ملفات خاصة

 
 
 

"الذراري الحمر" يحصد جائزة "أيام قرطاج" وضجة حول فيلم سوري

جائزتان تكرمان فلسطين وواحدة لفيلم سنغالي وفوز فتاة تواجه البركان

هوفيك حبشيان 

أيام قرطاج السينمائية

الخامسة والثلاثون

   
 
 
 
 
 
 

بعد 10 أيام من السينما التي رسمت لنا خريطة طريق صبحاً وظهراً ومساءً، اختتم ليل أمس "أيام قرطاج السينمائية" مع فوز الفيلم التونسي "الذراري الحمر" للطفي عاشور بحائزة "التانيت الذهبي" العريقة، التي نالها عبر الماضي كبار السينمائيين العرب، من مثل يوسف شاهين وتوفيق صالح وبرهان علوية وعبداللطيف كشيش.

الفيلم التونسي "الذراري الحمر" كان حصد قبل أيام جائزة أفضل فيلم في مهرجان "البحر الأحمر السينمائي"، يستند إلى واقعة حقيقية حدثت في خريف من عام 2015. إنه الرواية الطويلة الثانية لعاشور، الكاتب والمخرج السينمائي والمسرحي التونسي الذي سبق أن قدم عديداً من الأفلام القصيرة، عرضت في أبرز المهرجانات العربية والدولية. في فيلمه الروائي الطويل الأول "غدوة حي" (2016)، روى قصة صداقة نشأت خلال ثورة الياسمين التونسية وتطورت مع تطور أحداثها المتتالية. هذا كله يفضي إلى تشكيل بورتريه اجتماعي عن خيبات نتجت من تلك الانتفاضة الشعبية التي حلمت بحياة أفضل للتوانسة. 

يدور "الذراري الحمر" على مقتل الراعي التونسي مبروك السلطاني، البالغ من العمر 17 سنة، على يد مجموعة إرهابية في منطقة جبل مغيلة. الحادثة كانت صادمة في تفاصيلها، إذ أقدم أفراد من تنظيم "جند الخليفة" على قطع رأس الضحية ونشر التسجيل المصور على الإنترنت، متهمين إياه بالتجسس لمصلحة السلطات، على رغم انه لم يكن له أي علاقة بهذه الاتهامات، بل كان يقضي وقته مع ابن عمه أشرف في أحضان الطبيعة، يتبادلان الأحاديث والقصص، إلى أن باغتهما القتلة. بعد تنفيذ الجريمة، أبقى الإرهابيون على حياة ابن عمه وأجبروه على حمل الرأس المقطوع وتسليمه إلى أسرة الضحية، مع كل ما يحمل ذلك الفعل من رمزية مشينة، بيد أن الفيلم لا يعد إعادة فتح لملف الإرهاب، كما فعل عديد من الأفلام التونسية في السنوات الأخيرة، بل دراسة لأحوال الطفل الناجي الذي يحاول الخروج من التروما التي تعرض لها، على رغم استحالة الأمر، إذ يجبر على العودة إلى مسرح الجريمة للاستدلال على الجسد.

لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة التي ترأسها المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد منحت جائزة "التانيت الفضي" لفيلم "إلى عالم مجهول" للفلسطيني مهدي فليفل. الفيلم الذي انطلق من مهرجان "كان" الأخير، قسم "أسبوعاً المخرجين" يحملنا إلى أثينا ويتمحور على شاتيلا وابن عمه رضا، اللذين يجدان نفسهما عالقين وسط حالة من الضياع والبؤس واليأس، فيسعيان إلى الهرب من واقعهما الذي لا يضمن لهما أي مستقبل. يحلم شاتيلا بالوصول إلى ألمانيا لافتتاح مقهى، بينما يغرق رضا في الإدمان، مما يعوق تحقيق أحلامهما.

الشباب المهاجرون

 تبدأ مغامراتهما في الاحتيالات البسيطة، لكنها سرعان ما تتطور إلى مخططات خطرة تضع مبادئهما الأخلاقية على المحك. يروي مهدي فليفل الذي سبق أن أبهرنا بفيلمه الوثائقي "عالم ليس لنا" (2012)، قصة من صميم الواقع الذي يعرفه جيداً، فهو نقله في أكثر من فيلم قصير تمحور على المسألة عينها، مسألة الشباب العالقين في اليونان تحديداً، فلا هم قادرون على العودة من حيث أتوا ولا قادرون على الانتقال إلى دولة تمنحهم ما يطمحون إليه. الشخصيات التي يصورها فيلم "إلى عالم مجهول" تترنح بين الأمل واليأس. بأسلوب ينطوي على الحركة والتشويق والإيقاع التصاعدي، يرتقي بقضية اللاجئين إلى مستوى آخر من المعالجة، بعيداً من جعل أبطاله ملائكة على طول الخط، بل يظهرهم أشخاصاً يكافحون ضد واقع لا يرحم، مطالبين بحقهم في الوجود في عالم يبدو أنه لا يعترف بهم ولا حتى يراهم.

