ملفات خاصة

 
 
 

ريش: بين الرافضين والدراويش

أحمد مجاهد

عن فيلم «ريش»..

لـ «عمر الزهيري»

   
 
 
 
 
 
 

فى النقد الحديث لا يطلق الناقد حكما على العمل الفنى بالجودة أو بالرداءة، بل يقوم بتحليل العناصر الفنية الموجودة بالعمل، محاولا تفسير دلالتها داخل بنيته، تاركا للقارئ هذا الحكم فى ضوء المعطيات التى قدمها له.

من هذا المنطلق يمكننى عرض قراءتى الخاصة لفيلم ريش، فى ضوء البحث عن دور المخرج فى توظيف التقنيات الفنية التى اختارها، للتعبير عن وجهة نظره الشخصية التى يريد طرحها.

ولما كانت عتبات النص (والإشارة هنا إلى نص الفيلم) تعد جزءا رئيسيا من العمل الفنى ذاته؛ فإنه يمكننا أن نشير على المستوى اللونى إلى هيمنة اللون الأسود على الفيلم فى بنية دائرية محكمة.

فبداية الفيلم تتمثل فى تصدير شاشة سوداء صامتة، يبدأ بعدها دخول أصوات لتأوهات مفجعة، قبل أن تظهر لنا ملامح الصورة الأولى بعد 40 ثانية كاملة من السواد المسمط. وينتهى الفيلم أيضا بشاشة سوداء خالية تماما يستمر عرضها لمدة 15 ثانية، قبل الانتقال إلى شاشة سوداء أيضا لا يخدشها سوى أسماء مكتوبة باللون الأبيض ببنط رفيع جدا يصعب قراءته، لأسماء المشاركين فى صناعة الفيلم، لمدة أربع دقائق ونصف.

وتكمن المفارقة الفنية فى مصاحبة أغنية متفائلة لهذه الصورة الحالكة، وكأن صناع الفيلم يرغبون فى تصدير رسالة للمتلقى، فحواها أنهم وحدهم يحاولون الإفلات بالمستقبل من هذا الظلام الدامس.

على أن هذا السواد الحالك المهيمن على الشاشة بالكامل لا يظهر فى بداية الفيلم ونهايته فقط، بل يظهر فى مواضع كثيرة جدا داخل الفيلم نفسه، حيث يستخدم المخرج تقنية الشاشة السوداء كثيرا عند الانتقال من مشهد لمشهد، والتى اقتبسها الفيلم من تقنيات الإخراج المسرحى التى تحتم على المخرج ذلك لتبديل الديكور فوق الخشبة بعيدا عن أعين المشاهدين. وعندما يستخدم مخرج سينمائى هذه الطريقة فى الانتقال بين مشاهده، دون ضرورة تقنية تدفعه إلى ذلك، فإننا نكون بصدد اختيار فنى، يكرس لوجهة النظر السوداوية التى يقصدها المخرج.

ومن العبث الحديث فى هذا السياق عن سوء المونتاج كما قال بعضهم، لأنه بالإضافة لكل ما سبق يوجد مونتاج احترافى ماهر فى بعض المواضع التى تتطلب ذلك. مثل تركيز الكاميرا على عد الأوراق المالية الكثيرة ذات الفئة المالية الكبيرة بمكتب صاحب العمل، قبل انتقالها مباشرة للتركيز على عد الأوراق المالية القليلة والقديمة، فئة الجنيه والخمسة الجنيهات بيد البطلة العاملة لديه.

أما الصورة الأولى التى يبدأ بها الفيلم بعد الشاشة السوداء والتأوهات، فهى لقطة بعيدة لظهر شخص يشعل النار فى نفسه أمام المصنع، فيرتفع من اشتعال جسده دخان أسود كثيف، يظهر بعده شاشة سوداء مرة أخرى مكتوب عليها اسم الفيلم.

وقد انشغل كثير من المتلقين الذين يتعاملون مع السينما على أنها حدوتة فقط، بالبحث عن علاقة هذا الشخص بالفيلم، واستنكروا عدم وجود خط درامى يربطه به، على الرغم من أن هذا المشهد يعد مفتاحا رئيسيا من مفاتيح الفيلم، وهو مقتبس من مشهد انتحار بو عزيزى فى بدايات الثورة التونسية.

