"إخوة
ليلى": تمثيلٌ مُقنع بواقعيّته ومُفاجئ بتحوّلاته
باريس/ ندى الأزهري
حين طُرح سؤال عن أفلامٍ تستحقّ المشاهدة في "مهرجان فجر
السينمائي الدولي"، أكبر وأهم مهرجان سينمائي في إيران، في دورته الـ34 (20
ـ 25 إبريل/نيسان 2016)، كان اسمه يتردّد على كلّ لسان. بدا أنّه القادم
الجديد بلا جدل. سعيد روستائي (26 عاماً) بدا مُدهشاً للجميع بقدرته على
كتابة سينمائية مُحكمة، وإخراج بلا ثغرات، منذ فيلمه الأول، "أبد ويوم
واحد" (أبد ويك روز). فاز حينها بـ9 جوائز في "مهرجان فجر السينمائي"،
الخاص بالأفلام الإيرانية، في دورته الـ34 (1 ـ 11 فبراير/شباط 2016)، منها
جائزة أفضل فيلم في قسم "نظرة ما" للعملين الأول والثاني، وجائزة أفضل
إخراج في قسم المسابقة الرسمية للسينما
الإيرانية.
إنّها المرّة الأولى التي يفوز فيها فيلمٌ إيراني بهذا
القدر من الجوائز في هذا المهرجان (مهرجان فجر السينمائي)، لا سيما مع حضور
أسماء إيرانية كبرى ومُكرّسة، مثل ماني حقيقي وكمال تبريزي ورضا مير كريمي.
كثرة الجوائز لفيلمٍ أوّل لم تكن عثرة أمام تحقيق التالي،
كما يحصل أحياناً. الفيلم الثاني لروستائي أكثر إدهاشاً بمستواه. شارك
"قانون طهران" (2019، "المتر بستة ونصف"، (عنوانه بالفارسية) في "مسابقة
آفاق"، في الدورة الـ76 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2019) لـ"مهرجان
فينيسيا السينمائي"،
ووُزّع تجارياً في أوروبا، ودام عرضه في فرنسا 3 أشهر. نجاحٌ يُعتَدّ به،
بالنسبة إلى فيلمٍ غير غربي.
أمّا فيلمه الثالث، "إخوة ليلى"(2022)، فعُرض في المسابقة
الرسمية للدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي.
رغم طغيان الحوار عليها، وإثقاله إياها أحياناً، تشدّ
أفلامه من البداية إلى النهاية، مع قصة غنية، وحبكة مُشوّقة تتعدّد فيها
الذروات والتفرّعات، وإيقاع سريع. لا تنتمي أفلامه إلى نوع سينمائي محدّد.
هو يكتب السيناريو، من دون التزامٍ بقواعد تُحيله إلى فئة معينة. المؤكّد،
كما يصفُ أسلوبَه بنفسه، أنّ هذا البعد الدرامي، أو التشويق، القريب من هذا
النوع أو ذاك (بوليسي مثلاّ)، يتأتّى من قوة القصة المستمدّة مباشرة من
الواقع. أفلامه تتميّز بصدقٍ في تعبيرها عن المعيش، وتتعمّق في قضايا
مختلفة، يعانيها المجتمع،
كالإدمان على المخدّرات والفقر والبطالة والمشاكل الأسرية.
نجح فيلماه نجاحاً كبيراً في عروضهما الإيرانية، لأنّ
الجمهور وجد نفسه فيهما، وفي تعبيرهما الصادق عنه وعن محيطه. أفلامه ليست
مجرد أفلامٍ مكتوبة بذريعة اجتماعية مُفتعلة، لا تحتوي أي حقيقة من
المجتمع. لذلك، فإنّ درجات تقديرها تتساوى بين النقّاد والجمهور، في وطنه
وخارجه. هذا شبه نادر.
يميل سعيد روستائي إلى توظيف الحوار والنقاشات كوسيلة
للتعبير. يُنحّي جانباً كلّ صمتٍ موحٍ. لا تورية في أفلامه، أو لبسٍ ما،
ولا استعارات. لا يُفضّل الترميز، ويؤثر رواية حكاية بمسار مرسوم بوضوح، لا
يخلو تطوّرها من مفاجآتٍ، ترفع وتيرة التشويق. لا شاعرية، بل مشاعر متنوّعة
ومتضاربة، من تمرّد وثورة على قسوة الواقع، أو خضوع له. في "إخوة ليلى"،
كما في "أبد ويوم واحد"، يموضع المرأة في صميم الحدث، في هذا الصراع
المستديم للبقاء. حولها، تتمحور الحياة، وتدور الشخصيات. تتحلّى ببُعد نظر
وحكمة أكثر من الرجل. إنها نظرته إلى المرأة الإيرانية، التي لا تتنصّل من
مسؤولياتها، وتقف في الخطّ الأول للمواجهة، أمام قسوة الحياة وتعقيداتها،
في مجتمع يخضع لسلطة أبوية.
