ملفات خاصة

 
 
 

«رأس الممحاة»…

عندما تصنع فيلمًا من الكوابيس

أندرو محسن

عن رحيل المخرج العبقري

ديفيد لينش

   
 
 
 
 
 
 

الكتابة عن أعمال المخرج الراحل ديفيد لينش ليست سهلة على الإطلاق، والكتابة عن فيلمه الطويل الأول “رأس الممحاة Eraserhead مسألة معقدة بالتأكيد. ففيلم لينش الذي أعلن مبكرًا عن مخرج سريالي فريد هو عمل سينمائي شديد التعقيد، وقابِل للعديد من التأويلات.

أثناء البحث لكتابة هذا المقال، وجدت ميلًا لدى عديد من النقاد لاستخدام الخوف من الأبوة مدخلًا لتفسير هذا الفيلم، فبطل الفيلم هنري (جاك نانس) لديه مشكلة في التعامل مع الطفل المشوه الذي تركته له زوجته، كما أن نموذج الأسرة الوحيد الذي شاهدناه، أسرة ماري (شارولت ستيوارت) كان شديد الغرابة إلى حد التشوه

لهذا رأيت عدم طرح المزيد من النظريات، بل الحديث عن فن تحويل الكوابيس إلى سينما، ذلك التيار الذي بدأه السيريالي العظيم لويس بونويل وأحياه ديفيد لينش في “رأس الممحاة“، فالبطل هنري يبدو وكأنه يعيش كابوسًا مكتمل الأركان. رغم ما تبدو عليه الكوابيس والأحلام عمومًا من سيولة يصعب معها وضعها ضمن قالب محدد، فبإمكاننا أن نجد تعريفات محددة لها في الكتب العلمية، وملامح مشتركة بينها أيضًا. طبقًا للموسوعة البريطانية

الحلم: مجموعة من الصور والأفكار والعواطف تقع أثناء النوم

الكابوس: حلم مخيف يصيب الشخص النائم.

لنبدأ بالأشياء الواضحة، أول ما يميز الكوابيس هو أنها تبدو حية وحقيقية: هنري شخص طبيعي يعمل في وظيفة مفهومة ويحب زميلته في العمل. الأشخاص في هذا الفيلم حقيقيون، بعض ملامح العالم حقيقية جدًا، بل وذات تفاصيل دقيقة، لكنها مثل الكوابيس ينقصها شيء ما كي يكون العالم مكتملًا، بل نراه مُختزلًا وغير متناسق. مثلًا؛ الرواق في مدخل عمارة هنري لا يبدو متماشيًا مع شقته الضيقة المهترئة. داخل هذه الشقة لديه سرير مسالم ومدفأة كهربائية ونبتة بجوار السرير، لكن لا المدفأة طبيعية تمامًا ولا النبتة موضوعة في أصيص؛ بل تبدو كأنما هي مزروعة مباشرة على الخزانة الجانبية. ورغم أن أغلبية الأشخاص يبدون طبيعيين، ويعرفهم هنري، فإننا لا نشاهد أي شخص خارج الأحداث، كما في الكثير من الأحلام. نحن نشاهد ونلاقي فقط من لهم دور.

هناك أيضًا ذلك الشعور بالانزعاج أو القلق أثناء الكوابيس، وهذا يمكن ملاحظته منذ اللقطة الأولى. يظهر هنري وفي عينيه نظرة من انعدام الراحة وعدم الفهم، نشاهدها مرارًا خلال الأحداث كرد فعل على مواقف مختلفة. يبدو طوال الوقت مهددًا، ولا توجد لحظة سعادة مكتملة واحدة خلال الأحداث. حتى مشاهد ممارسة الجنس، أو ما يبدو كممارسة للجنس في البداية، لا نشاهد فيها أي عاطفة أو استمتاع ولا حتى تقارب جسدي. التلامس بغرض الجنس ظهر مرتين الأولى من الأم التي قبلت هنري بشكل مُقتحِم، وهو ما يُكمل حالة الانزعاج لديه، والأخرى عندما حاول الأخير لمس زوجته لترفضه بحدة

