فيلمٌ مخيّبٌ جداً للتوقّعات، بعنوان "ضوضاء بيضاء"
للأميركي نواه بومباك، افتتح، مساء الأربعاء، 31 أغسطس/آب 2022، الدورة
الـ79 لـ"مهرجان
فينيسيا السينمائي الدولي"،
والتي تنتهي في 10 سبتمبر/ أيلول 2022.
ويبدو أن المهرجان العريق أبى، في هذه الدورة، أنْ يحيد عن
سلسلة أفلام الافتتاح الضعيفة والمُحبطة جداً، التي وسمت المهرجانات الكبرى
في دورات هذا العام. إذْ اتسمت أفلام افتتاح "مهرجان
فينيسيا"،
أقلّه في الأعوام القليلة الماضية، بالفنيّة والمتعة والعمق. هذا كلّه غاب
نهائياً عن "ضوضاء بيضاء"، الذي لا علاقة له بالضوضاء، ولا بأي شيء أبيض.
ركاكة وسطحية أميركيتان
بعد ثلاثة أعوام على مشاركته في المسابقة الرئيسية، بفيلمه
الرومانسي الاجتماعي النفسي "قصة
زواج"
(تمثيل آدم درايفر وسكارليت جوهانسن ولاورا ديرن)، الذي كان اكتشافاً
رائعاً في تلك الدورة؛ والذي حظي بإقبال جماهيري، ونال ترشيحات عدّة، وفاز
بجوائز مُستحقّة؛ عاد بومباك إلى المسابقة الرئيسية لـ"مهرجان فينيسيا"
بجديدٍ، لا يتقاطع لا مع الكوميديا السوداء أو البيضاء، ولا بالرعب، ولا
بالغنائيّ الراقص أو الاستعراضي، وفقاً لما أُعلِنَ عنه، قبل عرضه. الفيلم،
المُقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (1985) للكاتب الأميركي دون دليلّو،
والفائزة بجائزة "الكتاب الوطني للرواية"، يخلو من كل ما سبق، بما فيه
العمق الفلسفي، والتأمّل الوجودي، اللذان بَدَوا على قدر كبير من الركاكة
والسطحية، رغم الجهد الإخراجي الملموس.
هل العيب في الأصل الروائي، واختيار المخرج للعمل؟ أم في
رؤية نواه بومباك للنص الأدبي سينمائياً؟ أم عدم صلاحية الرواية للاقتباس
أصلاً؟ أم، ببساطة، إخفاق المخرج في اقتباسه الرواية؟ إذْ يندر أنْ يلجأ
بومباك، في أفلامه، إلى الاقتباس من أصل أدبي، فهو يكتب قصة وسيناريو وحوار
أفلامه بنفسه. من ناحية أخرى، يصعب تخمين أسباب اختيار الفيلم لافتتاح
المهرجان.
لا علاقة للنجوم بالأمر، فالمهرجان يزخر هذا العام بنجوم
عديدين، أهمّ وأكثر جاذبية من أبطال "ضوضاء بيضاء". كما يُستبعد أنْ تكون
هناك شبهة انصياع أو رضوخ لمطالب "نتفليكس"، مُنتجة الفيلم، وأفلام أخرى في
المسابقة وخارجها، إذْ لم يتسرّب، حتّى اللحظة، أيّ شيء بهذا الخصوص. إذاً،
لعلّ الأمر ببساطة شديدة مردّه برمجة المسابقة الرئيسية، المنوط بها دائماً
المدير الفني ألبيرتو باربيرا، المعروف بذوقه الفني المتميّز، وباختياراته
الرفيعة.
تدور أحداث الفيلم (136 دقيقة) في ثمانينيات القرن الماضي،
مع أسرة البروفيسور جاك غْلادني (آدم درايفر)، الجامعي المرموق، والمعروف
بتخصّصه النادر في الدراسات الهتلرية. زوجته بابِتْ (غريتا غُرويغ) ربّة
منزل، ومُدرِّبة رياضية أحياناً. لديهما أربعة أولاد في أعمار مُختلفة.
تحيا الأسرة حياة نموذجية ونمطية وسعيدة وهانئة، باستثناء بعض وسواس
الأمراض، وهواجس مُرتبطة بالحياة وماهيتها، والخوف من أشياء كثيرة، خاصة
الموت، رغم الإدراك المُسبق للزوجين بأنْ لا مفرّ منه، ويستحيل تجنّبه.
