مؤتمر النقد السينمائي في الرياض: إعادة السلطة إلى كلمة
الناقد
هوفيك حبشيان- الرياض
لو قيل لي قبل بضع سنوات، ان مؤتمراً للنقد السينمائي يحمل
شعار #"ما
وراء الإطار"،
سيُقام في #السعودية،
لاعتبرته ضرباً من ضروب الواقعية السحرية. ولو قيل لي أيضاً انه سيمتد على
مدى اسبوع وسيطرح اشكاليات النقد من خلال مواضيع لا تخطر في بال أعرق
المجلات السينمائية، لسخرت من القائل. مع ذلك، وخلافاً لكلّ التوقّعات،
شهدت الرياض من السابع إلى الرابع عشر من الشهر الماضي، مؤتمراً كهذا، حاول
من خلاله المسؤولون لم شمل أهل النقد من سائر أقطار العالمين العربي
والغربي.
استغرابي لا يتأتى من كون السينما، صناعةً وعرضاً، دخلت
السعودية حديثاً، بل لأن نشاطات كهذه يصعب تخيّلها حتى في البلدان الغربية
التي تمتلك تراثاً فيلمياً ونقدياً تعود بداياته إلى مطلع القرن الماضي. لا
غرابة ان تُعقد ندوة هنا وطاولة مستديرة هناك محورههما النقد، وذلك على
هامش مهرجان أو داخل تظاهرة ثقافية أو بمبادرة من مؤسسة أكاديمية، في باريس
وبرلين ونيويورك وروما، لكن تخصيص أيام متتالية لحدث يدور على النقد ويضم
نقّاداً من أنحاء العالم كافةً، وعلى مدار اليوم، وبهذه المساحة، فعملة
نادرة ولحظة طارئة على العالم العربي الذي يعيش أزمات لا تُحصى تجعل للأسف
من الثقاقة ترفاً، لا ضرورة. لكن مدى الاستغراب قد يتضاءل اذا ما تذكّرنا
ان طاقات شبابية لطالما كانت السينما هاجسها، تقف خلف هذا الحدث، وهي التي
كانت صبرت لسنوات لنيل الضوء الأخضر والحصول على الامكانات المطلوبة.
جاء هذا المؤتمر في الرياض، في أعقاب ملتقيات نقد عدة
عُقِدت في كلّ من بريدة وجدة وتبوك وأبها والظهران، وكان ضيف أحدها
(تمسّكوا جيداً!)، السينمائي وكاتب السيناريو الشهير الأميركي بول شرايدر،
الذي بدأ حياته المهنية ناقداً، وهو صاحب كتاب شهير عن بريسون وأوزو
ودراير.
ثمة ملخّص على صفحة وزارة الثقافة يُعرّف المشروع على النحو
الآتي: مؤتمر رئيسي عام وملتقيات متخصصة يجمع المختصين وغير المختصين في
مجال #النقد
السينمائي وثقافة
الفيلم، لتبادل الخبرات وتعزيز المشاركة الوطنية والإقليمية والدولية في
الحوارات الدائرة حول الطرق والمستجدات في مجال النقد ومفاهيمها
وتطبيقاتها.
صحيح ان المؤتمر كان تعبيراً عن هذا كله، لكن مطالعة بيان
تختلف جذرياً عن المشاركة في الحدث وحضوره.
جئتُ وأنا كلّي فضول، لأرى ما المقصود بمؤتمر النقد
السينمائي. غادرتُ ولا أدّعي أني فهمتُ كلّ أفقه، لكني على اقتناع بأني
شاهدتُ وضع الحجر الأساس لحدث قد ينتهي هنا وقد يصبح مرجعاً مع الزمن، وهذا
يتوقّف على إرادة المسؤولين وطول أناتهم. نعلم جيداً ماذا يعني مهرجان
سينمائي، نقيس واحداً بآخر، لأن لنا مرجعيات في شأنها، لكن مؤتمر النقد
السينمائي في الرياض هذه فكرة تخرج عن الصندوق، لا هدف تطبيلياً يلفّه ولا
بُعد ترويجياً يبرره، ولهذا يجب ان يستمر ويتطور إلى الأمام.
من قصر الثقافة في الرياض أخذ الحدث مقراً له. مبنى شاسع في
حي السفارات يفرض نفسه على العابر أمامه، سلالم كثيرة وصالات متعددة، عصرية
ومجهّزة، وُظِّفت لأغراض مختلفة، فأصبحت لأيام مقصداً للنقّاد. وجوه بشوشة
لموظّفين ورجال أمن ومتطوعين، تُرحِّب بك أينما توجّهتَ وكيفما استدرتَ.
مهما يكن طلبك، ثمة مَن يعرض خدماته بطيبة خاطر. لافتات عدة ارتفعت في
المكان لفتني ان واحدة منها مخصصة للناقد المصري سامي السلاموني، الذي
يُعتبر أحد الأسماء المعروفة عربياً في النقد. وجه الرجل الأربعيني لم يحتل
يوماً هذه المساحة في أي من الصور التي كانت تُنشر إلى جانب مقالاته.
