فيلم
«Drive My Car»:
الرحلة السينمائية الأجمل في 2021
أحمد عزت
سيارة حمراء تتحرك ببطء أمام مشهديات يغلب عليها الرمادي
والأزرق البارد. تبدو كبقعة دافئة وجاذبة للعين في عالم يكاد يكون أحادي
اللون. هذه هي الصورة الأكثر إلحاحًا على الذاكرة من فيلم
(drive my car)
للياباني ريوسوكي هاماجوتشي الذي شاهدته للمرة الأولى في مهرجان القاهرة
السينمائي الماضي.
هذه
السيارة التي يدور داخلها الكثير من مشاهد الفيلم، بالعلاقة بين راكبها
وسائقتها هي قلب الفيلم الذي ينتظم إيقاعه على إيقاع حركتها. يعيدنا هذا
الجانب من الفيلم تحديدًا لسينما الإيراني الكبير عباس كيارستمي بالحضور
الكثيف للسيارة في أفلامه- بعض أفلامه تكاد تدور حصرًا داخل سيارة- حيث
تصير السيارة فضاء آمنًا وحميمًا للبوح والتأمل.
هذا الفيلم المقتبس من قصة قصيرة للكاتب الياباني هاروكي
موراكامي تحمل نفس الاسم، مطعمة بقصتين أخريين من نفس المجموعة القصصية
المعنونة “رجال بلا نساء” هو واحد من أجمل التجارب السينمائية في 2021، لكن
ربما علي أن أخبركم مسبقًا أن عناوين هذا الفيلم الرئيسية تبدأ في النزول
على الشاشة بعد مرور 40 دقيقة من زمنه ومع ذلك هذا هو الموضع المثالي لها.
فيما قبل العناوين نحن أمام تمهيد ضروري للحكاية والشخصيات،
وبأسلوبية شديدة التمهل تخاصم سينما هذه الأيام بطبعها المهووس بالسرعة
نتعرف على “كافوكو” وهو ممثل ومخرج مسرحي يعيش حالة من التناغم الفاتن مع
زوجته ” أوتو” والتي تعمل ككاتبة مسلسلات تلفزيونية. كل تفصيلة بينهما تشي
بمحبة صادقة، لكن مصادفة يكتشف كافوكو خيانة زوجته. ينسحب من المشهد، يخفي
عنها اكتشافه لكنه ينعزل عنها عاطفيًا. نشاهد جسده يخفي الحقيقة التي
اكتشفناها معه. نشاهده وهو يدفن مشاعره بعيدًا داخله، يضع قناعًا على ذاته
الحقيقية، لكن زوجته تستشعر ذلك وتطلب منه أن يتحدثا سويًا لكن الموت يسبق
هذا اللقاء.
بعد عامين يتم دعوته إلى مسرح هيروشيما لتقديم نسخة تجريبية
من مسرحية تشيكوف” الخال فانيا” ضمن أحد مهرجانات المسرح المحلية. في
سيارته وعلى الطريق إلى هناك تبدأ العناوين في النزول على الشاشة. هنا تبدأ
رحلة كافوكو وهذه الرحلة هي مجاز الفيلم ككل. رحلة يحاول خلالها أن يمضي
بحياته بعد تراجيديا الفقد المفاجئ لزوجته، فقد محمل بشحنة داخلية هائلة
من الغضب، الحيرة ومشاعر الذنب. رحلة تتساقط خلالها أقنعة الذات لتواجه
حقيقتها ربما للمرة الأولى.
رفيقة كافوكو في هذه الرحلة، فتاة في مطلع عقدها الثاني
تدعى “ميساكي”، توظفها إدارة المسرح لقيادة سيارته فترة عمله على المسرحية،
ورغم اعتراضه المبدئي على اختراق عزلته ينشأ بينهما تواصل حميم وينفتح كل
منهما على الآخر في لحظة كالسحر. هذه هي الذروة التي تتحرك نحوها الدراما
بين شخصين كلاهما يجيد حبك قناعه جيدًا حول ذاته ومشاعره الحقيقية، يجمعهما
أيضًا ماض حزين وأشباح وندوب طرية لجراح لم تندمل بعد.
عربة تقودها الأشباح
أنا متيقن من أن الحقيقة مهما كان جوهرها ليست مخيفة، إنما
الأكثر مدعاة للخوف هو الجهل بمعرفتها.
