ثمة ما يمكن أن يجعلنا ندرك لماذا راهن مهرجان
فينيسيا السينمائي
على أن فيلم
Dogman
(مربي الكلاب) للمخرج الفرنسي ذو النزعة الهوليودية لوك باسون
(صاحب
أفلام
Taxi
و
Taken
و
The Fifth Element)،
يمكن أن يصمد أمام منافسة أفلام لمخرجين مثل صوفيا كوبولا، ويورجس
لانثيموس، وديفيد فينشر، ومجموعة من لا تقل عن 15 مخرجاً آخرين ضمن
المسابقة الرسمية الـ80 في عمر المهرجان الأعرق.
أولاً: يمكن اعتبار فينيسيا منذ سنوات هو بمثابة مهرجان
كان بالنسبة
للأفلام الأميركية، والمتابع لمسابقته الرسمية يمكن بسهولة أن يربى قناعة
بأن المهرجان الإيطالي هو الفرع الأوربي للأوسكار،
فالعديد من الأفلام التي فازت بتمثال الرجل الصغير خلال العقد الأخير،
انطلقت عروضها الأولى من قاعات الليدو التاريخية.
وباستثناء مهرجاني صندانس وتريبيكا،
فمن الواضح أن هوليود كانت
ترغب أن يكون لها موطئ قدم ضمن نطاق المهرجانات الأشهر في عالم الضوء
السحري، فختم الأسد المجنح على عناوين أي فيلم هو علامة جودة مفروغ من
هيبتها، حتى لو كانت غير مستحقة في بعض الأحيان، ويمكن أن نضيف أيضاً تساهل
فينيسيا مع المنصات الرقمية، سواء في شروط العرض أو الإنتاج عكس مهرجان كان.
ثانياً: ثمة توجه واضح ضمن مهرجان فينيسيا هذا العام
للتأكيد على أن الحالة الهوليوودية لديها من الرسوخ والتأثير والتمدد ما
يضمن بقاء كعبها عالياً حتى في قارة السينما نفسها، وأفلام بالمسابقة مثل
الإيطالي
Adagio،
والألماني
The Theory of Everything
(نظرية كل شيء) يلوحان بهذا علانية، فالأول مصنوع حسب الخريطة الأميركية
لأفلام الإثارة البوليسية، والثاني ينتمي لنوعية الخيال العلمي التي يحتكر
الأميركان سر جاذبيتها.
السجن والكلاب
يبدأ كل شيء من إشارة للبوليس، أن هناك شخصاً ثلاثينياً لا
ندري هل هو رجل أم امرأة؟، مشتبه في كونه مسلح يجول في عربة مصفحة، وحين
تتوقف العربة في كمين الشرطة نكتشف أن من يقودها رجلاً مصاباً، في فستان
على هيئة مارلين مونرو، بينما حمولة العربة المصفحة هي أغرب ما قد يمكن
تصوره، مجموعة هائلة من الكلاب.
وينتهي الفيلم بنفس الرجل بعدما استعاد هيئته الذكورية -فهو
ليس مثلياً أو متحولاً- تحيط به نفس المجموعة من ذوي الذيول بعدما حررته،
فنراه يرقد في ظل الصليب المنتصب فوق أحد الكنائس، ينام على الأرض فاتحاً
ذراعيه كمسيح ينتظر أن تأخذه السماء إليها كي يستريح من عناء البشر.
وما بين سجن الإنسان والتحرر على يد الكلاب يتحرك دوجلاس
-تبدو دلالة الاسم أوضح بالإنجليزية
DOG/LASS-
في سردية تُمجد من فطرية الغريزة غير الملوثة أو مدفوعة الأجر، وبين ضحالة
النفس البشرية التي فقدت نخوة الضمير وباقات المحبة غير المشروطة.
يلتزم الفيلم بثنائية (السجن والكلاب) في محطات العلاقة ما
بين دوجلاس والبشر، أولها هي القفص الذي يحبسه فيه أباه، مربي الكلاب
الوحشي الذي يعدها للقتال عبر زيادة جرعة الشراسة في أنيابها، والذي يحرره
منه كلب صغير حين يطلق أباه النار عليه عقاباً على إطعامه للبضاعة الحية
التي يتم إعدادها بالتجويع المميت.
ثم ينتقل دوجلاس إلى سجن الكرسي المتحرك عقب إصابته بالشلل
جراء الطلق الناري، وهنا لا تفلح مدربته في دار الرعاية، والتي تعدّه كي
يكون فرد سوي بالمجتمع عبر جرعات من المسرح الشكسبيري الشفاف، فتضرب حوله
سجناً جديداً دون أن تدري، سجن الحب الملوث بهستيرية التعلق الأمومي، فهو
مهجور من أمه وهي تكبره ببضع سنوات، وناجحة وجميلة حد الروعة.
وفي محاولة جديدة للتحرر، يقرر أن يبحث عن عمل عادي وشريف
ونظيف حسب المعادلات الاجتماعية البراقة والزائفة في نفس الوقت، لكن يظل
مسجوناً داخل النظرة الدونية التي تلاحقه -عاجز وغير متعلم وخريج دار
رعاية- فلا يجد في النهاية سوى العمل في واحدة من محلات الترفيه، والتي
يرتدي فيها الرجال زي النساء، -هناك شكوكاً مشروعة حول إضافة حليات
الصوابية السياسية- فجسده الذكوري المشلول لم ينصفه في سوق العمل، بينما
ملابس المرأة ومكياجها الصاخب جعلاه يقف على أقدامه بمعاونة زملائه؛ لكي
يخلب مسامع الزبائن بأدائه لأغنية للمطربة الفرنسية أديث بياف.