ماذا عن الطفل المشوه؟ يتعامل الزوجان في الفيلم مع الطفل وكأنه طفل بالفعل، لا يقفان عند شكله الذي لا ينتمي إلى عالم البشر بحال، لكنهما ينشغلان ببكائه ومرضه. يمثل هذا أكبر تهديد واضح لبطل الفيلم، وهذا أيضًا من معالم الكوابيس الشهيرة، أن يصارع الإنسان خطرًا يهدده. هذا الطفل قد يكون السبب في قتل هنري، الذي ينتهي نهاية غرائبية، هو لا يمون بالمعنى المتعارف عليه، بل يتحول رأسه إلى ممحاة، هل هناك ميتة “حالمة” أكثر من ذلك؟! وإذا تغاضى هنري عن قدرة الطفل على قتله، فإنه لن يقدر على تجاهل بكاؤه الذي لا ينقطع ولا يجد طريقة لإسكاته.

لا يستيقظ أي شخص راضيًا أو سعيدًا من الكابوس، ورغم ما يظهر في نهاية الفيلم من اجتماع هنري مع الفتاة الغريبة التي تغني داخل المدفأة، فإن ما يسبق هذا مباشرة هو قتله للطفل المسخ. لا يمكن أن نأخذ موقفًا واضحًا من هذا القتل، إذ يعتمد هذا على تفسيرنا لطبيعة الطفل نفسه. فقد يكون هذا القتل خلاصًا من الابن وما يمثله من مسؤولية، أو خلاصًا من عائق يمنعه من الوصول إلى حلمه، لكن التفسير لن يغير شيئًا من بشاعة العملية ودمويتها ووقعها على هنري نفسه، فهو يشك في مدى صحة ما يفعله.

حاول مخرجين كثر التعبير عن الأحلام أو الكوابيس في أفلامهم، هيتشكوك استعان بأحد أعمدة السريالية، سلفادور دالي، لصناعة تتابع الحلم في فيلم “ذهول Spellbound”، لكن ما قدمه ديفيد لينش في هذا الفيلم هو أقرب لحلم كامل منذ أول مشاهده وحتى الإظلام الأخير، وهو يجعله تجربة شديدة التفرد.

عندما تُذكر الأفلام السريالية فإن الأعمال الأكثر شهرة كانت في نهاية عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضي، كأفلام لوي بونويل وجان كوكتو. وهذا ما قدمه لينش في أول أفلامه عام 1977، محققًا إنجازًا متفردًا، إذ نافس بعد عدة عقود أساطير السريالية، حتى صار مرجعًا وملهمًا للسريالية السينمائية. ورغم أن أفلام لينش التالية تبدو أقل غرائبية من “رأس الممحاة” فإننا سنجد نواة لجميع أفلامه بشكل واضح لا تخطئه العين في هذا الفيلم، فكأنما وضع دستوره الشخصي بأكمله فيه.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

04.02.2025

 
 
 
 
 

ديفيد لينش: نسق سينمائي على الضدّ من سينما هوليوود

سعد العشه

باتت سبعينيّات القرن الـ20، في الولايات المتحدة الأميركية، مهدَ ما يُعرَف الآن بأفلام أو عروض منتصف الليل. جُلّها أميركي، لكنّ فيلمًا أجنبيًا أطلقها: "الخُلْد" (El Topo، 1970) للتشيلي أليخاندرو خودوروفسكي. في نهاية العقد، ظهر أول أفلام الأميركي ديفيد لينش (1946- 2025) "رأس الممحاة" (Eraserhead، 1977). يجمع بين هذه العروض أسلوب الـ"كامب (camp)"، الذي ينتهج السخرية المبالغ بها، ماثلة في عناصر الفيلم كافةً: نص وتصميم إنتاج، وحتى التمثيل.