نشاهد كافوكو داخل سيارته في بداية الرحلة يستمع إلى هذه
الكلمات القادمة من كاسيت سيارته، ثم نشاهد الزوجة وهي تسجل الكلمات
نفسها في فلاش باك هو الوحيد في الفيلم، ثم نشاهد مزجًا مونتاجيًا بين
بكرتي تشغيل شريط الكاسيت الذي تسجل عليه زوجته بصوتها حوارات مسرحية الخال
فانيا وعجلتي سيارة كافوكو على الطريق إلى مسرح هيروشيما. هنا يبدو صوتها
الحاضر رغم الغياب كوجود شبحي يدفع السيارة وراكبها نحو الأمام، نحو اكتشاف
الحقيقة.
بعد أن يكتشف كافوكو براعة ميساكي الاستثنائية في قيادة
السيارات يسألها أين تعلمت القيادة؟ تجيبه: في مسقط رأسها حيث دربتها الأم
على قيادة السيارة وهي بعد صغيرة كي تقلها ذهابًا وإيابًا إلى محطة القطار
الذي تستقله لعملها. كانت الأم العائدة متعبة من عملها ترغب في النوم داخل
السيارة وكانت تعاقبها إذا أيقظتها بسبب قيادتها. “هكذا تعلمت القيادة
بسلاسة مهما كانت وعورة الأرض” هكذا تخبره ميساكي. كان فرويد يقول دائمًا
إنه ليس ثمة علاقة بين اثنين هي علاقة بين اثنين. الإنسان دائمًا حاضر
بتخيلاته وإزاحاته العاطفية بحيث تبدو كل علاقة مسكونة بالأشباح.
الأم هنا حاضرة مثل زوجة كافوكو، كما نعرف أيضًا من خلال
كافوكو أنه إذا كان قد قدر لابنته المتوفاة أن تعيش حتى اليوم فستبلغ
الثالثة والعشرين وهو بالتحديد نفس عمر ميساكي الآن. شيء ما في خلفية عقله
يربط بينها وبين ابنته. يقول لها لاحقًا حين تحكي عن مشاعر الذنب التي تشعر
بها حيال موت والدتها: إذا كنت والدك كنت سأقول لك: إنه ليس خطأك. هذه رحلة
تحركها خيوط خفية كالأشباح.
الوجوه أقنعة، الكلمات مرايا
يلجأ السرد إلى طرق غير تقليدية للكشف عن مكنون شخصياته،
فيعبر عن شخصياته عن طريق الحوار بشكل أساسي، لكنه ليس حوارًا مباشرًا في
الأغلب وإن كان يتحول أحيانًا إلى مونولوجات اعترافية. يتحول نص مسرحية
تشيكوف الحاضر بكثافة في السرد سواء من خلال صوت الكاسيت، أو أثناء
البروفات أو العرض إلى تعليق عما يشعر به كافوكو.
ليس فقط حضور المسرح هنا هو ما يجعلنا نستدعي فكرة الأقنعة
بل طبيعة الشخصيات الرئيسية. كيف يعبر السرد عما تشعر به شخصيات كتومة
ومتحفظة، شخصيات مقنعة مثل شخصيات الفيلم الرئيسية: كافوكو، ميساكي وأوتو.
يخضع كل شيء في الفيلم لطبيعة شخصياته: ألوان رمادية، نغمات مكتومة ورغم
ميلودرامية الحكاية يبقى السرد والمشاعر والانفعالات منضبطة وفي حدها
الأدنى.
جمل حوارية من المسرحية مثل “وفاء تلك المرأة كان كذبة، بكل
ما تحمله من معنى” أو الحوار الدائر بين كافوكو وبين صوت زوجته القادم من
الكاسيت
”
مهلاً، لم أنته بعد. أنت من دمر حياتي. أنت خصمي وعدوي
اللدود” يتماشى تمامًا مع ما يشعر به كافوكو في ذات اللحظة. في أحد مشاهد
بروفات المسرحية التي يقوم بها ممثل يدعى تاكاتسوكي -هو العشيق الأخير
لأوتو- مع ممثلة زميلة: أنت امرأة فاتنة، لابد أن الكثيرين وقعوا ضحايا
جمالك. هذه جملة يرددها تاكاتسوكي في أول مرة يلتقي بها كافكو بعد رحيل
زوجته.
