتا تتحكمان في اختياراته؟ حقيقة الأمر أن الكثير
من الأفلام التي فازت بالجوائز في السنوات الأخيرة قد لا تكون هي الأفضل
فنيًا، لكنها تجسد بعض القيم السائدة في الغرب وتروّج لها، وهذا يعد تحولًا
في مفهوم الجوائز السينمائية، فإذا كان مهرجان كان يسعى إلى الحفاظ على
مصداقيته كأهم مهرجان سينمائي في العالم، عليه أن يتعامل مع هذه القضايا
بموضوعية، دون الانحياز إلى طرف على حساب آخر، وأن يحافظ على جوهره كمنصة
سينمائية بحتة دون التورط في معركة الأيديولوجيات.
وهذا العام، ينعقد المهرجان في نسخته الثامنة والسبعين
بمدينة كان الفرنسية خلال الفترة من 13 إلى 24 مايو، مستقطبا أبرز نجوم
وصنّاع السينما من مختلف أنحاء العالم. وتترأس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية
الممثلة الفرنسية الشهيرة جولييت بينوش، لتقود مجموعة من الأسماء المتميزة
في تقييم الأفلام المتنافسة، من بينهم هالي بيري، هونغ سانغ سو، كارلوس
ريغاداس، ألبا رورفاكر، جيرمي سترونغ، ليلى السليماني، ديودو حمادي، وبايال
كاباديا، كما شهد المهرجان لحظة مؤثرة بتكريم الممثل الأميركي روبرت دي
نيرو عبر منحه السعفة الذهبية الفخرية، في تقدير لمسيرته الطويلة في عالم
التمثيل.
وتنافس مجموعة كبيرة من الأفلام ضمن المسابقة الرسمية لهذا
العام على جائزة “السعفة الذهبية”، وتشمل القائمة أعمالًا سينمائية من
بلدان متعددة تتنوع بين أوروبا، آسيا، وأميركا الشمالية. من أبرز هذه
الأعمال: “ألفا” لجوليا دوكورناو (فرنسا، بلجيكا)، “الملف 137” لدومينيك
ماريا (فرنسا)، “مت يا حبي” للين رامزي (الولايات المتحدة)، “نسور
الجمهورية” لطارق صالح (السويد، فرنسا…)، و”إدينغتون” لآري أستر (الولايات
المتحدة)، كما يشهد قسم “نظرة ما” تنافسًا قويًا بين أفلام تحمل رؤى
إبداعية مختلفة، مثل “عائشة لا تستطيع الطيران” لمراد مصطفى (تونس، قطر،
مصر)، “التسلسل الزمني للمياه” لكريستين ستيوارت، و”أنا لا أرتاح إلا في
العاصفة” لبيدرو بينهو. ويتميز هذا القسم بتنوع المواضيع التي تناولتها
الأفلام وبمشاركة عدد من المخرجين الجدد المؤهلين لجائزة “الكاميرا الذهبية”.
وأدرج المهرجان ضمن فقراته الرسمية عددًا من الأفلام خارج
المنافسة، إضافة إلى أقسام خاصة مثل العرض الأول في كان، والعروض الخاصة،
وكلاسيكيات كان، وفي قسم العروض الأولى، هناك أفلام مثل “أمروم” لفاتح
آكين (ألمانيا)، “الحب في المحاكمة” لكوجي فوكادا (اليابان، فرنسا)،
و”أورويل: 2+2=5″ لراؤول بيك، بينما في قسم العروض الخاصة يستعرض أعمالًا
بارزة منها “أميلي الصغيرة أو شخصية المطر”، و”الرجل الذي رأى الدب”.
ولم ينس المهرجان تثمين السينما الكلاسيكية من خلال عرض نسخ
مرممة من أفلام قديمة مثل “باري ليندون” لستانلي كوبريك، “حمى الذهب”
لتشارلي شابلن، و”حب الكلاب” لأليخاندرو إيناريتو. وقد “رسّخ” هذا التنوع
مكانة مهرجان كان كأحد أبرز الفعاليات السينمائية عالميًا، جامعًا بين
الماضي والحاضر، وبين النجوم الكبار والمواهب الصاعدة.
ناقد سينمائي مغربي |