ميلاد "جوكر" جديد
من يسجنه البشر تحرره الكلاب.. هكذا ببساطة تسير معادلة
"دوجلاس" مع أكثر الكائنات قرباً له وفهماً بحديثه ومشاعره ونظراته،
وتذوقها لعاطفته وطعامه وصوته الهادئ، تتعدد مستويات السجن ما بين مادي
وجسدي ومجازي، وتظل الكلاب هي المحرر الأساسي لدوجلاس من كل القضبان التي
تختنق روحه المسكينة في جسد متداعٍ.
الكلاب نفسها مجاز سبق وأشرنا إليه، هي الفطرة غير الملوثة،
هي الإخلاص المطلق والشجاعة القابضة على الرحمة والذكاء الشعوري، وكلها
صفات تكاد تخلو منه كل شخصيات الفيلم، ربما باستثناء الطبيبة النفسية ذات
الأصول الإفريقية-بالطبع تعود الصوابية لتميز نفسها بنفسها- والتي تسأل
دوجلاس في نهاية التحقيق بعدما استعاد معها حكايته "لماذا صارحتني بكل
هذا؟"، فيقول لها: "لأن هناك ما يجمعنا سوياً.. إنه الألم".
لا يفوت السيناريو أن يأنسن الطبيبة النفسية -خصوصاً لو في
سياق الصوابية- فهي تعاني من أزمة اجتماعية بسبب تعرض طليقها بالسوء رغبة
في انتزاع ابنها، وفي نفس الوقت هي أشبه بالراهب الذي يفضي له الرجل الأبيض
المعذب بكل الأسرار التي جعلته يحيد عن طريق الرب.
ومن هنا ندرك لماذا استلقى أسفل الصليب في النهاية، بعدما
أنهى اعترافه الطويل للطبيبة وكأنه تطهر من حكاياته الدموية أخيراً، هذا
فيلم متخم بالرموز والدلالات الدينية التي لا يمكن فصل عظم المجاز فيها عن
لحم الدراما.
لكن كل هذا أيضاً لا يمنع بل يؤصل، لما يمكن أن نعتبره
إزاحة حقيقية باتجاه أيقونة سينمائية من الصعب أن نخطئ المقارنة معها، وهي
شخصية "الجوكر"، التي قُدمت مؤخراً بتوقيع خواكين فينكس، والمخرج تود
فيلبس، وجاءت انطلاقتها أيضاً من فينيسيا قبل 4 أعوام.
صحيح أن كيلب لاندري جونز يدرج نفسه بأداء شخصية دوجلاس على
رأس قائمة مرموقة تخص عمق الأداء وجاذبيته الآسرة، لكن من الصعب أن ننفلت
من تلك الإحالات غير المباشرة مع ابتسامة "الجوكر" الشهيرة التي تقفز إلى
شاشات الخيال ونحن نشاهد كيلب دوجلاس يرتدي ابتسامة مارلين مونرو بأحمر
الشفاه، الذي يتشوه بينما يدافع عن مخبأه هو والكلاب، ضد ملائكة القيامة،
كما يطلق على العصابة التي جاءت تنتقم منه لأنه لطخ كبرياء زعيمها بلعاب
كلب صغير من مجموعته، دفاعاً عن امرأة مستضعفة.
حتى ولو لم تكن الإحالة باتجاه "الجوكر" مقصودة، لكن
التداعي يبدو إلزامياً من قبل لا وعي المتلقي، ولولا تجذر "الجوكر" في
الذاكرة الجمعية نتيجة ارتباطه بسردية "الرجل الوطواط" إلا أن دوجلاس
"دوجمان" لديه من الشحنات العاطفية والحرارة الإنسانية، بالإضافة لارتباطه
هو نفسه بكائن من أحب الكائنات إلى البشر "الكلاب"، ونجاح جونز في السيطرة
بمهارة على هدوء الشخصية الصاخب، والهدوء من أكثر الانفعالات صعوبة في
السيطرة عليها عند الممثل، لأنه يمكن أن ينزلق للبرودة أو الموات دون أن
يدري.
هذه العناصر مجتمعة، أضف إليها حيوية الإيقاع، وسخونة
الصراع، وتدرجه، وتصاعد موجاته -تشدنا نحو الجزم بأننا نشهد ميلاد أيقونة
جديدة، مستحقة التقدير وكاملة الإشعاع، بل نجزم أن جونز قد ضمن لنفسه
ترشيحاً أوسكارياً مرموقاً في حفل الأكاديمية المُقبل.
أخيراً، يمكن أن نشير إلى أن لوك باسون، تمكن بمُكر المتمرس
على المعطيات الهوليوودية أن يضمن لنفسه شريحة من محبي الإثارة والحركة،
ومشاهد إطلاق النار الدموية، دون أن يبدو أي منها مقحماً أو مدعياً،
فالصراع بين البشر والكلاب على المستوى الغريزي يجب أن يصل إلى نقطة صدام
مزلزل، تنتصر فيها الكلاب لأسباب تتعلق بفطرتها وشجاعتها وخلو غريزتها من
حتمية العنف والقتل التي تلوث البشر.
في مشهد المعركة الأخيرة -الذي يفسر وجود دوجمان مصاباً
وعصابته من ذوي الذيول في عربة تجوب الشوارع- هناك نفس هوليوودي ساخن، قادم
من صدر المواجهة اللازمة لتفتيت طبيعة الصراع الذي اختاره البشر أنفسهم،
ولم تختره الكلاب ولا غيرها من الكائنات التي أصبحت أرقى غريزياً رغم
التطور الهائل الذي منحته الحياة للإنسان.
*
ناقد فني |