النقاد العرب يقيّمون السينما الأوروبية ويمنحونها الجوائز
نضال قوشحة
"107
أمهات".. سجينات يفقدن حضانة أطفالهنّ بقوة القانون الأوروبي.
تقدّم السينما فرصة إنسانية كبرى لتلاقي الثقافات
والحضارات، فمن خلالها يمكن تجاوز حدود التاريخ والجغرافيا، ليبدو الاختلاف
هامشيا، وفي السينما يلتقي الإنسان بنظيره الإنسان مهما كان بعيدا عنه، من
خلال فيلم أو مهرجان سينمائي أو حتى جائزة سينمائية تجمع في سبيل إنجازها
سينماءات مختلفة من أركان الأرض. وجائزة النقاد العرب لأفضل فيلم أوروبي
التي أُحدثت مؤخرا في المشهد السينمائي العربي حقّقت هذا التواصل الإبداعي
الإنساني، فأوجدت حراكا بين الجهتين وهي تُتابع خطواتها نحو شكل يبدو أكثر
تفاعلا وغنى.
فاز فيلم “107 أمهات” بجائزة النقاد العرب للعام 2021، وهي
الجائزة التي ينظمها مركز السينما العربية “آي.سي.سي” ومنظمة ترويج الفيلم
الأوروبي “إي.أف.بي” للعام الثالث على التوالي.
وأعلن عن الفيلم الفائز ضمن فعاليات مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي في دورته الثالثة والأربعين. والفيلم من إنتاج مشترك بين
سلوفاكيا وأوكرانيا والتشيك، وهو الروائي الأول للمخرج السلوفاكي بيتر
كيريكس الذي قدّمه عام 2021 وهو أول فيلم سلوفاكي يمثلها في ترشيحات
الأوسكار.
دراما إنسانية
عرف عن المخرج بيتر كيريكس مكانته الهامة في السينما
الوثائقية، حيث أنجز العديد من الأفلام التي راجت على المستوى العالمي.
وأعطت لجنة الجائزة المؤلفة من واحد وسبعين ناقدا سينمائيا من خمس عشرة
دولة عربية جائزتها للفيلم بعد تنافس قويّ مع أربعة وعشرين فيلما أوروبيا.
☚ جائزة
النقاد العرب لأفضل فيلم أوروبي أوجدت حراكا إبداعيا وإنسانيا بين الشرق
والغرب متجاوزا للحدود
وتقول علا الشيخ الناقدة الفلسطينية ومديرة الجائزة “شاهدت
لجنة التحكيم أربعة وعشرين فيلما أوروبيا، وضعتنا في حيرة كبيرة بسبب جودة
الأفلام وتقارب الأصوات، وفي النهاية كانت الجائزة من نصيب الفيلم الرائع
‘107 أمهات”.
قدّم الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير ضمن
المسابقة الرسمية، وهو أول عرض له في العالم العربي وشمال أفريقيا، وحاز
فيه على جائزة أفضل سيناريو “جائزة نجيب محفوظ”.
وكان الفيلم شارك قبل القاهرة في مهرجان فينيسيا السينمائي
الدولي وفاز فيه أيضا بجائزة أفضل سيناريو ضمن مسابقة “آفاق”، كما فاز في
مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي بجائزة أفضل مخرج. وحقّق جائزة أفضل فيلم
في مهرجان كوتبوس السينمائي لسينما أوروبا الشرقية الشابة. كما رشّح لجائزة
أفضل مخرج في مهرجان سان سباستيان وأفضل فيلم في مهرجان فينيسيا.
وحملت الجائزة العربية قيمة خاصة لدى مخرجه الذي قال عنها
بعد فوزه بها “كنت سعيدا جدا لاختيار الفيلم لجوائز النقاد العرب للأفلام
الأوروبية عندما رأيت عنوان فيلمنا بين الاختيارات من بين العديد من
الأفلام الجميلة والقوية. كانت الجائزة مفاجأة وشرفا كبيرا لي”.
وكانت جائزة الدورة الثانية لعام 2020 قد منحت للفيلم
الألماني “أوندين” للمخرج كريستيان بيتزولد، أما جائزة النقاد العرب في
الدورة الأولى عام 2019 فكانت من نصيب فيلم “اسمها بترونيا” من مقدونيا
للمخرجة تيونا ستروغار ميتيفسكا.
ويبدو فيلم “107 أمهات” متفرّدا من جهة موضوعه الذي يتناول
مسألة بالغة الحساسية، وهي التي تربط نساء سجينات مع أطفالهنّ، إلى جانب
شكلانية الفيلم الذي اعتمد في بنائه على نمطين سينمائيين وهما الدكيو دراما
والروائي.