حين سُئِلَ عمّا ألهَم الكابوس المتجسّد في الفيلم، أجاب لينش ببساطة: فيلادلفيا. فالمدينة غدت حينها "مريضة، مخبولة، عنيفة، يأسرها الخوف، مُنحطّة، فاسدة" (جي. هوبرمان، "نيويورك تايمز"، 21/ 1/ 2025). ستشكّل هذه الاهتمامات، بالقبح والعنف، نصف معادلة ما يُسمّى بـ"اللينشي"، نسبة إليه. وعلى غرار العوالم التي اكتسبها سينمائيون وسينمائيات من أسمائهم، "سهلٌ التعرّف عليه، وصعبٌ تعريفه في آنٍ" (المصدر نفسه). صعبٌ بالنسبة إلى من دأب على دراسة أفلامه وفنونه التشكيلية وموسيقاه. هكذا نقف على ما يسهل التعرّف عليه في أفلامه العشرة الطويلة، وفي عقودٍ ثلاثة.

بدايات

والحال أنّ لينش، الوافد إلى سينما الثمانينيّات في أميركا، ينهل من نسق سينمائي على الضدّ من سينما هوليوود المحتشمة نسبيًّا في العقدين السابقين، قبل أنْ تنتهي حقبة "قانون هيز"، التي فرضتها الرقابة حتى 1968. وإذْ تأثّر الوافدون الجدد بالموجات الجديدة عبر أوروبا والعالم، اختلفت أساليبهم ومواضيعهم. فبعد استحسان تجربته الأولى، تكبر ميزانية فيلمه الثاني (الرجل الفيل، The Elephant Man، 1980) مُتجاوزًا نجاح الأول، فينال الشاب ثقة الاستديوهات الكبرى في توزيع أفلامه.

كانت هذه أكبر إخفاقات "كثيب" (Dune، 1984): الرداءة المُكلفة على يدي أهم المخرجين الصاعدين (40 ـ 42 مليون دولار أميركي، من دون حساب معدّلات التضخم). مشكلة الفيلم النص أساسًا، الذي تتحوّل فيه الأحلام والكوابيس اللينشية إلى رموز متكرّرة، وتُسرَد فيه الحكاية على لسان راوية نسمع صوتها مرّتين أو ثلاثًا، بينما نسمع أفكار الشخصيات الفائضة في ما يشبه مناجاة شكسبيرية رخيصة. فضلًا عن علاقة حب تخرج فجأة، وحروب تدار من دون خلفية درامية. إجماع النقّاد ولينش نفسه على رداءة الفيلم، حتى في أبسط عناصره، خلق قطيعة السينمائي مع الاستديوهات ونواهيها. هذا فطن إليه خودوروفسكي، زميل منتصف الليل، الذي اختير أولًا لاقتباس الفيلم وإخراجه.

تتخمّر صفة اللينشي في فيلميْه التالييْن: "المخمل الأزرق" (Blue Velvet، 1986) و"قلبٌ جامح" (Wild at Heart، 1990)، أو "همجي الهوى". ينجز الأول عن نص أصلي يغزو صُور الرخاء المزعوم في بلدة نائية، ويقتبس الثاني من رواية لا تبتعد من ثيمات الـ"فيلم نوار".

يكتب روجر إيبرت في "شيكاغو صن تايمز" (19/ 9/ 1986): "يجوز أحيانًا التعامل مع الجنس والعنف بالجدّية التي يستحقانها. فإزاء وطأة المشاهد القاتمة في الفيلم، يزداد إحباطنا من عزوف المخرج على تتبّع خطى أفكاره". تنتهي قوة الفيلم حين يختار لينش تغيير المزاج، فجأة، من القسوة والعنف إلى الازدراء والإشارات البصرية الجامدة، التي بدأ بها، ساخرًا من كل ما يمثّل البلدة، لا سيما التعامل مع شخصية إيزابيلا روسيلّيني، التي تهان وتُعنَّف فقط كأداة للهجاء، بعكس ما فعل برناردو برتولوتشي في "التانغو الأخير في باريس" (1972)، كما رأى. يتساءل إيبرت في النهاية: "ما الأسوأ؟ أنْ تصفع وتعنّف الآخر، أمْ أنْ تنسحب وتضحك؟".