تمنيتُ لو رأى هذه التحية التي لم تُقَم له حتى في وطنه.
تحوّلت باحة قصر الثقافة الخارجية مسرحاً لنقاشات وتحليلات
لأغرب القضايا. هل أكرر نفسي اذا قلتُ انه لم يسبق لي ان رأيتُ شيئاً كهذا
في حياتي؟! الخشبة تبتعد بضعة أمتار عن الشارع حيث تمر السيارات، فيما نحن،
حفنة من الحالمين، جالسون نستمع إلى آراء عن عصافير هيتشكوك أو حمار بريسون
(لي عودة إلى هذين لاحقاً).
عشرات الكراسي وُضِعت أمام شاشة ظهرت عليها أسماء أصحاب
المداخلات. ندوات وحلقات حملت شؤونا متفرقة، بعضها معقّد وعميق يحاول اعادة
النظر في مفاهيم معينة وبعضها الآخر ينتمي إلى "ألف باء قراءة الفيلم"، من
دون ان يلغي أحدهما الآخر. فالقضايا التي تُطرح عادةً في مجلات ودوريات
سينمائية متخصصة أخذت فجأةً وجوهاً وأصواتاً وحركات جسمانية، بعضها لناس
أمضوا دهراً في الكتابة السينمائية من دون ان تكون علاقتهم بالآخرين مباشرة
إلى هذا الحد. هذا كله بعيداً من الأحرف الجامدة داخل المقالات. من خلال
طرح عناوين كبيرة، بعضها فضفاض، حاول هذا الحدث ان يُنزل النقد من برجه
العاجي، ليضعه في متناول الآخر، جاعلاً منه ضرورة تواكب مراحل تطور
السينما، ولافتاً إلى كونه فنّا قد لا يرتقي إلى الفنون الأخرى، كما يقول
الناقد الفرنسي الراحل ميشال سيمان، ومع ذلك لا يمكن تخيل السينما من دونه.
حوصر المؤتمر بحاملي الاعتمادات، من العاملين في النقد
والضالعين فيه أو المهتمين بشأنه أو الساعين إلى دخوله. جاء هؤلاء من بلدان
عربية وغربية، يتراوح فيها حضور السينما من صفر إلى عشرة على عشرة. اختار
المنظّمون أسماء وجدوا فيها تجسيداً للنقد ماضياً وحاضراً، بعض هذه الأسماء
خدم عسكريته وما عاد له الكثير ليقدمّه وأصبح الحضور شرفياً لا أكثر، لعله
يتكرم ويتولّى بنقل المعرفة إلى مَن يأتي من بعده، مع العلم ان مسألة
الصراع بين الأجيال في العالم العربي تحتاج إلى نقاش آخر.
أما البعض الآخر، فهم من الذين بدأوا في السنوات العشر
والعشرين الأخيرة، ولا يزالون على نشاطهم لا بل يفيضون بالمشاريع وإن لم
يتحقق الكثير منها. الأسماء المكرسة والمعروفة ضرورية لاعطاء الحدث صدقية
وزخماً، لكن التعويل في حدث كهذا هو على جيل في طور التكوين، ومن الواضح ان
هناك قراراً لاعطاء هذا الجيل فرصته كي يبرز في مجال صعب للغاية، اذ ان
كثراً يضعونه في خانة الهواية لا المهنة.
نفهم من كلمة "مؤتمر" انه يخص المحترفين، وهذه أيضاً تفتح
المجال للبس وتحض على النقاش: هل على مؤتمر كهذا ان يبقى محصوراً في
النقّاد ومن يدور في فلكهم، أو عليه ان يكون مفتوحاً للجمهور؟ سؤال قد نعثر
على اجابة عنه في الدورات المقبلة.
ما هو النقد وكيف يُمارَس وأي معايير يجب تطبيقها ومَن
المؤهل ليحمل هذا اللقب؟ سؤال شغل الرعيل الأول، مذ بداية السينما، ولا خطأ
في اعادة فتح هذا الملف وطرح الأسئلة في ضوء التغييرات التي طرأت على النقد
في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع ظهور الاعلام الرقمي ووسائط التواصل وفقدان
الكلمة السطوة التي كانت عليها في الماضي.