كذلك الحكايات التي تحكيها الزوجة والتي تشغل مساحة غير
قليلة من السرد تكشف على نحو ما عن طبيعتها. بطلة حكايتها الأخيرة يستحوذ
عليها هوس رومانسي بزميلها وتتسلل إلى بيته، تترك تذكارًا وتأخذ تذكارًا.
إنها لا تستطيع أن تتوقف عن ذلك رغم المخاطرة. ألا يكشف هذا عن أوتو التي
تبدو غير قادرة على التوقف عن انجذاباتها الجنسية خارج الزواج رغم محبتها
لزوجها؟
في نفس السياق يمكننا أن نفهم لماذا يرفض كافوكو أداء دور
“الخال فانيا” في العرض المسرحي الذي يحضر له، رغم معرفته الجيدة به وحقيقة
أنه قدمه مسبقًا، حتى حين يخير في مرحلة ما بين أن يؤدي الدور أو تلغى
المسرحية نراه مترددًا فهو غير مستعد بعد لتعرية ذاته ليأتي قراره بقبول
أداء الدور قرين رغبته في التواصل مع مشاعره الحقيقة ومحاولة تجاوزها. في
أحد المشاهد يخبر تاكاتسوكي: تشيكوف مخيف، عندما تردد سطوره فإنه يستخرج
منك ذاتك الحقيقية.
فيلم هيماجوتشي الحائز على جائزة أفضل سيناريو في كان
الماضي مليء بمثل هذه التفاصيل التي تجعلك تزداد في تقدير هذا السيناريو
شديد التركيب والقائم على التوفيق بين عوالم مختلفة وخطوط سردية تبدو لأول
وهلة متفرقة لتضعنا في النهاية أمام نص شديد التناغم والإحكام.
يعبر السينماتوجرافي أيضًا عن شيء من طبيعة هذه الشخصيات،
عبر التأطير الذي يكشف انعدام التواصل وعزلة الشخصيات، لقطات طويلة زمنيًا
متمهلة الإيقاع مع زوايا التصوير العلوية، التي تعكس الانفصال بين المكان
والشخصيات. هناك في الغالب مسافة بين الشخصيات داخل الكادر، يمرقون وحيدين
في أروقة فارغة نراهم دائمًا خلف حواجز زجاجية أو محاصرين داخل أطر. إنهم
وحيدون دائمًا بلا أصدقاء أو عائلة. يسمح الإيقاع الهادئ للفيلم وبساطة
التكوين وحركات الكاميرا بالتركيز على الحوار أكثر من أي شيء آخر.
ألغاز
القلب الإنساني وتناقضاته
يفتتح هاماجوتشي فيلمه بلقطة/ صورة ظلية
(silhouette)
للزوجة خلال الضوء الأول للنهار مأخوذة من وجهة نظر الزوج وهي تحكي له إحدى
حكاياتها. منذ اللحظة الأولى في هذا الفيلم يضعنا المخرج أمام عالم غامض،
غسقي كالمنطقة الغامضة بين الليل والنهار، بين الحلم والواقع. ربما يبدو
الفيلم في البداية عن غموض المرأة / زوجة كافوكو تحديدًا، لكن مع تقدم
السرد يتحول الغموض إلى ملمح أصيل للحالة الإنسانية. لا شيء واضح حين يتعلق
الأمر بالقلب الإنساني.
كل آخر غريب مهما كان قريبًا، حتى إذا كان يسكن قلبك.
ومعارضة مثل هذه الحقيقة لن تجلب سوى المعاناة وكل ما يمكننا أن نفعله إزاء
هذا الغموض هو أن ننظر لأنفسنا عن قرب بأمانة وصدق. هذا الغموض والتناقض
ممتد أيضًا في علاقة ميساكي مع أمها، إذ تبدو الأم في حكايات ابنتها مؤذية،
مضطربة نفسيًا ومستغلة ومع ذلك هناك جزء منها يحبها بطريقة ما، تخترع من
نفسها طفلة للتواصل مع ابنتها في نوع من النكوص النفسي. هذه الطفلة هي كل
ما أحبته في أمها واضطرت للتضحية به لاحقًا حين صار استمرار العلاقة أمرًا
فوق الاحتمال. “لا أعرف إن كانت أمي مريضة عقليًا أم كانت تتظاهر بذلك
لتبقيني بقربها، حتى وإن كان تظاهرًا فهو نابع من أعماق قلبها”
يؤدي الحضور الكثيف لمسرحية تشيكوف في نسخة كافوكو المعتمد
على إنتاج متعدد اللغات، إذ يؤدي الممثلون نفس النص بلغات مختلفة على تعزيز
فكرة عدم الفهم، الالتباس والغموض المتأصل في التجربة الإنسانية.
