يتّخذ التونسي يوسف الشابي (1984) من مجمّع سكنيّ قيد
الإنشاء، يقع في ضاحية "حدائق قرطاج"، مكاناً، يُمكّنه من معاينة أحوال
تونس.
على أرضيّته، وبين هياكله ناقصة الاكتمال، كالتحوّلات الحاصلة في بلده،
يتخيّل أحداثاً قابلة للتصديق سينمائياً، لكنّها لنْ تتطابق، بالضرورة، مع
الواقع، بل ربما تقاربه، وتُصبح أكثر قبولاً لتأويل المُتفرّج، حالما
يستجيب إلى دعوة السينمائيّ إلى التماهي مع حالة الاغتراب، المقترح أحداثها
بالتداخل المتعمَّد بين الحقيقة والخيال، والتي تستدعي مشاركته الفاعلة في
التفكير بها.
الأحداث الغامضة والمتكرّرة، التي تشهدها البنايات، ويموت
أشخاصٌ فيها بسبب اشتعال النار في أجسادهم، تُثير مخاوف رجال الشرطة من أنّ
هناك جريمة مقصودة وراءها، وليست انتحاراً اختيارياً، كما تبدو في الظاهر.
يُحقّق الشرطيان، فاطمة (فاطمة أوصيفي) وبَطل (محمد حسين
قريع)، في "أشكال" (2022) ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ19 (11
ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2022) لـ"المهرجان
الدولي للفيلم بمرّاكش" ـ
في تلك الأحداث. أسلوب تحرّيهما، المُقارب للأسلوب التقليدي للأفلام
البوليسية، يُعطي إحساساً أوّلياً بأنّ السرد ماضٍ في هذا الاتجاه. لكنّ
الخيار الفني يُلجمه سريعاً، ويغدو الابتعاد عن الهدف التقليدي لأفلامٍ
كهذه، تنتهي عادة بمعرفة المجرم، خياراً مدروساً ومكتوباً منذ البداية على
الورق، وبوضوح (سيناريو يوسف الشابي مع فرنسوا ميشال أليغريني).
هناك تعقيد والتباس كبيران في المشهد التونسي، لا يُختَصران
بجريمة وتحقيق بوليسي يكشف مرتكبها. هذا يدفع السردُ إلى مناطق غامضة
وعميقة وشديدة الصلة بالتحوّلات السياسية، التي يشهدها البلد منذ انطلاق
الحراك الشعبي، إثر إضرام محمد
البوعزيزي النار
في جسده (17 ديسمبر/كانون الأول 2010، علماً أنّ وفاته حاصلةٌ في 4
يناير/كانون الثاني 2011)، احتجاجاً على ظلمٍ لحق به. هناك "أَشكال" مختلفة
للتعبير عن الخيبة الناتجة عنها، يجد الشابي، في بنايات مشروع "حدائق
قرطاج"، أحد أفضل الأمثلة عليها، ومن بين أكثرها قبولاً وترحيباً بتغلغل
الخيال فيها. تصاميم شققها الفارهة أُعدّت، في عهد الرئيس زين العابدين بن
علي، للأثرياء والمتنفّذين، وفي خضم الأحداث السياسية، توقف العمل بها، ثم
أُعيد ثانية بعد أعوام.
سلسلة أحداث موتِ أشخاصٍ حرقاً بدأت مع العثور على جثّة
متفحّمة، تعود إلى شغّيل في المشروع، لم يجد الأطباء الشرعيون أي مادة
مساعدة للاشتعال بها، والمُحترق لم يتحرّك من مكانه، على غير عادة من
تُضرَم النار في أجسادهم، الذين ـ بسبب الوجع الحاصل من شدّة الحروق ـ
يتحرّكون في الاتجاهات كلّها. في قصّة الخادمة في منزل أثرياء، يُشدّد
شاهدُ موتِها احتراقاً على رؤيته لها واقفة من دون حراك، ومستسلمة لشخصٍ
يقف أمامها، وبحركة غريبة من يديه يضرم النار فيها. الدلالات التخيّلية
لدوافع الجريمة متعدّدة، وطرق الإعلان عنها بالهواتف
المحمولة تزيد
من التباسها. لكنّ الثابت فيها الشكلُ البديع المُجسّدة به سينمائياً، الذي
يجعل من "أَشكال" فيلماً عربياً (إنتاج تونسي قطري فرنسي) مهمّاً
ومتميّزاً، على مستوى الصَنعة. ممثّلوه متروكٌ لهم مساحة كبيرة من حرية
الحركة والتعبير، رغم قلّة الاهتمام بالجوانب المتعلّقة بتطوير شخصيتيّ
بطليه درامياً. هذا يصعّب عليهما المهمة، ويُضعف علاقتهما بالمتفرّج
عليهما. ورغم ذلك، حافظا على صلة مؤثّرة وفاعلة طوال مدّة الفيلم.