لايسا (مارينا كليموفا) بطلة الفيلم والممثلة الحقيقية فيه،
تدخل السجن لتنفّذ عقوبة جنائية لسبع سنوات بعد أن قتلت زوجها بدافع
الغيرة، وبمجرد دخولها السجن تضع مولودها، وهو حال العديد من النساء
اللواتي يقضين سنوات من أعمارهنّ في السجن ويكون لهنّ أطفال مثلها.
يباغتنا طاقم الفيلم بأزمة إنسانية يفرضها القانون ستحدّد
مصير هذه الأم وابنها. ذلك أن القانون يسمح للنساء بأن يحتفظن بأبنائهنّ
فيما لو خرجن من السجن قبل أن يتمّ الطفل الثالثة من عمره، وإن كان الأمر
عكس ذلك، فعليهنّ إيجاد من يحتضنه بدلا منهنّ، وإلاّ فإنه سيرسل إلى ميتم
ويحرمن منه للأبد.
☚ "107
أمهات" يقدّم تشريحا موجعا عن ماهية العلاقة بين القانون
والعاطفة وما يولّده من آلام إنسانية يدفع ثمنها الأطفال
تعرف لايسا أن هذا الوضع القانوني سيحرمها من ابنها للأبد،
كون عقوبتها تمتدّ لسبع سنوات، فتحاول أن تضع الطفل في حضانة أمها التي لا
تربطها بها علاقة طبيعية وكذلك أختها وتفشل في الحالتين. ليبقى مصيرها
ومصير ابنها معلقا وغامضا.
يضع المخرج الممثلة في أجواء سجن في مدينة أوديسا
الأوكرانية، ويبني كيريكس فيلمه بمزاوجة بين الدراما والتوثيق، فتظهر
العديد من السجينات اللواتي يتحدّثن عن أحوالهنّ في الحياة والسجن أمام
الكاميرا، فنعرف حيواتهنّ السابقة وأحلامهنّ وأوضاعهنّ ويصل الحديث
للكثيرات منهنّ عن مدى شعورهنّ بالندم عمّا ارتكبنه. كما يرصد في لقطات
ثابتة وطويلة بعضا من اليوميات التي يعشنها وكذلك قيامهنّ ببعض الأنشطة
الاجتماعية المختلفة داخل السجن.
الفيلم يقدّم حالات إنسانية عميقة، وهو انطلق من رغبة كاتبه
ومخرجه في الحديث عن الرقابة في السجن، فتمّت زيارة السجن على امتداد فترات
طويلة وتمّ تحضير وتصوير الفيلم على مدار خمس سنوات وثلاثة أشهر وتمّ
التعامل مع أربعمئة سجينة رفضت ثلاث منهنّ فقط التعامل مع الفيلم وقبلت
الأخريات.
وهكذا تحوّل الفيلم من وثائقي إلى روائي بعد معايشة المئات
من القصص الحقيقية التي وجد فيها المخرج حالات إنسانية نادرة يمكن أن تقدّم
من خلال سينما تمزج الوثائقي بالروائي.
ويغيب العنصر الذكوري في الفيلم لتحضر المرأة بقوة، فكامل
شخوصه نساء سجينات وحارسات، لكن المنعطف في مسار الفيلم يكون مع سرد حياة
آمرة السجن إيرينا التي تمثل حقيقة دورها وتعيش في حالة سجن نفسي دائم. فهي
المرأة الصارمة الجادة التي تعمل بانتظام، لكنها تعيش وحيدة في ذات السجن،
وهي تقع في رتابة الحياة وقسوة وحدتها حيث لا زوج لها ولا أولاد، بل تعيش
حياة محاصرة من قبل والدتها التي كثيرا ما تتردّد عليها لتنقل إليها قلقها
على مستقبلها في وحدتها القاسية.
الفيلم يقدّم تشريحا مؤلما عن ماهية العلاقة بين القانون
والعاطفة وكيف يمكن أن يكونا متعارضين في بعض الدول الأوروبية، وما يولّده
ذلك من آلام إنسانية يدفع ثمنها الأطفال.
امرأة زلت بها القدم وابنها من سيدفع الثمن
شرق وغرب
عبر المئات من السنين اهتم الغرب بالثقافة العربية ورسم
ونفّذ في سبيل ذلك العديد من الخطط، ولم يغب هذا الاهتمام في العصر الحديث،
فتابع الغربيون هذا النهج وكان العام 1980 مفصليا، ففيه وقع تتويج لفكر
الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بضرورة التقارب مع الثقافة العربية، تمّ
إيجاد معهد العالم العربي في باريس الذي كان أكبر محاولة أوروبية منظمة في
التفاعل مع الثقافة العربية.