كيف يتفاهم مجموعة من الممثلين على خشبة المسرح إذا كان كل
منهم يتحدث لغة تختلف عن الآخر؟ هل بالإمكان أن يتحدث الناس لغة واحدة،
بحيث يفهم كل منا الآخر بوضوح؟ هذا أحد الاسئلة التي تطرحها المسرحية داخل
الفيلم. هناك دائمًا ارتباك وشك تجاه قدرة الكلام/ الحوار على الإيضاح
والتعبير عن حقيقة المشاعر. نحن هنا أمام نص سينمائي مشغول بألغاز القلب
الإنساني وتناقضاته يمزج في ثناياه بتناغم بين شخصيات موراكامي المدموغة
بالوحدة والاغتراب وتعاطف تشيكوف مع الضعف البشري.
إيروتيكا الحكايات
كلمة إيروتيك
erotic مشتقة
من إيروس/
Eros
إله الحب والرغبة عند الإغريق، فمثلما نستشف منها ظلال الشبق، الإثارة
والنشوة نلمس فيها أيضًا ما هو نقيض العزلة: التعري بشقيه الجسدي والنفسي،
إذ لا يرتبط إيروس حصرًا بما هو جنسي وشهواني بل بالتواصل والحميمية
والانفتاح على الآخر. كل ظلال إيروس حاضرة هنا. لدينا حكايات ذات طابع جنسي
وحكيها مرتبط بشكل مباشر بالجنس، فأول حكاية للزوجة ولدت بعد أن مارست
الجنس مع زوجها لأول مرة بعد وفاة ابنتهما.
كانت تجتاحها رغبة الحكي بعد ممارسة الجنس كأنما تلتقط خيط
الحكايات من لحظات نشوتها، تحكي وتنسى كما لو كانت في حالة سكر، ليذكرها
الزوج صباحًا بتفاصيل حكايتها.
لا
يلجأ السرد إلى الفلاشباك سوى للحظة واحدة لها قيمتها المجازية التي سبق
وأشرنا إليها. نحن أمام إيروتيك شفوي، يشبق فعل الحكي نفسه. يبدو الحكي
أيضًا ذا قدرة سحرية على الشفاء والتجاوز، فبعد أن حكت ميساكي حكايتها
وكشفت عن جرحها، نلاحظ في المشهد الأخير اختفاء أثر جرح كان في جانب وجهها
ومرتبطًا بحكايتها مع والدتها وإحساسها المزمن بالذنب.
يبدو فعل الحكي والإنصات في فيلم هيماجوتشي كفعل حميم،
إيروتيكي بين شخصين كلحظة يختفي العالم فيها من حولهما، يتباطأ إيقاعه
ويسمح لهما أن يستحضرا مشاعرهما من الأعماق كالمنومين. بعد مشهد اعترافي
طويل ينتقل كافوكو إلى الكرسي الأمامي المجاور لميساكي، يرفعان سقف
السيارة، يشعل كل منهما سيجارته. تتجاور سبجارتاهما خارج سقف السيارة
المفتوح. ألا يشبه هذا قليلاً طقس التدخين بعد الجنس؟
يقدم هيماجوتشي -الذي يظهر من خلال فيلمه كواحد من أكثر
المواهب السينمائية الصاعدة أصالة و إثارة للاهتمام- فيلم طريق غير
تقليدي، إذ تمنح الرحلة أبطالها في النهاية شيئًا من الحرية. تحررهم من عبء
مشاعرهم المظلمة كما تتيح محادثاتهم داخل السيارة اكتشاف مناطق خفية في
أنفسهم. تتحرك شخصيات الفيلم دائمًا نحو معرفة أوضح بذاتها وتفهمًا للآخر. |