"التانيت البرونزي" أسندت إلى "دمبا" للمخرج السنغالي مامادو ديا الذي يحكي عن رجل خمسيني يستعد للتقاعد بعد 30 عاماً من الخدمة في بلدية مدينته الصغيرة في شمال السنغال. مع اقتراب ذكرى مرور عامين على وفاة زوجته، يعي أخيراً أنه لم يتمكن يوماً من التعافي من فقدانها. فبينما تتدهور حالته النفسية، يحاول إعادة بناء علاقته مع ابنه بعد فترة من الابتعاد عنه. 

جائزة الطاهر شريعة (مؤسس "الأيام") لأفضل فيلم أول ذهبت إلى "هنامي" لدنيز فرناندس من جمهورية الرأس الأخضر، علماً أن المخرجة ولدت في لشبونة وعاشت في سويسرا وإيطاليا. تقع أحداث الفيلم في جزيرة بركانية يرغب الجميع في مغادرتها، لكن الفتاة الصغيرة نانا تتعلم كيفية التكيف معها والبقاء فيها، علماً أن والدتها كانت قد تخلت عنها مباشرة بعد ولادتها، مسلمة إياها لعائلة والدها. عندما تصاب نانا بحمى شديدة، يتم إرسالها إلى سفح بركاني لتلقي العلاج، وهناك تكتشف عالماً مليئاً بالواقعية السحرية، إذ تختلط الأحلام بالواقع.

ونال "الفيلم عمل فدائي" للفلسطيني الملتزم كمال الجعفري جائزة أفضل وثائقي طويل، وفيه ينبش المخرج الذاكرة البصرية الفلسطينية من خلال الغوص في الأرشيف والوثائق، متحدياً النسيان والتعتيم. أما أفضل فيلم روائي تونسي طويل، فكان من نصيب "القنطرة" لوليد مطار، وهو كوميديا اجتماعية يخرج من صميم المجتمع التونسي، في حين أعطي زميله ومواطنه رضا التليلي الجائزة نفسها، لكن في فئة أفضل وثائقي تونسي طويل عن "لون الفسفاط"، الذي يعرفنا إلى مهرج وعامل منجم يكافح ضد التهميش والتحقير من خلال المسرح. 

جوائز "أيام قرطاج السينمائية" كثيرة ومتنوعة، وقد استغرق توزيعها وقتاً طويلاً ما بين تسليمها وخطب الفائزين بها والفواصل الفنية، ولا مجال لتناول كل الأعمال التي رد لها الاعتبار. ويبقى من اللافت أن فيلم "سلمى" للمخرج السوري جود سعيد الذي ضغط بعض السوريين المعارضين والتوانسة المنتمين إلى التيارات الإسلامية على إدارة المهرجان لسحبه، ومع ذلك انتهى به الأمر في نهاية المطاف بنيل جائزتين: جائزة الجمهور (مناصفة مع "الذراري الحمر") التي ينالها المخرج المحسوب على النظام السوري (السابق)، وجائزة أفضل أداء للممثلة السورية سلاف فواخرجي. لم تنجح محاولات منع الفيلم، لا بل من غير المستبعد أن يكون قد شكل حافزاً للبعض للتصويت له، على رغم أن الفيلم ليس من تمويل الدولة، بل إنتاج مستقبل، وينطوي على بعض النقد الموجه للسلطة. وفي هذا الصدد، كتب المخرج التونسي أمين بوخريص، أن جمهور قرطاج صوت لجود سعيد زمن نظام الأسد ويعيد التصويت له بعد سقوطه، واصفاً هذا الجمهور بـ"العظيم".

 

الـ The Independent  في

23.12.2024

 
 
 
 
 

تطابق من سبايك لى إلى هانى أبو أسعد!!

طارق الشناوي

فاز الفيلم الروائى المصرى القصير (أحلى من الأرض) لشريف البندارى بالجائزة الفضية لمهرجان قرطاج، فى دورته (٣٥)، التى أعلنت مساء أمس الأول فى المركز الثقافى بتونس، وتكرر المأزق الذى عايشناه فى السنوات الأخيرة. فيلم مصرى يشارك فى مهرجان خارج الحدود، يحصل على جائزة، بينما لم تتم الموافقة عليه بالمهرجانات المصرية، حُرم الفيلم بسبب رفض الرقابة من العرض أولًا فى مهرجانى (الجونة) و(القاهرة).