وأكّدت معظم الدراسات البحثية لاحقا أنه صار أحد أهم عشرة
مواقع ثقافية تتمّ زيارتها في باريس من الفرنسيين أو ممّن يأتي إليها. وهو
مؤسّسة عربية أوروبية تهدف إلى تطوير معرفة العالم العربي وبعث حركة أبحاث
معمّقة حول لغته وقيمه الثقافية والروحية. كما تسعى إلى تشجيع المبادلات
والتعاون بين فرنسا والعالم العربي، خاصة في ميادين العلوم والتقنيات،
مساهمة بذلك في تنمية العلاقات بين العالم العربي وأوروبا.
وضمن نشاطات هذا المعهد التي تتناول معارض للكتب والفن
التشكيلي والتصوير والموسيقى، وجد عام 1992 بينالي السينما العربية الذي
كان يقام مرة كل عامين واستقطب عبر سنواته الكثير من المبدعين السينمائيين
العرب، وكان أول محاولة منظمة لتكريس التفاعل بين السينما العربية
والأوروبية، وحقّقت نجاحا باهرا.
لكن المحاولة تعطّلت لمدة اثني عشر عاما متواصلة بعد أن
توقّفت في العام 2006 بسبب نقص تمويلها من الجانب العربي، إلى أن عادت
مجدّدا للانعقاد تحت مسمى مهرجان السينما العربية في باريس عام 2018. ثم
وجدت لاحقا العديد من المهرجانات السينمائية العربية التي أكّدت وجود
السينما العربية في فضاء الثقافة الأوروبية، منها مهرجان روتردام للفيلم
العربي ومهرجان جنيف الدولي للفيلم الشرقي ومهرجان الفيلم العربي ببرلين
ومهرجان زيورخ للفيلم العربي ومهرجان مالمو للسينما العربية الذي صار من
الأحداث الثقافية الهامة بالسويد. وفي القارة الأميركية وجدت بعض
المهرجانات منها تورنتو لأفلام الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
الفيلم يقدّم حالات إنسانية عميقة، منطلقا من رغبة كاتبه
ومخرجه بيتر كيريكس في الحديث عن الرقابة في السجون الأوروبية
وكانت العادة أن تكون الجهود متوجهة من العالم الغربي
باتجاه دول المشرق العربي وشمال أفريقيا في تنظيم الحدث السينمائي، لكن
محاولة عربية رائدة فعلت العكس، فأوجدت جائزة نقدية عربية متخصّصة في
السينما الأوروبية، ففي العام 2019 أطلق مركز السينما العربية “آي.سي.سي”
بالتعاون مع منظمة ترويج الفيلم الأوروبي “إي.أف.بي” جائزة النقاد العرب
للأفلام الأوروبية.
وهي كما يبيّن منظموها تهدف “إلى الترويج للسينما الأوروبية
في العالم العربي، وجذب انتباه الموزّعين وصُنَّاع القرار في عالم السينما
العربية للأفلام الأوروبية المميزة، هذا بالإضافة إلى تسليط الضوء على
النقاد العرب البارزين ودورهم في الكشف عن وجهات نظر مختلفة وفي تبادل
الخصوصية الثقافية بين المجتمعات”.
ويعدّ مركز السينما العربية “آي.سي.سي” الذي تنظمه “ماد
سولوشن” منظمة غير ربحية مسجلة في أمستردام، وهي منصة ترويجية دولية
للسينما العربية، لأنها توفر لمنتجي الأفلام ومخرجيها نافذة احترافية
للتواصل مع نظرائهم من جميع أنحاء العالم من خلال عدد من الأحداث المنظمة.
كما توفّر لجنة التنسيق الإدارية فرصا للتواصل مع ممثلي الشركات والمؤسسات
المتخصّصة في الإنتاج المشترك والتوزيع الدولي.
وهي أول منصة سينمائية عربية متنقلة تعنى بتنمية السينما
العربية وتربطها بالأسواق والمهرجانات المحلية والإقليمية والدولية، وتهدف
إلى إيجاد مساحات إضافية للسينما العربية للوصول إلى أكبر تفاعل ممكن مع
الجمهور وأكبر قدر من التواصل مع الجهات التسويقية والترويجية للسينما
العربية.
ويشارك معها في العمل منظمة ترويج الفيلم الأوروبي
“إي.أف.بي” التي تتمثل فيها العديد من مؤسسات السينما الأوروبية الشهيرة
منها: رابطة منتجي الأفلام في البوسنة والهرسك، والمجلس الثقافي البريطاني،
والمركز الوطني البلغاري للسينما، وسينيسيتا بإيطاليا، والمركز الكرواتي
السمعي البصري، والخدمات الثقافية في وزارة التربية والتعليم والثقافة في
قبرص، ومركز الفيلم التشيكي، والمعهد الدنماركي للسينما، وأفلام ألمانية
ومركز الفيلم اليوناني وغيرها.
كاتب سوري |