أما عن حال النقد في العالم العربي وهل يعاني من موت سريري،
فهذا ما طرحه الناقد المغربي حمادي كيروم، في ندوته، وهو هاجس قديم يتجدّد،
لشدة ما يفسح المجال لجدال محموم بين مَن يراه حياً يُرزق ومَن يجده في حال
احتضار. هذا النقد عصيٌّ على الموت، ما دام هناك جهتان، جهة تعرض وجهة
تتلقّى؛ هو الذي لم يتوقّف عن الموت، لا بل دُفن مرات، في كلّ مرة ظهر ما
يهدده. لكن هذا النقد في مرحلة تحوّل، محاولاً إيجاد ما يفيده ويضمن له
استمرارية، عملاً بمقولة "يجب تغيير كلّ شيء، كي لا يتغير أي شيء". شخصياً،
أميل إلى الفصل بين الحركة النقدية والنقد، فالحركة تحتاج إلى ظروف مناسبة
وامكانات داعمة واستمرارية فعّالة، فيما النقد يُمكن ممارسته في ظلّ أعلى
درجات الفردانية، خصوصاً في عصرنا هذا حيث كلّ شخص صار ناشراً.
هذا ما تطرق اليه في أي حال، سريعاً، الناقد العراقي قيس
قاسم، عندما قال ان كلّ شخص هو ناقد. عبارته تذكّر بما صرح به فرنسوا تروفو
ان لكلّ شخص مهنتين: مهنته الأصلية وناقد سينمائي. هناك في عبارة المخرج
الفرنسي هذه، رؤيوية تجسّدت بشكل واضح مع ظهور وسائط التواصل، بحيث انه بات
للجميع منبر يعبرون من خلاله عن آرائهم من دون ان يُطلب منهم ذلك، وأحياناً
في منشورات تتجاوز ذكاءً نصوص بعض الذين يطرحون أنفسهم من المتخصصين.
هل من نظريات ومدارس نقدية خاصة بنا أم ان كلّ ما نمارسه هو
نتيجة مكتسبات التراث النقدي الغربي؟ وهل يمكن ممارسة نقد حر في مجتمعات
مقيدة حيث الكتّاب أنفسهم في الكثير من الأحيان، ضحايا الأفكار المسبقة
والمسلّمات الدينية والمحظورات الاجتماعية؟ هذا ما أوحت به مداخلة الناقد
العماني عبدالله الحبيب، خلال محاضرة للأردنية رانيا حداد والسعودي فراس
الماضي عن فيلم "الطيور" لألفرد هيتشكوك، اذ علّق قائلاً: "لا خلاف على
الأهمية الفنية والجمالية الاسثتنائية لهيتشكوك، فهو معلّم، ولكن كنتُ في
فترة أعتقد ان المعيار الوحيد للتعامل مع هيتشكوك هو عبر التحليل النصّي،
لكن الآن بما اننا في العالم الثالث، وبما ان هيتشكوك لا يزال يثير اهتمام
الباحثين ونقّاد السينما، فلنتكلّم مثلاً عن ما بعد الكولونيالية أو
النظرية النسوية في أفلامه، فهو في النهاية أنجز "الرجل الذي كان يعرف
كثيراً" الذي تدور أحداثه في المغرب، أو "النافذة الخلفية" الذي هاجمته
النسويات، أو تناول موقفه الإيديولوجي من الرأسمالية، كونه عاصر الحرب
الباردة، وبالتالي كان له موقف من الصراع بين المعسكرين الرأسمالي
والاشتراكي، وهذا ما يتحدّث عنه "شمالاً إلى الشمال الغربي". لذلك، أعتقد
انه آن الآوان لكي نبادر إلى أخذ قسط من الراحة من علم الجمال السينمائي
والانتقال إلى النظرية السينمائية".
دورة أولى تعني عملياً أخطاء وخيارات قد تحتاج إلى المزيد
من الدراسة. أحد النقّاد قال لي ممازحاً: "نحن فئران تجارب هنا". نحن فعلاً
كذلك. لكن لم نخضع لتجارب المنظّمين فحسب بل لتجارب النقد نفسه، كوننا لم
نواجه هذا الكم من الأسئلة بهذه الطريقة الجماعية من قبل.
في النهاية، مهما قلنا، فدورة تأسيسية كهذه تحمل إيجابيات
تتجاوز سلبياتها. ولا يمكن الا تشجيعها مع توجيه بعض الملاحظات التي من
شأنها التحسين. فهذا ليس فيلماً أو حفل عشاء، بل مشروع ثقافي لا يثمر الا
عبر الاستمرارية والتراكم دورةً بعد أخرى، ولا تتوضح ملامحه إلى مع الزمن.
الملاحظة الأهم تطال بشكل أساسي طبيعة المواضيع المطروحة ونوعها. أما
الملاحظة الثانية فهي تمنٍّ لعرض كامل للأفلام التي تتم مناقشتها. مناقشة
فيلم شاهدناه للتو فوائدها كثيرة قياساً بمناقشة فيلم شاهدناه قبل سنوات،
والتفاعل سيكون أعلى. أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتطال المشاركين
أنفسهم. توسيع الدائرة مطلوب، والغربلة ضرورية أيضاً، لكن هذه أشياء قد
تحدث من تلقاء ذاتها في السنوات المقبلة. |