يملك الرقيب أن يمنح الفيلم تصريحًا بالعرض فقط فى المهرجان، وبعدها عند العرض الجماهيرى، يُجيز له القانون أن يطبق عليه مثلًا التصنيف العمرى، أو يفعل مثلما حدث، قبل نحو ٧ سنوات، فى فيلم (اشتباك) لمحمد دياب، الذى حصل أولًا على موافقة الرقابة لعرضه بمهرجان (كان) فى قسم (نظرة ما)، وعند عرضه جماهيريًّا اشترطت الرقابة كتابة (يافطة) تشير إلى أن الأحداث لا تعبر عن الواقع، المهم أن الفيلم عُرض كاملًا فى مصر، وتلك (اليافطة) لم يلحظها أحد.

هذا التشدد من الممكن أن أتفهمه، رغم أننى لا أوافق عليه، إلا أنه ربما يراه البعض مبررًا مع الأفلام الطويلة، ولكن ليس مع الأفلام القصيرة، التى بطبعها لا تُتاح لها دُور عرض، وتظل الدائرة المتاحة أمامها لا تتجاوز فئات محدودة أو دار عرض صغيرة، متخصصة، مثل (زاوية). فى الماضى كانت تُعرض تلك الأفلام بدون أن تخضع للرقابة لخصوصيتها، إلا أننا صرنا نتابع هذه الأفلام بعين أخرى حاليًا، ولاحظت فى السنوات الأخيرة، حتى مشروعات المعاهد السينمائية المتخصصة، صار عدد من الأساتذة يمارسون على الطلبة دور الرقيب، انتقل إليهم هذا (الفيروس) القاتل لكل إبداع.

مهرجان (قرطاج) فى اختياراته لتلك النسخة استطاع أن يحصل على الأفضل لأنه قرر أن يختار موعدًا يضعه خارج الصراع تمامًا، وهو نهاية العام، وكل ما عُرض فى مهرجانات أخرى سابقة عليه من حقه عرضها فى مسابقاته الرسمية المتعددة.

وهكذا وجدنا فى المسابقة الطويلة عددًا من الأفلام المهمة، وبعضها يحمل الجنسية التونسية، إلا أن المهرجان لا يشترط أن يستحوذ على العرض الأول. اللائحة المنظمة للفعاليات تسمح بعرض الفيلم الجيد بدون أى اشتراطات مسبقة.

عندما قرأت أن الفيلم التونسى (الذرارى الحمر) للطفى عاشور سيشارك فى المهرجان مع الفيلم العراقى

(أرض مجهولة) لمهدى فليفل، والفيلم المصرى (البحث عن منفذ للسيد رامبو)، سألت نفسى: هل من الممكن أن تتكرر جوائز (البحر الأحمر) الأخير فى لجنة التحكيم التى يترأسها المخرج والممثل العالمى سبايك لى، الفيلم الأول حصل على اليسر الذهبية والثانى على اليسر الفضية والثالث لجنة التحكيم!.

فى العادة تشعر اللجنة بضغط أدبى، هل الأجدى أن تبحث عن أفلام أخرى فى المسابقة تمنح جوائزها خصوصية، أم أنها تختار الأفضل من خلال قناعتها، حتى لو تكررت مع (البحر الأحمر)؟.

اختارت لجنة تحكيم (قرطاج) الحل الأوفق، وهو أن العمل الفنى يحدد مكانته، وهكذا تطابقت بنسبة كبيرة جوائز لجنة التحكيم التى يترأسها المخرج الفلسطينى هانى أبوأسعد مع جوائز البحر الأحمر، وحظى نفس الفيلمين على الجائزتين تباعًا الذهبية والفضية، والفيلم المصرى (البحث عن منفذ للسيد رامبو) كان قد حصل على جائزة لجنة التحكيم من (البحر الأحمر)، ناله تنويه خاص أيضًا من لجنة تحكيم (قرطاج).

لجنة التحكيم عندما تملك إرادتها وتثق فى قدرتها على الاختيار الصحيح لا يعنيها سوى أن تنحاز إلى الأفضل، وهكذا يُحسب لـ(قرطاج) ولهانى أبو أسعد أنه لم يضع أى معادلات أخرى خارج النص، حتى لو حدث كل هذا التطابق مع لجنة سبايك لى فى (البحر الأحمر)!!.

 

المصري اليوم في

23.12.2024

 
 
 
 
 

في "قرطاج السينمائيّ" واقع افتراضيّ عن وجع حقيقيّ!

المصدرتونس- ابراهيم توتونجي

"يعيش أوتو... يعيش".