مع تطور الأحداث، والتعريف بالشخصيات وخلفياتها، تحدث صدمةٌ
كبرى، تتمثّل باصطدام شاحنة كبيرة، مُحمّلة بمواد قابلة للاشتعال، بقطار
بضائع ضخم، مُحمّل أيضاً بمواد كيميائية قابلة للاشتعال، ما يؤدّي إلى
انفجارات ضخمة، وانبعاث سحابة كبيرة وشديدة الخطورة من الغازات الكيميائية،
المهدِّدة لحياة البشر في المنطقة، فيُنفَّذ إخلاء عاجل للسكّان إلى مخيّم،
ريثما يتمّ احتواء الوضع، والسيطرة عليه. كارثةٌ، من شأنها زعزعة حياة أسرة
مهووسة ومرعوبة، أصلاً، من أمور كثيرة، لا وجود لها أساساً.
عوضاً عن تطوير الحبكة وتعقيدها أكثر، بناء على تلك الكارثة
المفصلية، وتمحور الأحداث حول حياة الشخصيات وردود أفعالها المختلفة إزاء
ما حدث لهم ولبلدتهم وجيرانهم، يتجاهل "ضوضاء بيضاء" الحادثة كلّياً،
تقريباً، كأنّها لم تقع. من منتصفه إلى نهايته، يتفرّع الفيلم إلى حبكات
أخرى جانبية غريبة، وغير مهمّة، ولا تفيد في تطوير الحبكة، وخلق غموض
وتشويق واستمتاع سينمائي، من أي نوع، ولا في تطوير الشخصيات وعوالمها،
اجتماعياً ومرضياً ونفسياً، ما انعكس على نمطية ورتابة وضعف أداء الشخصيات
الرئيسية.
ينتهي "ضوضاء بيضاء" ـ الفارغ من كلّ جديد وفنّي، ومن كل ما
يحثّ على التفكير، ويحضّ على المتابعة والاستمتاع ـ برقصة استعراضية طويلة،
لـ10 دقائق تقريباً، لا صلة لها به وبأحداثه، تدور في سوبرماركت ضخم، بين
الممرّات والأرفف المحمّلة بالبضائع والسلع، بينما تتسوّق الشخصيات،
وآخرين. المُثير في تلك الخاتمة أنّها، كوريغرافياً، ليست مُمتعة وجذّابة
وفنّية، ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول مخرج، تجلّت بصماته سابقاً في
أفلامٍ أهمّ وأعمق وأجمل فنياً بكثير من "ضوضاء بيضاء".
"آفاق" و"أيام المؤلّفين"
في اليوم نفسه (31/ 8/ 2022)، افتُتح أيضاً قسم "آفاق"،
بالفيلم الإيطالي "برنسيس"، لروبيرتو دي باوْلِس. يهتمّ هذا القسم، الثاني
في الأهميّة بعد المسابقة الرئيسية، بعرض الأفلام الأولى والثانية
لمخرجيها، وكثيرٌ منها يستحقّ التوقّف والتأمّل والتقدير. مقارنةً سريعة
بين "برنسيس" و"ضوضاء بيضاء" للأميركي نواه بومباك، فيلم افتتاح المسابقة،
ستكون نتيجتها، بالتأكيد، لصالح الفيلم الإيطالي، ومخرجه الشاب، الذي كشف
سابقاً عن موهبته كسينمائيّ واعدٍ، بـ"قلوب بيضاء" (2017).
يبدو أنّ القائمين على "آفاق" أرادوا أنْ يكون فيلم
الافتتاح على قدرٍ كبير من الإنسانية والعمق، ويمسّ بشدة، ويضرب عميقاً في
جذور إحدى المشكلات الإنسانية العويصة، والطارئة حديثاً، على المجتمع
الإيطالي: شابّة نيجيرية، مهاجرة غير شرعية، تُدعى برنسيس (كَفِن غلوري)
تبيع جسدها للمارين على الطرق السريعة، ووسط الغابات، وفي الأحراج، رفقة
أربع فتيات تشاركهنّ حياة الخفاء، والإقامة غير الشرعية، والخوف، والهروب
من كلّ شيء. الشرطة ليست أكبر المخاوف بالنسبة إليها، وإنْ كانت على رأسها.
أساساً، يصعب عليها الاحتكاك الطبيعي والتواصل الإنساني مع البشر، أو هناك
تحفّظات كبيرة بشأنهما. فالغرض الأساسيّ الذي يحكم أيّ تعامل لها كامنٌ في
حصولها على المال، فقط.