على أدائهما، راكَمَ الشابي ما يريد من طبقات سفلية لفكرة
مركزية، لا تخلو من غموض، هو نفسه لا يريدها أنْ تصعد عالياً، كي تبقى
ناقصة، كتلك البنايات الجوفاء، وبحاجة إلى من يُكملها بما عنده من خيال.
يريدها وسيطاً محفّزاً للتفكير بالمعاني والأسئلة الملازمة للحدث: (النص
الكامل على الموقع الإلكتروني) هل قتل الشاب المجهول، المرتدي دائماً بلوزة
بقلنسوة رأس تخفي ملامح وجهه، الخادمة وشغّيل الموقع، للإعلان عن حاجة
ملحّة إلى ثورة جديدة تُكمل سابقتها، وعليهما المُشاركة فيها، ولا يكتفيان
بعملٍ يُشيد صرحاً لفاسدين ومنتفعين؟ هل مقتل رجل شرطة، حرقاً، كناية عن
عجز السلطة ورجالها عن مواجهة مدٍ مُقبل؟ مساحة الأسئلة والدلالات تتّسع
إلى أخرى، يُلازمها إبهامٌ لا ينفكّ، إلاّ بالمشاركة في تخيّل أوسع من
المشهد المعروض على الشاشة.
هذا يقرّب المُنجز من حداثوية سينمائية، تُلحّ على توريط المتفرّج معها،
وتعاند كسله.
في ثنايا المسار العام، يُعطي يوسف الشابي، أحياناً، جرعات
قليلة من الوضوح، ليحقّق ما يريده من المتفرّج على فيلمه. ينقل بطليه إلى
أمكنةٍ تفضي إلى دهاليز وممرّات ضيقة. يُمكن مُشاهدة بعض دلالات ما تنطوي
عليه فكرة الحريق، وبقاء الأوضاع على ما كانت عليه في زمن بن علي، مع فوارق
قليلة. عَمَلُ المحقّق البوليسي بَطل امتدادٌ لما كان يقوم به في العهد
السابق. مسؤولوه متورّطون في فساد، ويورّطونه في نهاية الأمر معهم. وحين
يرفض الانصياع لهم، يقضون عليه. المحقّقة فاطمة المتخلّصة الوحيدة من
الماضي، ومن صلتها بوالدها، الذي كان معارضاً فيما مضى، واليوم ينشط في
"هيئة العدالة والكرامة" بخطبٍ رنّانة، لا نفع منها. نظرة الآخرين لها،
كونها امرأة وتعمل في الشرطة،
دونية. حتّى صديقها يتركها خوفاً من التواصل معها، بعد أنْ أمسَتْ حياتها
في خطر، يزداد مع إصرارها على كشف الحقيقة، المغيّبة بتعمّد، ورغبة سياسيين
في عدم الوصول إليها. يُعلّقون فشلهم على مشجب الإرهاب، وعلى توجيه التُهم
ظلماً إلى أبرياء.
النهاية مُضلِّلة، توحي أنّ الشاب المتّهم، الذي يموت هو
الآخر حرقاً، ربما يكون كائناً فضائياً، حَلّ على الأرض للانتقام لنفسه من
جورٍ تعرّض له من سلطات، أو أنّه ربما يكون مبعوثاً من قوى غير مرئية، تريد
التذكير بما جرى، وبأنّ الحال لم يتغيّر. يعود مُجدّداً إلى ما كان عليه
قبلاً، عبر الشروع في بناء ما لم يُكمله النظام السابق. كلّ تلك الإيحاءات
تُجسَّد باشتغال سينمائي شديد الخصوصية، يبرز، من بين أكثرها جمالاً،
التصوير (حازم برابح) والموسيقى (توماس كوراتلي)، وكلّ الحصيلة النهائية
لمنجز سينمائي، سحب الواقع إلى الشاشة، بخيطِ الخيال الساحر. |