لقد تمكّن للتوّ من دفن الغازي. جرّه إلى ما فوق البحيرة وحفر حفرة وهال عليها التراب. ساعده كلبه سكيبي. حمل المجرفة وهزّ ذيله. أنا أيضاً، من فوق الكرسي الصغير، في جناح "الأفلام ذات الواقع المعزّز"، ضمن "أيّام قرطاج السينمائيّة 2024"، شاركتهما في التخلّص من ذلك الغازي المتغطرس العنصري السارق المحتلّ

وبعدما عادا صوب الأرجوحة وشجرة الفاكهة المباركة، حدّثت نفسي، من دون أن أشعر بالخجل أو الخوف من اتّهامي بالهلوسة، وبصوت مسموع: يعيش أوتو... يعيش

إنّ مشاهدة الأفلام المنفّذة بهذه التقنية تنقل المشاهد من كنبة المتلقّي إلى مركز الفعل، بشرط التخفّي خلف "النظّارة". 

أنت تُبحرُ في عالم افتراضيّ من دون أن تغادر مكانك، ثم تنفّذ ما تطلبه شخصيات الفيلم منك، كرفع البطل إلى مستوى الشجرة، أو إسقاط ثمرة منها، أو شقّ الكوكب إلى نصفين، ذلك يجعلك تحرّك أصابعك كأنّك مايسترو مقنع

يميناً، يساراً، فوق، تحت... ترسم خطوطاً في الهواء، يشاهدك المارّة، والقيّمون على الجناح، وأنت لا تشاهد أحداً منهم. أنت في عالم آخر، موازٍ، في فضاء افتراضيّ، لكنّ دماغك قاصر على فهم هذا الجو المجسّد تماماً لكي يقنعك أنّه واقعيّ

شيء من الإثارة، شيء من الخفّة، كثير من الحرية الداخلية، تنتابك، وأنت تشاهد "كوكب أوتو"، فمن المنطقي أن يراك الآخرون المقيّدون في عالمهم "الواقعيّ" مجنوناً

ولكن، سرعان ما ستصيبهم هذه "الهلوثة"، ويهرعون إلى شباك التذاكر، لينضمّوا إلى "اللعبة" وإلى نادي حفّاري قبور الغزاة على كوكب أوتو الوديع.

تقع "مدينة الثقافة" في تونس، وهي تحتضن معارض ولقاءات وأفلام ونشاطات كثيرة ضمن الدورة الـ35 من المهرجان المصنّف الأعرق من نوعه في تاريخ المنطقة وأفريقيا

وذلك على بعد كيلومترات قليلة من وسط المدينة الممتدّ إلى عمقها التاريخيّ، أو ما يسمّى بـ"المدينة العربيّة". 

وفي فضاء تلك الأحياء، ثمّة شوارع تحمل أسماء "الأنهج"، من بينها "نهج فلسطين"، "نهج باريس"، "نهج قرطاج" وغيرها المئات

بعد أحداث السابع من أكتوبر من العام الماضي، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، حملت جدران كثيرة من تلك الأنهج كتابات ضدّ مرحلة الاستعمار الفرنسيّ لتونس، ورسوم تتحدّث عن ضحايا فلسطين ولبنان الذين قضوا جرّاء آلة السلاح الصهيونيّ والتكنولوجيا الإسرائيلية

نرى أيضاً أفيشات مسرحيات عرضتها فرق من الداخل الفلسطينيّ مثل "العاشق" عن سيرة الشاعر محمود درويش، أو بوسترات أفلام سينمائية عن فلسطين، احتفى بها مهرجان السينما في دورته الأخيرة.
هذا إضافة إلى غرافيتي عن تآخي الزيتون والأرزّ عند تقاطع نهج "أمّ كلثوم" مع نهج " قرطاج
". 

شعارات "النار بالنار والدم بالدم على جدار "المركز الفرنسي" في "نهج باريس" وأعلام فلسطين ترفرف تحت نوافذ كثيرة. في داخل "المدينة"، غير بعيد عن "كوكب أوتو"، معرض استعادي يوثق تاريخ سينما فلسطين، مع سينوغرافيا تستوحي من الكوفية وأشعار درويش وسامر أبو هواش. "الضباع في ليلها المعدني تلهث تلهث.." و"الصدى الوحشي بطانة الرأس وحشاة العين وسويداء القلب ووحشة الروح".

وهذا ما شعر به "أوتو" وكلبه "سكيبي" تحديداً على كوكبهما الهانئ بعدما هجم "ضبع" معدني بلباس رائد فضاء، على بقعتهما، نتيجة حادثة تحطّم طارئ، فعاوناه، وأطعمه أوتو وأشربه وعالجه، وهزّ سكيبي ذيله فرحاً به، فإذا بالضيف، حين استعاد قوّته، قام باحتلال نصف الأرض، بنى جداراً فاصلاً، حرمهما من الشجرة المباركة، وتركهما على أرجوحة رتيبة منهكين بـ"وحشة الروح".