فالدخان الأسود القاتم فى هذه اللقطة، هو السر فى الدخان المهيمن على معظم مشاهد الفيلم التى توضح كيف يحترق المواطن الفقير بحثا عن لقمة العيش الشريفة ولا يجدها. وقد كانت اللقطة بعيدة لا يظهر فيها ملامح الشخص المنتحر، حتى يوحى المخرج لكل مشاهد فى نهاية الفيلم، أنه قد يصل به الأمر شخصيا إلى هذا الحد، فى ظل تلك الظروف المعيشية القاسية.

أما النار في الفيلم فهى مفتاح الخلاص الوحيد المتاح للكبار والصغار أيضا، فحين ضاق الطفل بحبسه فى المنزل أثناء غياب أمه المتكرر والطويل بحثا عن عمل، وأخذ يصرخ صائحا: "افتح الباب .. افتح الباب"، لم يجد حلا أمامه سوى إشعال النيران فى المنزل.

وإذا كنت مصرا على إيجاد رابط موضوعى لمشهد ما قبل البداية بأحداث الفيلم الداخلية؛ فيمكنك إيجاد هذا الرابط أيضا. فإذا أمعنت النظر فى جثة الزوج المفقود التى تسلمتها البطلة من القسم بين الحياة والموت، فستجد أنها سوداء محترقة وملتهبة، بما لا يتناسب مع وصفها بالتشرد فقط، ويرشح أنها يمكن أن تكون جثة المواطن الذى أحرق نفسه فى بداية الفيلم، أو جثة المواطن الذى لم يجد لنفسه خلاصا إلا بالانتحار حرقا فى نهايته.

على أن فكرة الفانتازيا المحورية فى الفيلم، والمتمثلة فى تحول البطل إلى فرخة على يد الساحر فى الاحتفال بعيد ميلاد ابنه، وفشل محاولات إعادته إلى طبيعته البشرية مرة أخرى، ليست جديدة على مستوى الدراما المصرية. ففى عام 2018 أنتجت سينرجى فى رمضان مسلسلا كوميديا بعنوان: (ربع رومى) من تأليف تامر إبراهيم، وإخراج معتز التونى، وبطولة مصطفى خاطر وبيومى فؤاد. وفيه يتحول الأب بفعل السحر أيضا إلى أسد وبطة وفأر وخروف وسلحفاة، فى محاولات رحلة استرجاعه المستعصية.

لكن معالجة فكرة التحول فى الفيلم معالجة تراجيدية بامتياز، حيث تذكرنا البطلة الصعيدية المكافحة بإيزيس التى تحاول بعث زوجها أوزوريس فى رحلة صعبة طويلة، مع الساحر أولا، ثم تحاول البحث عن الساحر بعد هروبه، ثم تلجأ لساحر آخر يمنحها بعض الدواء ويمنعها من أكل البيض والفراخ. وهى فى كل هذه الأحوال تترك للفرخة الزوج فراش الزوجية، وتضع لها الطعام والشراب فوق السرير، بل تترك لها الحجرة كلها فى حقيقة الأمر.

وبعد أن تتسلم مصادفة زوجها المفقود من القسم وهو شبه جثة، تتفانى فى تنظيفه وإطعامه وعلاجه، محاولة استنهاضه لكن سدى. وقد تأكدت من عبث ما تفعله هى والممرضين والصيادلة الذين استنفدوا قروشها القليلة، بعد فشل محاولة استنطاقه عن طريق العنف أيضا، وذلك بعد أن طالبها الممرض بحتمية نقله إلى المستشفى لاستكمال العلاج، وهى لا تملك تكاليف هذه الرفاهية.

فى هذه اللحظة فقط تتحول الأسطورة المعاصرة إلى اتجاه آخر، وتقرر البطلة إيزيس التخلص من زوجها أوزوريس غير القادر على الحركة أو الكلام، حيث تكتم أنفاسه بالوسادة على أنغام أغنية (حكايتى مع الزمان)، حرصا على توفير نقودها الشحيحة للإنفاق على ابنها حوريس أملا فى مستقبل أفضل للجيل القادم.