انتقادات

لئن غدا انتقاد أفلام لينش محمولًا على مسؤوليّات أخلاقية، فـ"القلب الجامح" لم ينجُ من ناقد شيكاغوي آخر، جوناثان روزنبام، الذي كان من أوائل أنصاره، عندما وصف "رأس الممحاة" بأفضل أفلامه في مقالتيْن، تُركّز إحداهما على إخفاق هذا الفيلم كاقتباسٍ فاشل لرواية، نُزِعَ الجيّد منها واسْتُبدِل بالصُور نفسها التي هاجمها إيبرت. ذاك أنّ العالم الذي يُصوّره الفيلم "مكان خبيث، يعجّ بالمحتالين والكوارث و"الأفكار السيئة" (اقتباسًا من بطل الفيلم)، ولكن يسكنه أيضًا بضعة حمقى أتقياء يُبرؤونه" (الموقع الإلكتروني الخاص به، 28/ 7/ 2022).

لا يبني لينش هذه المانوية الفجّة على ملاحظات اجتماعية، أكانت صحيحة أمْ لا. فالملاحظة بالنسبة إليه، كما يرى روزنبام، فائضة، والعالم لا يتغير، ويجب استغلال هذه الآراء تجاريًا وفنيًا: "بيد أنّ غايته، كما يبدو، أنْ يحظى ببعض "المرح"، وهذه غاية جدّيّة حين نتحدث عن صناعة الأفلام، إذْ يصعب الاشتباك معها من دون لعب دور مُفسد المتعة" (الموقع نفسه، 17/ 7/ 2022). هذه الأخيرة تنسحب على ردود كوانتن تارانتينو إزاء استسهاله العنف في أفلامه.

يكمن عجز الممثلين، نيكولاس كايج ولورا ديرن، في "الاهتمام الأساسي للينش بصنع الأيقونات والرموز، وليس بصنع الشخصيات بالمرّة. فعندما يتعلّق الأمر بصُور الشرّ والفساد والخبول والشغف وتشويه الجسد (تقريبًا بهذا الترتيب)، نجد في "القلب الجامح" وفرة أصيلة" (المصدر نفسه). أغلبّ الظن أنّ فوز الفيلم بالسعفة الذهبية للدورة الـ43 (10 ـ 21 مايو/أيار 1990) لمهرجان "كانّ"، مردّه هذه الأسباب.
في غزوته التالية، هاجم لينش التلفزيون، الذي ألهم عالم "المخمل الأزرق"، بسلسلة "توين بيكس"، التي مَطّها إلى فيلم (1992)، ألحق به "الطريق السريع المفقود" (
Lost Highway، 1997)، الذي ماثل الأسلوب نفسه.

في "قصة ستريت" (The Straight Story، 1999)، يكاد اللينشي يختفي تمامًا في "تلاوة" قصة مقتبسة عن واقع. التورية في العنوان غمزة للمُشاهد، تشير إلى استقامة الحكاية وسلاستها، من دون أيقونات ورموز. لعلّه من أحب أفلامه المنسيّة لدى النقّاد والأنصار: حكاية مزارع هرم يقود جزازة عشب نحو 400 كم، كي يزور أخاه المريض.

بمناسبة الحديث عن إجماع نقدي، ربما أجمع النقاد وصنّاع الأفلام على منح لقب "تحفة ديفيد لينش" لـ"طريق مولهولاند" (Mulholland Drive، 2002)، بل اعتلى صدارة أعظم الأفلام في القرن الـ21، في اقتراع نظّمته "بي. بي. سي."، شارك فيه 177 ناقدًا سينمائيًا عام 2016، أي قبل أنْ يتمّ القرن ربعه الأول. فيه خلاصة لقطاته وموسيقاه، إذْ يظلّ نقطة الانطلاق والرحيل في زيارة أعماله.