أتحمّس. أجد لي دوراً نضالياً في الواقع الافتراضي لا أجده في العالم الواقعي. أقبل، متجاهلاً أنّ حريتي هي أيضاً مرسومة مسبقاً ومبرمجة عبر كودات وحاسوبيات وضعها صنّاع الفيلم، على خطّة التخلّص من الغازين وندفنه في النهاية، نحن الثلاثة.

يطلب المخرج منّي أن "أطرطق" الإبهام بالأوسط، فينشقّ الكوكب، كأنّنا في "القيامة". في جوفه الغامض الحزين، جذور الشجرة تتشعّب وتلتفّ في كلّ مكان حول جثث وأعناق جموع من الغازين السابقين.
أفتح فمي مدهوشاً لروعة الإحساس. الانتصار الافتراضيّ... أهلّل: يعيش أوتو... يعيش
!

 

النهار اللبنانية في

30.12.2024

 
 
 
 
 

«أيام قرطاج السينمائية»… هناك حيث تمتلئ الصالات

سليم البيك

الحديث السينمائي العربي يستحضر دائماً فكرةَ المسافة الفارغة الفاصلة بين الصالة والجمهور، أو المهرجان والجمهور، وتالياً بين السينما والناس، لتقتصر العلاقةُ هذه، بفيلم تكون المشاهدةُ له فردية ومنعزلة وعلى شاشات صغيرة، وقد تكون متقطّعة فيُشاهَد الفيلم بالتقسيط.

عادات المشاهدة السينمائية تضرّرت في الأعوام الأخيرة لأسباب يطول شرحها، وهذا الضرر يتضاعف في الحديث عن المهرجانات العربية، لشكوى أساسية هي ابتعاد المهرجان عن جمهور هو بعيد أصلاً عن السينما خارج إطار المهرجان الزماني والمكاني. فتكون المسافة الفارغة والفاصلة تلك، أوضحَ خلال المهرجان، تحول بين الجمهور المحلي بوصفه جمهوراً متفرّجاً، والسينما بوصفها حدثاً ثقافياً فنياً أهليّاً في المدينة.

هي أزمة عربية عموماً، فلا يُحسِن هذا المهرجان أو ذاك في تقصير المسافة بين الجمهور المحلي، في المدن والبلدات، وصالات السينما، ليكون الحضور في الصالات، عموماً، مقتصراً على مدعوّين ومختصّين ومهتمّين ومَن حولهم. ولا يلوم أحدنا طرفاً بعينه في ذلك، فأسبابٌ تتخطى المهرجانات تحسم في هذا السلوك، منها عادات المشاهدة السابقة للمهرجان واللاحقة، وبالتالي طبيعة العلاقة بين الناس وصالات السينما، وهو سبب ثقافي، ومنها سبب اقتصادي يكمن في أسعار التذاكر بالمقارنة مع جدوى المشاهدة، أو موقعها في سلم أولويات مجتمعات وطبقات بعينها.

مهرجان «أيام قرطاج السينمائية» متفرّد في مخالفته الصورةَ أعلاه

يسمع أحدنا عن جمهور «أيام قرطاج السينمائية»، يسمع أنه «غير»، يعرف أحدنا عن الاهتمام الشعبي بالآداب والفنون في تونس، يعرف عن الحالة الجيّدة للفنون، إنتاجات ومهرجانات، وللسينما منها تحديداً. لكن بات مسلَّماً عربياً، القول بطبيعية حالة القطع بين الصالة والمجتمع المحلي، ما يؤدي إلى حالة قطع أكبر تكون بين المهرجان وهذا المجتمع. الحديث العربي هذا، كان باستثناء لـ قرطاج» كما شهدتُ في زيارتي الأخيرة.
كانت لي فرصة المشاركة ضمن لجنة تحكيم «الأفلام الوطنية» في الدورة الأخيرة من «أيام قرطاج السينمائية» (14 – 21 ديسمبر/كانون الأول 2024)، وكانت الأمثل لاكتشاف الحالة التونسية في موضوعنا هذا. كنت وباقي أعضاء اللجنة، نمرّ على صفّ من المنتظرين للدخول إلى الصالة، وعلى مجموعة من المتزاحمين عند بابها. ولو لم تشفع لنا بطاقة «لجنة التحكيم» لتخطِّي كل ذلك، لكُنّا كغيرنا ممن انتظر طويلاً، ولم يجد مكاناً فعلقَ خارج الصالة. عادة ما تكون المهرجانات في صالاتٍ أكثرُ من نصفها فارغ، في تجربتي التونسية هذه امتلأت مقاعد صالة «الفن الرابع» في مركز العاصمة تونس، بجالسين داخل الصالة وخارجها.