في المسار الدرامي كلّه، تُلمَس حيوية برنسيس وبساطتها
وعفويتها وخجلها وسذاجتها. وعندما يتقرّب منها كورّادو (لينو موزيلاّ)،
الخجول والطيّب، تستجيب لصحبته بصعوبة بالغة، رغم مصارحتها إياه بكرهها
للبشر، وتفضّل الحيوانات والطيور على صحبتهم والتعاطي معهم. وعندما يحاول
الدخول إلى حياتها وإدخالها إلى حياته تدريجياً، ترفض لأكثر من سبب،
مُفضّلةً حياة الأحراج والطرقات، ومواجهة الخطر اليومي، بما يحمله من قيود
وأغلال ومذلّة.
في "برنسيس"، تجنّب روبيرتو دي باوْلِس، قدر الإمكان،
الشخصيات والمعالجات المُستَهْلَكة، مبتعداً عن المعتاد والمألوف في تناول
مواضيع كهذه، ما كان له أثر كبير على مستوى الفيلم. وأيضاً، اختيار أماكن
التصوير في الغابة والأحراج والطرقات السريعة، والابتعاد عن حياة المدن
والبشر، وهذا أبرز، بقوّة، ما أراد باوْلِس تقديمه. لكنْ، يسبق هذا، أداء
قوي جداً لكَفِن غلوري.
في السياق نفسه، افتُتحت مسابقة "أيام المؤلّفين"، التي
تشرف عليها وتنظّمها "جمعية المُؤلّفين السينمائيين والمُنتجين
المُستقلّين" منذ 19 عاماً. والافتتاح معقودٌ على الفيلم اللبناني "حديد
نحاس وبطاريات"، لوسام شرف، ثاني روائي طويل له، بعد أفلامٍ قصيرة عدّة.
عنوانه بالإنكليزية "قذر صعب وخطر"، ويطرح عناوين إنسانية مختلفة، كالقمع
والاضطهاد والعنصرية والفقر والهجرة والحبّ المستحيل والحرب، وغيرها.
عناوين، لو اجتمعت في عمل واحد، تُضعفه عادةً، أو لا تكون بالقوة نفسها، أو
تسقط في المُباشَر والتكرار والملل. ذكاء وسام شرف أنّه استطاع صهر كلّ هذا
معاً، بمنتهى الاحترافية، وبفنّية لافتة للانتباه، وبسخرية ملحوظة، من دون
ملل أو تكرار أو كليشيهات محفوظة. والأهم، هناك تشويق واستمتاع، وقوّة في
رسم الشخصيات والحبكة، ومنطق في تسلسل الأحداث، ما يُرشّح الفيلم للمنافسة
على جائزة التظاهرة.
بمهارةٍ، تمزج أحداثه بين الكوميديا السوداء والعبث، مع
شيءٍ من الفانتازيا، يسهل التفاعل معها وتصديقها، تتعلّق بجسد البطل، الذي
يُفرز الحديد من جروحه. يتطوّر الأمر إلى أكثر من هذا، لاحقاً، في استعارة
جعلها وسام شرف مفتوحة على احتمالات وتأويلات عدّة، كالإحالات المواربة أو
شبه الصريحة عن الواقع المُعاصر في لبنان.
الشاب سوري لاجئ يُدعى أحمد (زياد جلاد)، يعمل في جمع
الخردة، من حديد ونحاس وبطاريات، لقاء مبلغ زهيد من المال. أساساً، هذا
مصدر للمال غير مُنتظم. يحبّ أحمد الشابة الإثيوبية مهدية (كلارا كوتوريت)،
التي تبادله حبّاً صادقاً، لكنّ حياتها ومصيرها ليسا مُلكاً لها، إذْ تعمل
خادمةً عند عائلة الجنرال الطيب، المختلّ عقلياً، إبراهيم (رفعت طربية)،
وزوجته المتحكّمة والصارمة ليلى (دارينا الجندي).
تتعقّد الأمور بينهما، وتُصبح قصّة حبهما مُدانة. فالعلاقة
غير مُحبّذة من الأطراف كلّها، أصدقاء وزملاء أحمد في العمل، وصديقات مهدية
الإثيوبيات. وعندما تكتشف ليلى علاقتها بأحمد، صدفةً، تحبسها في المنزل،
وتُصادر هاتفها، وتمنعها من الخروج إلى الشارع. فتنقطع علاقتها بأحمد
تماماً. هذا لم ينجح إلى حدّ كبير، إذْ تُدفع مهدية إلى التطرّف في ردّ
فعلها، من دون أن تبكي على شيء، طالما أنّها ستكون في حماية حبيبها أحمد،
رغم المشاكل والصعاب والمستحيلات البادية في الأفق. |