يقترن "طريق مولهولاند" بفيلمه العاشر والأخير، "الإمبراطورية الحبيسة" (Inland Empire، 2006). الفيلمان مُشتبكان بحدّة مع هوليوود كخاتمة لاشتغاله السينمائي، الذي سيستمر في أشكال أخرى. البعض يعتبر، كما أعتبرُ أنا، أنّ "توين بيكس: العودة" (2018) فيلمٌ. وإضافة إلى الكتابة والإخراج، صوّر لينش فيلمه بكاميرا منخفضة الجودة، واشتغل بنفسه على موسيقاه وصوته.

يُذكّر روزنبام بصلة فيلادلفيا بـ"رأس الممحاة"، ويرجّح أنّ إجابة لينش بشأن الإمبراطورية هذه ربما تكون هوليوود. هذا في مقالة تمدح كلّ دقيقة في الساعات الثلاث للفيلم. بات لينش يؤمن هنا بأنّ الحياد والبراءة في هوليوود "سيقوّضان حريته كفنّان، وأنه، شاء أمْ أبى، مُجبرٌ على اتّخاذ موقف سياسي. وإذْ نشاهد لورا ديرن تتقيّأ دمًا على ممشى المشاهير في هوليوود، (يكون) الموقف هنا واضحًا تمامًا".

إعادة خلق الذات

ما تبدّى من النصوص الأصلية للينش الفضاء الأنسب لإعادة خلق نفسه كفنان بصري بامتياز. ففي "رأس الممحاة"، لم يجترّ رموزًا قابلة للتفكيك، بل مفتوحة للتأويل، أي ضد التأويل، ومن دون الاستغناء كلّيًا عن السرد وإنْ بدا غائبًا. فالفيلم ليس ترفيهيًا أبدًا، ولا تجريبيًا أيضًا، بل يوائم الساحة التي جاب فيها جان ـ لوك غودار وتلاميذه. وحين "اخترع" لقطات بصرية في بعض أفلامه، لم يُركّب فذلكات موازية على غرار تلك التي يهاجمها منتقدوه (الحلقة الثامنة في "توين بيكس: العودة" نموذجًا على الاختراع ذاك). أما عندما تقشّف تمامًا في فيلمه الأخير، لم يؤلّف مانيفستو لصنع الأفلام، كما الحال في "دوغما 95".

أحيانًا، استبدل طاقته البصرية بنصوص حالت بينه وبين الإطار. وأحيانًا أخرى، صارت نصوصه الأصلية نفسها مرجعًا، فصارت "سورياليته" محسوبة وجامدة، تسعى إلى إرضاء معجبيه عندما يُغذّيهم بمحتوى لينشي كلّ مرة.

ربما يظلّ أعظم إنجازاته ماثلًا في شخصياته الأبهى، تلك المؤمنة بأنّ معرفة الذات كلّ المعرفة، فتصير الطريق إلى اكتسابها رهينة الأحلام والاستيهامات اللذيذة والكوابيس. نهجٌ لا ينتهي سوى بالموت، ولا ينشغل سوى بالمعرفة.

 

ضفة ثالثة اللندنية في

14.03.2025

 
 
 
 
 

استعادة "لينش/أوز": عوالم ساحرة وغريبة

سعيد المزواري

بعد الأسى العميق، الذي خلّفه رحيل ديفيد لينش (16 يناير/كانون الثاني 2025) بين مُحبّيه، وسيل من تدوينات سينمائيين تتفكّر في إرثه وأثره الملهم، يُنتظَر تنظيم عروضٍ لأهمّ أفلامه، احتفاءً بذاكرة ومُنجز فيلميّ هائل بتفرّده وتأثيره الشاسع، الممتدّ في المكان والزمان. أعادت صالات باريسية برمجة تحفته المطلقة "مولهولاند درايف" (2001)، وتنظيم عروض استرجاعية لأفلامه في صالة "بليموث" بمينيسوتا، في فبراير/شباط ومارس/آذار 2025.