اختصّت الصالةُ بعروض هذه المسابقة المحصورة بالأفلام التونسية. هنا أتى الناس لمشاهدة أفلام لا هي إنتاجات عالمية ضخمة، يواكب بها المتفرّج مشهداً ترفيهياً عالمياً، ولا هي أعمال فنية آتية من مهرجانات أخرى يواكب بها المتفرّج أفلام الجوائز الكبرى. الناس هنا جمهورٌ لإنتاجهم الوطني، لأهلهم، بلغتهم ولكناتهم، بقصص وشخصيات تشبههم. وثائقيات وروائيات، طويلة وقصيرة. يفهم أحدنا أن لذلك أثرا في زيادة امتلاء الصالة، ففريق العمل في الفيلم حاضر وربما بعض الأصدقاء، لكن هذا الامتلاء الدائم، وتجمُّع آخرين على الباب بعد إغلاقه، يخبّر جديداً في علاقة المُشاهد العربي بالفيلم العربي، ويمنح مثالاً لإمكانية ترميم المسافة المتعرّجة بين المهرجان، أيّ مهرجان سينمائي وفنّي عربي، وجمهوره.

لم يكن ذلك مفاجئاً، ففكرة مسبقة كانت لديّ عن «جمهور قرطاج»، لكن رؤيته بشكل حي، والشهادة عليه وعلى الترحيب الحار قبل العرض وبعده من قِبل الجمهور، للفيلم وصنّاعه، بل والتزاحم مع المتزاحمين دخولاً وخروجاً، بعثَ لديّ الأمل في أحوال تونسية تكون احتمالاً عربياً. فالسلوك السينمائي ليس، أساساً، بمشاهدة فردية منعزلة، وليس، أساساً، لإنتاجات أجنبية. هنا، المجتمع المحلي يشاهد أعمال أبنائه وبناته، في مهرجانهم. هنا الصالة تعتمر بالنّاس. هنا الفرحة والحماسة مشعّتان ومتبادَلان، بين الشاشة وأعين أهلها، مَن حظي منهم أخيراً بمقعد مقابلها.

كاتب فلسطيني/ سوري

 

القدس العربي اللندنية في

07.01.2025

 
 
 
 
 

"أيام قرطاج السينمائية": مهرجان مسيّس في بلد مكبّل سياسياً!

هوفيك حبشيان/ المصدرتونس- "النهار"

على جدار المعهد الفرنسي في تونس العاصمة، رُسِمت شعارات تنادي بضرورة المقاومة وتذكّر بفلسطين وتدين الصهيوينة وغيرها من العناوين التي تعبّر عن المزاج العام للشارع التونسي. خلال وجودي هناك لتغطية ”أيام قرطاج السينمائية“ (14 - 21 كانون الأول 2024)، عبرتُ أمام هذا المكان الواقع في شارع باريس عشرات المرات، وكان هذا الزخم الشعاراتي الذي يدور في فلك واحد يلفتني دائماً

معروف عن ”أيام قرطاج“ انه أحد أكثر التظاهرات تأثّراً بالسياسة في معناها المباشر، وهو تأسس في الأصل على يد طاهر الشريعة انطلاقاً من الانتصار لسينما العالم الثالث في مواجهة قوى الاستعمار. كان الهدف انشاء حوار بين جنوب القارة وشمالها يسعى إلى فهم أعمق لكلّ جهة، لكن، في العقود الأخيرة، ومع التخبطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها جزء كبير من العالم العربي في أعقاب ربيعه، بدا المهرجان أكثر تسييساً، أحياناً عبر الوقوف في صفّ الأنظمة القمعية كالنظام السوري، سواء عن سابق تصوّر وتصميم أو عن عدم اهتمام. بيد انه مع تسلّم الرئيس قيس سعيد مقاليد الحكم في تونس، أصبح الموضوع مثيراً للريبة. فكيف يُعقل تنظيم مهرجان مسيّس في بلد مكبّل سياسياً، حيث ”فنّ الممكن“ أصبح مختزلاً في شخص واحد، أي فخامته الذي لا يتوانى عن الزج بالمعارضين في السجون؟!