وذلك قبل أن تنتقل فورا إلى ذبح الفرخة، المعادل الموضوعى للزوج، وغسل يديها من دمائهما معا، قبل الخروج إلى أبنائها فى الصالة حيث يذيع التليفزون الأغنيات الأجنبية الراقصة المبهجة، ويتناول الأطفال طعاما شبه فاخر للمرة الأولى بالمنزل.

ولا يمكننى تجاوز هذه النقطة قبل الإشارة إلى شيئين؛ الأول: أنه على الرغم من أن الفيلم يعتمد على الفانتازيا، لكن هذا لا يتعارض مطلقا مع أهمية وجود حبكة فنية للفيلم داخل النوع الذى ارتضاه لنفسه. فلا غضاضة عندى مطلاقا فى تقبل تحول البطل إلى فرخة، لكننا مادمنا قد اتفقنا على ذلك، فإننى تواجهنى صعوبة فى قبول ظهور البطل مرة أخرى مع وجود الفرخة فى الوقت نفسه.

أما الشىء الآخر، فهو: التوظيف الفنى للتليفزيون داخل الفيلم. حيث يمثل هذا الجهاز السحرى الذى تجتمع حوله العائلة فى بداية الفيلم، بوابة الأحلام والأمنيات التى أجهضها الواقع. فالأب قد وعد أبناءه بأنه عندما يصبح غنيا سيبنى لهم منزلا به حمام سباحة كبير، وسيشترى لهم ترابيزة بلياردو، مثل المشهد الموجود أمامهم بالتليفزيون.

لكننا لا نرى صالة البلياردو فى أحداث الفيلم نفسه إلا مقرونة بالتوسط لتشغيل الأم خادمة، وبمحاولات صديق زوجها التحرش بها فى سيارته. كما لا نرى حمام السباحة الكبير إلا فى منزل مخدومتها، وتحديدا فى لقطة جرى الكلب وراء البطلة للإمساك بها، لأنها قد حاولات سرقة قطع صغيرة من اللحم والشيكولاته لأطفالها، وقد أكل الكلب قطع اللحم أمامها قبل طردها، وكأن كلب الهانم الغنية أفضل من أطفالها الفقراء.

ولا تتوقف حدود التوظيف الفنى للتليفزيون فى الفيلم عند حدود المقابلة بين الحلم والواقع فقط، بل يظل الرمز المستمر للحلم الذى يبتعد ويقترب وفقا للتصاعد الدرامى لأحداث الفيلم. فهو صورة الحلم المنتظر فى وجود الأب، وبعد تحول الأب إلى فرخة هو الحلم المحجوز عليه من وزارة الإسكان بعد التعثر فى سداد أقساط الشقة، وهو الشىء الوحيد الذى تحرص البطلة على استرداده من المنقولات عند بداية سداد المديونية، وهو ما تعود البطلة لأخذه من سيارة صديق زوجها عقب هروبها منه مباشرة لمحاولته التحرش بها، وهو قبل هذا وذاك مصدر بث لبرامج تدعم الحدث الدرامى الدائر. فلا حياة بدون حلم، أو لا حياة بدون تليفزيون، حتى لو كان قديما صغيرا بائسا، وأحشاء مفاتيحه تتدلى خارجه، مثل الأسرة التى تقتنيه.

كما تجدر الإشارة فى هذا السياق إلى أن كل لقطات الفيلم باهتة ومشبعة بالدخان الضبابى، عدا صورة شاشة التليفزيون الحلم الساطعة الألوان فى كل آن.

وعلى الرغم من اعتراض البعض على قيام البطلة بسرقة بعض الأشياء الصغيرة من منزل مخدومتها، لأنها كانت حتى هذه اللحظة مثالا للكفاح والشرف معا؛ فإنه يمكننا النظر دراميا للأمر من منظور مغاير. فلم تكن البطلة تدرك حتى لحظة قدومها إلى القصر أن هناك عالما مختلفا عن عالمها، مما أحدث لها صدمة طبقية أثرت فى تحولها الدرامى.