لعلّها فرصةٌ لـ"إعادة" اكتشاف "لينش/أوز" (2022)، لألكسندر أ. فيليب، الذي لم ينل ما يستحقّ من العرض والإشادة. يتجاوز الفيلم سبر تأثير "ساحر أوز" (1939)، الفيلم الكلاسيكي لفيكتور فليمنغ، على لينش، ليرسم في 108 دقائق صورة فسيفسائية لخريطة مخيال المخرج الغرائبي، بتشريح مئات المقاطع من أفلامه (ولوحاته التشكيلية) في تقاطعها مع "ساحر أوز"، برؤية ستة سينمائيين (نقّاداً ومخرجين)، انطلاقاً من جواب لينش على سؤال أحدهم، إثر عرضٍ لـ"مولهولاند درايف" بـ"مهرجان نيويورك للفيلم": "لا يمرّ عليّ يومٌ من دون أنْ أفكّر في ساحر أوز".

ينتمي "لينش/أوز" إلى مفترق طرق بين وثائقيّ التحقيق وفيلم التفكّر (Essai)، في ستة فصول تمزج، بشكل جذّاب وسخيّ، بين ذاتية رواتها، الذين ينطلقون من ذكريات طفولتهم مع كلاسيكي فليمنغ، وتقاطع منجزهم مع صُوره وتيماته، ليغوصوا شيئاً فشيئاً في رؤيتهم للعلاقة الملغزة بين جائشة مخرج "الرجل الفيل" (1980) وأجواء قصة ليمان فرانك بوم، أول قصة تخييلية أميركية وُجّهت إلى الأطفال خصوصاً، لتغدو من الأكثر شعبية في أميركا، وتخلب ألباب الكبار، مُنتجةً سلسلة لا تنتهي من الاقتباسات للسينما والمسرح والبرامج التلفزيونية، وتترسّخ في المخيلة الشعبية عامة، والهوليوودية خصوصاً، إلى درجة أنّ باحثين في جامعة تورينو حلّلوا بيانات 47 ألف فيلمٍ منتمٍ إلى 26 نوعاً، فخلصوا إلى أنّ "ساحر أوز" أكثر الأفلام تأثيراً متفوّقاً على "حرب النجوم" (سلسلة جورج لوكاس بدءاً من عام 1997) و"2001: أوديسا الفضاء" (1968) لستانلي كوبريك، و"كينغ كونغ".

يذهب التحليل إلى أبعد من الحوافز البديهية في سينما لينش، المُثارة في الفصل الأول "ريح" من الناقدة إيمي نيكولسون، كحضور خطوط الطريق الصفراء إشارة إلى "سبيل الطوب الأصفر" المؤدّي إلى أوز، أو عودة الستائر في جلُ أفلام الجهبذ الأميركي كانعكاس للخدعة التي يختفي وراءها ساحر أوز، باعتبارها استعارة عن الخداع الكامن في قلب مقارباته الفنية، ما يفسّر ربما إحجامه المبدئي عن التعليق المُفصّل على أفلامه، ورفضه القاطع شرح أبعادها الموضوعية. هناك أيضاً الأحذية النسائية الحمراء، ذات الكعب العالي، التي توحي بالحنين للعودة إلى المنزل، كشعور لينشيّ بامتياز، نظراً إلى تحبيذه البقاء ببيته، والانشغال بالإبداع والاشتغال اليدوي في محترفه، أو بتعبيره عنه من خلال شخصيات أفلامه، وفي مقدّمتها العميل كوبر في "توين بيكس" (1992)، أو الزوجان سايلور ولولا في "وايلد ات هارت" (1990).