في 165 دقيقة، يُثبت روستائي مجدّداً موهبة استثنائية في
صوغ عملٍ مُتكامل، كتابةً وإخراجاً وتصويراً وتوليفاً. مع قصّة عائلة
متواضعة، ترزح تحت عبء ديون تقيّدها وتُسبّب لها صراعاتٍ، تتشابك فتتعقّد
الحلول. عائلة مهدّدة بالانفجار، وعلى وشك الانهيار. تتأثّر بأزمة اقتصادية
غير مسبوقة في البلد،
تُثير خيبات أمل بالنجاة، قبل أنْ تأتي ليلى (ترانة عليدوستي) بمقترحٍ
للخلاص. ليلى كرّست حياتها لوالديها وإخوتها الأربعة.
في سعيها إلى إخراج أسرتها من وضع ميؤوس منه، تضع خطّة شراء
متجر، لبدء عمل تجاري مع إخوتها. كلّ واحدٍ منهم يضع مدخراته المتواضعة
فيه، لكنّهم يفتقرون إلى دعم مالي أخير. في الوقت نفسه، وأمام استغراب
الجميع، وعد والدهم إسماعيل (سعيد بور صميمي)، المعروف بفقره، بتقديم مبلغ
كبير من المال، ليُسمّى عميد العائلة الكبرى، التي طالما احتقرته لدونيّة
وضعه الاجتماعي، من دون أنْ يعبأ بحاجات أولاده، في مقابل حصوله على ما
يُعتَبر أعلى وسام شرف في التقاليد العائلية.
شيئاً فشيئاً، تؤدّي تصرّفات كلّ فرد في أسرة إسماعيل
(تردّد، خوف، تمزّق) إلى نقاشات لا تنتهي، وقرارات تدفع الجميع إلى حافة
الانهيار الداخلي.
يتنقل سعيد روستائي، بمهارة، بين لقطات واسعة للحشود، وأخرى
مُقرّبة للشخصيات في أماكن محصورة. يُحوّل المسار بحِرفية، ومن دون تدرّج،
من قضية عامة، إلى مسألة عائلية. في المشهد الافتتاحي ـ الآسر بقوّته
البصرية، والمُمهّد لإيقاع الفيلم ـ هناك حشود عمّال ثائرين ومضربين في
مصنعٍ لا يدفع لهم أجورهم. إنّه توطئة لمحتوى السرد. لكنّ الفيلم يسير
سريعاً، بالتوازي مع مَشاهد أخرى لحشود من نوع آخر، يكون تأثيرها أهمّ،
لمراسم تعزية في موت عميد العائلة الكبيرة. في المشهدين، تعريفٌ بشخصيتين
رئيسيتين، سيكون لسلوكهما أثرٌ مُدمّر: الأب إسماعيل، عجوز مُهلهل الشكل
والهندام والشخصية، يُهيّئ نفسه لأنْ يكون عميد عائلة، كونه الأكبر سناً؛
وعلي رضا (نويد محمد زاده)، شاب المصنع، الذي يفرّ من المواجهة بين الإدارة
والعمّال، ومن اتّخاذ قرارات مصيرية.
يأخذ "إخوة ليلى" وقته لتطوير الشخصيات والحكاية،
ذات التداعيات الغزيرة. يتحكّم الإخراج تماماً بانقلاب الأجواء والمواقف،
الذي لا يتوقّف، فيعطي كلّ شخصية حقّها في التطوّر والمساهمة، والتناقض
أيضاً:
الأب، الجاهز للتضحية بمستقبل أولاده العاطلين عن العمل في
مقابل غروره، وما يعتقد أنّها فرصته الوحيدة والأخيرة لتصبح له مكانة في
المجتمع، وليتمتّع أخيراً بتقديرٍ، ولو ظاهريّ، من أفراد العائلة الكبيرة؛
والأمّ، التي لم تظهر كثيراً، لكنّها ـ في مَشاهد قليلة وكافية ـ تجلّت
شخصيتها كأمٍّ غير حنون، تكره ابنتها، وتفضّل الزوج على أولادها؛ ثم
الأولاد، ذوي الشخصيّة الضعيفة، والتائهين أمام مآزق الحياة وفِخاخها، لكنْ
الطيّبين والمُحبّين لأبيهم، رغم قسوته وتخلّيه عنهم في اللحظة الحرجة، عند
شراء المتجر. أمّا ليلى، ففي المركز دائماً. إنها دعامة الفيلم والأسرة،
تقف في وجه السلطة الأبوية الأنانية.
يُثير "إخوة ليلى" ـ بذكاء، وعبر قصّة عائلة وأفرادها ـ وضع
مجتمع بكامله، يعاني نفاقاً اجتماعياً، وظروفاً اقتصادية قاهِرة، وبطالة
خطرة، وانهيار عملة. لا أدلّ على الانهيار أكثر من محاولات شراء الذهب
للإخوة، تعبيراً عن وضع يسوء ليس يومياً، بل كلّ لحظة.
قدّم الممثلون جميعهم، من دون استثناء، أداءً مُقنعاً
بدقّته وواقعيته، ومفاجئاً في تحوّلاته وتناقضاته، لا سيما نويد محمد زاده
وبيمان معادي، اللذين تعاون سعيد روستائي معهما في فيلميه السابقين أيضاً. |