عالم لم يسمح لها بدخوله إلا بعد: قياس طولها، وتحليل دمها، وبولها، وتفلية شعرها، والكشف على حلقها، وعينها، وأعصابها. عالم فى مطبخه الشاسع عشرات الدجاجات المذبوحة، حيث تركز الكاميرا على البطلة وهى تمسك بالدجاجة المذبوحة لأول مرة، وتضعها فى الكيس البلاستك، مما شجعها على التفكير فى قتل زوجها. عالم يأتى إليه الجزار لذبح عجل كامل خاص بالمنزل، على الرغم من أننا لم نر فى القصر كله سوى سيدة واحدة فقط. وتركز الكاميرا على لحظة قطع الجزار للسان العجل، حتى لا نفكر فى المقارنة الثرثارة بين حال السيدتين.

ويعتمد المخرج فى فيلمه كله على الكادرات البطيئة المملة المكررة التى تعبر عن السأم الذى يفتك بشخصياته، مما يذكرنا بأبيات صلاح عبد الصبور التى يقول فيها:

"الليل، الليل يكرر نفسه

ويكرر نفسه

والصبح يكرر نفسه

والأحلام، وخطوات الأقدام

وهبوط الإظلام

وهبوط الوحشة فى القلب مع الإظلام"

كل هذا موجود فى الفيلم، بما فيه التكرار الحرفى لبعض الجمل، على الرغم من ندرة الكلمات عموما. مثل تكرار قول صاحب مكتب التخديم لكل فتاة أثناء توقيعها على عقد العمل: "شغل بأمانة ونظافة والتزام، وما تتدخليش فى إللى ما لكيش فيه". كما أن ظهور الأب المتكرر وهو يدخن السجائر (بدلا من النرجيلة) فى كل المشاهد تقريبا، يذكرنا بقول صلاح عبد الصبور أيضا:

"هذا زمان السأم

نفخ الأراجيل سأم"

ويمكننا أن نلاحظ هذا التكرار الممل بوضوح أيضا على مستوى مفردات الصورة الكئيبة دائما، عبر تكرار الأماكن والملابس وزوايا التصوير والإضاءة. بل يمكن أن نلاحظ ذلك أيضا فى استخدام الرموز البصرية، فعلى سبيل المثال لا يأتى مشهد إعطاء صديق الزوج النقود للبطلة داخل سيارته فى كل مرة، إلا بعد لقطة طويلة منفردة لرأس زراع فتيس السيارة، الذى يظل حاضرا فى منتصف الكادر لحظة تسلمها الأموال، كناية عن رغبته الجنسية.

ويبرز أيضا فى هذا السياق توظيف الفيلم لجماليات القبح، التى تتجلى على سبيل المثال فى مشهد غناء صديق الزوج بصوته الأجش المرتفع المصاحب لصوت فايزة أحمد فى أغنيتها الرقيقة (على وش القمر)، فى محاولة منه لاستمالة البطلة وإقناعها بالتجاوب معه، حيث تؤكد المقارنة بين الصوتين بشاعة سلوك هذا الصديق الخائن.

على أن كل هذا الملل والكآبة، وتلك الرتابة فى الحوار والصورة والإيقاع، أمر مقصود تماما من صناع الفيلم، حتى يصل ذلك الإحساس الذى يشعر به أبطاله للمشاهدين فى حدة بالغة، لعلهم يتحركون فى واقعهم المعيش للثورة على هذا القهر الذى يدفعهم للقتل أو الانتحار. وهذا الإحساس نفسه أيضا، قد يدفع بعض المشاهدين أصحاب الرؤية الأيديولوجية المخالفة، إلى مغادرة قاعة العرض.

وربما كان من ضمن الأسباب الفنية لحصول الفيلم على جوائز المهرجانات من وجهة نظرى غياب الحوار. ففى ظل الصراع الخفى بين الكلمة والصورة، أو بين الأديب والمخرج، للهيمنة على صناعة الأفلام، ينحاز السينمائيون إلى الصورة فى المقام الأول. وقد أرضى هذا الفيلم غرورهم الفنى، فأنت لا تستطيع أن تتذكر منه جملة واحدة مدهشة، ولا تجد فيه حوارا يعبر عن الصراع الدرامى المحتدم فى الفيلم.