لكنّ الجانب الذي استأثر بالجزء الأكبر من التحليل، انطلاقاً من رواية رودني آشر (مخرج "الغرفة 237" في تأويلات "ذا شاينين")، كيفية استلهام لينش بنية حكي "ساحر أوز"، التي تُستهلّ بحياة دوروتي البريئة والبسيطة بكانساس، ليقود تعرّضها لإصابة في الرأس، إثر إعصار عنيف، إلى رحلة في عالمٍ مُواز، ولقائها شخصيات قرينة (Doppelgangers) لأشخاصٍ من العالم الأصلي، تستفيق بعدها في منزلها، بعد مسار "وراء قوس قزح" (كما تقول الأغنية الشهيرة)، يبدو كحلم/كابوس لكنّه أكثر حقيقية من الواقع نفسه، نستكشف بفضله وجه العملة القاتم للحياة في المجتمع الأميركي.

هذه لازمات تعود في أشكال وتنويعات مختلفة، خصوصاً في "المخمل الأزرق" (1986)، و"توين بيكس" و"مولهولاند درايف"، مع تبئير خاص من آشر على المشهد الشهير من هذ الأخير، لتداخل واقع رجل مع كابوسه حول لقائه بصورة مفزعة لرجل متشرّد وراء مطعم "وينكيز". مشهد مفصلي يعود في فصل رابع بعنوان "تعدّد"، قد يكون قلب الفيلم، وأكثر أجزائه تكاملاً. ليس فقط لأنّه يُقدّم إحدى أجمل وأبرع القراءات في "مولهولاند درايف"، بل لأنّه يقبض بلغة الصُوَر والمرجعيات على فكرة تجذّر مخيال لينش في اللاشعور، وكيف أنّ "ساحر أوز" طبع مُنجزه بشكل يتجاوز العقلانية، ليعانق بعد تأثّره بفلسفة التأمّل المتسامي، وطرحها حول تجاور الخير مع الشر، وكيف أنّ كلاً منهما لا يُمكن أن يُستشعر إلا بتلازم مع الآخر، ثمّ التعدّد الراسخ في شخصيات المخرج (وبالضرورة في داخله)، بالطريقة نفسها التي تحمل بها دوروتي، من دون أنْ تعي ذلك، شيئاً من الأسد الجبان، والحطّاب القصديري، ومن الساحرتين الشريرة والخيّرة عل حدّ سواء.

يحتوي الفيلم كذلك على فصلين للمخرجين روجر واترز وديفيد لوري (قصّة شبح). الأول قصير نسبياً، بعنوان "قرابة"، يُعبّر فيه واترز، مُتسلّحاً بسخريته اللاذعة، عن تأثير "ساحر أوز" على أفلامه، مُعرّجاً بين الفينة والأخرى على علاقته الخاصة بلينش، ودفاعه عن أفلامه منذ "رأس ممحاة" (1977) إلى الجزء الثالث من "توين بيكس"، الذي يعدّه أفضل أعماله على الإطلاق، ومُخصِّصاً حيّزاً مُهمّاً للاحتفاء بشخصية ساحرة أوز، وإعجابه بمؤدّيتها مارغريت هاميلتون.

أما لوري، فيستعير بلاغة "الحفر" ليُعبّر عن مقاربة لينش في النبش وراء الأفكار نفسها، وكيف تُعدّ علاقته المصفوفية بـ"ساحر أوز" أفضل تجسيد لمفهوم الهوس بتفاصيل بعينها (يُقدِّم مَثَلين: علاقة هيتشكوك بالعصافير، وتواتر الطرق المتعرّجة في أفلام كيارستمي)، والنبش في حدودها عبر ابتكار تنويعات جديدة وأشكال متنوّعة في كلّ مرة، مُعتبراً أنّ ذلك يفتح آفاقاً غير محدودة للإبداع، بدلاً من أنْ يغلقها كما يتبادر إلى الذهن. ولعلّ هذا سرّ عوالم لينش الساحرة، والجسور اللامتناهية بينها، التي لا تفتأ تخلق تأويلات مختلفة، ونقاشات لا تنضب.

 

العربي الجديد اللندنية في

31.03.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004