لمواكبة ما جرى ويجري في غزة، وبعد الغاء دورته الماضية في أعقاب ”طوفان الأقصى“، حفل برنامج المهرجان هذا العام بأفلام فلسطينية. أفلام قديمة وجديدة تنقل تفاصيل المأساة. أما رئاسة لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة، فأُسنِدت للمخرج الفلسطيني المعروف هاني أبو أسعد. حتى الشريط الذي مر قبل كلّ عرض ليس سوى ترجمة بصرية لقصيدة محمود درويش، بصوته. باختصار، دورة كاملة وُضِعت تحت شعار المقاومة وفي سبيل القضية. لكن مقاومة الأمبريالية والصهيونية فقط (بالصورة والصوت)، على طريقة كلّ الأنظمة العربية التي لا ترى الشر سوى في ما يأتي من خارج حدودها. وفي ظلّ التضييق على التظاهرات الحرة في تونس، استمراراً لإجراءات قيس سعيد، البوصلة لا يمكن ان تتوجّه إلا في إتجاه فلسطين. في آخر إقامة لي في تونس (2021)، كنت شاهداً على تحرك مطلبي أمام فندق ”أفريكا“ حيث ضيوف المهرجان. بعد ساعات قليلة رأيتُ تجمّعاً آخر موالياً للسلطة هذه المرة. حتى ذكرى الثورة نقله سعيد من 14 كانون الثاني إلى 17 كانون الأول (يوم أضرم محمد البو عزيزي النار في جسده) ليخدم أجندته السياسية.

ولعل أكثر ما لفتني خلال الافتتاح هو ذكر اسم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان في سياق التباهي بالسينما الفلسطينية ومقاومتها للاحتلال. أعادني هذا إلى أكثر من ربع قرن، يوم عرض سليمان فيلمه الطويل الأول، ”سجل اختفاء“، في قرطاج. آنذاك، قامت الدنيا ولم تقعد، لا سيما بسبب اختتام الفيلم بمشهد النشيد الوطني الإسرائيلي (سليمان من عرب 48)، نرى فيه والدي المخرج يغفوان أمام شاشة التلفزيون وهو يبث النشيد الوطني لانهاء البث. في العام 2015، خلال درس سينمائي في الدوحة، عاد سليمان إلى هذا الفصل المؤلم الذي ترك فيه أثراً عميقاً. قال

"بعد فوزي بجائزة البندقية، شعرتُ بالفخر، وأول شعور راودني هو ان أذهب إلى بلد عربي. كنت متحمّساً للقاء ناس يتكلّمون مثلي والذهاب إلى أوطان غنية بالثقافات. "قرطاج" أول مهرجان شاركتُ فيه بعد البندقية، كنت سعيداً وفخوراً. ثم، فجأةً، وقعت الصدمة! لم أكن أتوقّع رد فعل كهذا. لم أعلم ان العلم الإسرائيلي سيفعل كلّ هذا. أمام الفندق حيث نزلتُ، عناصر مسلّحة من منظمة التحرير كانوا يؤمنون حراستي مع رشاشات أم 16. بعض المخرجين العرب كانوا يبصقون أرضاً عندما يرونني أمرّ. بعد العرض، عادت النسخة وفيها طعنات. حتى قبل مشاهدة الفيلم بدأ بعضهم بإطلاق صيحات الاستهجان ضده، اذ ان أحدهم كان نشر شائعة مفادها أنني متصهين. كنت ساخراً، ولكن لم أكن لئيماً قبل هذا الفيلم. ولكن كيف لا تصبح لئيماً عندما ترى تكويع بعض مَن هاجمني، ما إن فاز فيلمي التالي "يد إلهية" في كانّ. هذا ترك في فمي طعماً مراً. مهما حاولنا ان نفهم منطق العالم العربي قبل "ربيعه" - من أنظمة فاسدة وتواطؤ النقّاد والكتاب الزائفين معها؛ ومهما حاولتَ ان تحلل ميكانيزم الديكتاتوريات - الا انك ستُصاب بصدمة وذهول عندما ترى أمامك رجلاً كان يقول شيئاً والآن يقول عكسه”.

هذا كله لم يمنع سليمان من ان ينتقل من موقع ”المتصهين“ إلى أحد أسياد سينما المقاومة. هجوم مماثل، لكن أقل حدّة، تعرّض له أيضاً المخرج اللبناني زياد دويري يوم عرض فيلمه ”القضية رقم 23“، اذ لجأ البعض إلى وقفة احتجاجية ضده، بعدما كان اتُهِّم بالتطبيع في لبنان والعالم العربي، بسبب تصوير فيلمه السابق في تل أبيب. ولم يتأخر المهرجان عن التملّق لسوريا، أو بالأحرى لنظامها البائد. في حين ان معظم المهرجانات العربية امتنعت عن عرض أفلام سورية من تمويل ”المؤسسة العامة للسينما“، اختارت الإدارة التصرف وكأن شيئاً لم يكن، عبر اختيار أفلام سورية ”موالية“ للنظام ومن تمويله، من دون ان يرف لها جفن، مع العلم انه لا يُمكن وصف جميعها بالأعمال الدعائية كما تدّعي المعارضة السورية

وحتى مع تغيير الإدارة، استمر العمل بهذا المبدأ. لكن في العام 2017 فجّرت المخرجة المصرية كاملة أبو ذكرى، عضوة لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة، فضيحة عندما شتمت ”مطر حمص“ لجود سعيد على صفحتها متهمةً مخرجه بالكذب والتدليس، وذلك لموقفها المناهض للنظام، ضاربةً بعرض الحائط كلّ الأعراف المهنية. هذا السجال تولّد من جديد هذا العام مع عرض آخر أفلام جود سعيد ”سلمى“ (إنتاج مستقل غير تابع للمؤسسة العامة)، اذا اعترض بعض المعارضين السوريين على مشاركة فيلم لمخرج موال اعتبروه تماهى مع خطاب النظام يوم صوّر ”مطر حمص“ على أنقاض المدينة المدمّرة، خصوصاً ان الاعدادات تغيرت غداة سقوط بشّار الأسد قبل أيام معدودة من انطلاق الدورة الخامسة والثلاثين. في الأخير، عُرض الفيلم ولم يُسحب، لكن نُصح المخرج بألا يحضر إلى تونس خشيةً على حياته من الجماعات الإسلامية. المفاجأة ان سلاف فواخرجي نالت عن دورها فيه جائزة أفضل ممثّلة. لكن هذه المرة، لم يُعطَ الجمهور التونسي فرصة التصفيق عالياً خلال قصف الجيش السوري للجهاديين، كما كانت الحال خلال عرض أفلام سعيد السابقة، ذلك ان جديده يطوي صفحة الحرب. ومع ذلك فاز الفيلم بجائزة الجمهور.  

انسجاماً مع خط المهرجان في تقديم مادة ملتزمة مقاومة، ونزولاً عند الضرورة الظرفية، افتتح المهرجان بفيلمين محورهما فلسطين ولبنان، الأول هو ”ما بعد…“ لمي الحاج، والثاني “واهب الحرية” (1987) لقيس الزبيدي الذي رحل في مطلع الشهر الماضي. صُوِّر فيلم الزبيدي في الثمانينات، حيث تنقّل مع مصوّره روبي بريدي عبر مناطق مثل صيدا والبقاع الغربي. معاً، وثّقا لحقبة من الكفاح المسلّح انطلق مع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت (1982). في تلك الفترة، كان للنضال السياسي عناوين أخرى وطابع أكثر نقاءً، بعيداً من المكاسب السياسية والحسابات المتلوّنة، نضال يتّسم بشيء من البراءة والعفوية. هذا ما يذكّرنا به الفيلم

هذا العمل يُعتبر سجلاً مرجعياً لأحداث جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، من خلال الإضاءة على العمليات الفدائية ضد الاحتلال، خاصةً في الجنوب، ممّا أجبر إسرائيل على التراجع والانسحاب. وكانت هذه المقاومة تضم أفراداً من خلفيات دينية واجتماعية عدة، توحّدوا حول هدف مشترك. وفي حين لا يسعى الفيلم إلى فرض وجهة نظر بعينها، بل يركّز على التوثيق، فإنه يحمل اليوم أهمية إضافية، اذا ما أحدثنا مقارنة بين مفهوم المقاومة الوطنية الجامعة لكلّ فئات المجتمع وبين الميليشيات المسلحة ذات الولاء للخارج. بيد انه، رغم النضال الحنجوري الفولكلوري المنتشر في تونس، والذي جعل مخرجاً فلسطينياً يقول لي ساخراً ”أحياناً أطلب إليهم ان يسألوني اذا كنتُ أريد تحرير فلسطين أم لا“، فالصالة أُفرغت تماماً من المشاهدين، في سلوك يؤكّد عدم اكتراث كثر بأهمية ما يُعرض. تابعتُ الفيلم مع مجموعة قليلة من المشاهدين.  

أخيراً، كان من المنتظر ان يأتي المخرج الإيراني محسن مخملباف إلى تونس لاعطاء درس سينمائي، لكن أُلغي الحدث عشية انعقاده دونما اصدار أي بيان. من الواضح ان الأوامر جاءت من المرجعيات العليا. وهذا بديهي عندما نتذكّر انه أحد أكثر المعارضين للسلطات في إيران، وشخصية مستفزة لها. هذا كله، لا يناسب خطاب الدولة الرسمي ومزاجها، دولة حاولت للمناسبة تجريم التطبيع قبل فترة، ثم تراجعت بعدما اكتشفت انه يضر بمصالحها. لكن احداً على حدّ علمي، في الإعلام التونسي، لم يتحدّث عن هذا الالغاء الذي لو حدث في بلد آخر، لافتعلت ضجّة كبيرة.

 

النهار اللبنانية في

08.01.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004