أما مشهد الرقصة الكاملة لرجل بطريقة شاذة داخل صالة البلياردو، فهى تبدو بالنسبة لى مقحمة وغير مبررة فنيا، وقد عدها بعضهم أيضا من الحيثيات المهمة التى يجب أن يقدمها كل مبدع يطمع فى فوز عمله بجائزة عالمية. فهذا يدخل ضمن اهتمام الأجانب المزعوم بحقوق الأقليات المطضهدة فى مصر.

ويدخل فى إطار الاطضهاد السابق أيضا إشارة الفيلم المتكررة مرتين، إلى رفض الشركة التى كان يعمل بها الزوج تشغيل زوجته، لأن تعليمات الشركة تمنع عمل النساء.

كما يدخل فيه أيضا اقتراح المدير عليها إرسال ابنها الصغير للعمل مكان والده، فى إشارة واضحة إلى عمالة الأطفال وانتهاك حقوق الطفل. وقد تفنن المخرج فى تصوير صعوبة تنفيذ هذا القرار عبر بشاعة المشهد. حيث ذهبت الأم لشراء قطعتين من الجاتوه لاسترضاء طفلها وإقناعه بالذهاب للعمل، فى لقطة تصور شبح خيالها المنعكس على زجاج ثلاجة الجاتوه. وكأن هذا الشبح هو الذى يقوم بإغواء الطفل تحت ضغط الحاجة، وليس الأم نفسها التى اصطحبته فى صباح اليوم التالى إلى مكان العمل، وحاولت الدخول معه إلى أقصى نقطة ممكنة قبل طردها، وهى توصى العمال بإطعام الطفل ورعايته.

وربما كان من العوامل التى أسهمت فى ترشيح الفيلم للحصول على جوائز دولية أيضا مشاركة أكثر من دولة فى إنتاجه، وهى: مصر وفرنسا واليونان وهولندا وموزنبيق، على الرغم من أن ميزانتيه المعلنة مليون جنيه فقط. حيث تعد مساهمة كل هذه الدول فى الإنتاج، موافقة ضمنية منها على جودة الفيلم.

وعلى الرغم من وصف بعض المشاهدين للفيلم بأنه ينتمى للسينما التسجيلية؛ فإن هذا أبعد وصف يمكن أن يطلق على فيلم يعتمد فى بنيته الرئيسية على الفانتازيا. لكنه أقرب ما يكون من وجهة نظرى إلى ما يعرف بسينما الواقع، التى يؤدى فيها الأشخاص العاديون أدوارهم الفعلية فى الحياة، وإن كان المخرج لم يفعل هذا حقا بل صنع ما يشبهه تماما بحرفية فنية عالية، تتمثل فى: الاعتماد على الممثلين الهواة، والتكريس للأداء البدائى، واستخدام الكادرات المبتورة، والتوزيع غير المتوازن لعناصر الصورة داخل الكادر، والتصوير فى أماكن فقيرة محدودة، والقطع الخشن لتوالى المشاهد، حتى إن المخرج نفسه قد يبدو مبدتئا لمن لا يفهم أبعاد اللعبة.

 

الـ FaceBook في

27.10.2021

 
 
 
 
 

الست دميانة والرسالة النبيلة

سمير شحاته

امرأة شقيانة فى منتهى الغلب.. تدبر حياتها بقروش قليلة.. مستكينة ووجهها شاحب.. تعيش على خيط رفيع من الحياة.. الضحكة رفاهية لاتعرفها وكلامها شحيح أقرب للصمت.. صمت الرضا بحياتها البسيطة، وصمت القهر والانكسار.. تنتفض إذا تقاعد الزوج أو تخاذل واختفى من الوجود أو حتى لو تحول إلى دجاجة.. حياتها أصلا عبثية.. تخرج وتتخبط فى الدنيا.. مناخ خانق.. تزداد بؤسا.. تعمل وتكد من أجل أولادها.. قد تفرط في طعامها، لكنها أبدا لا تفرط فى شرفها.. موضوع فى غاية الأهمية طرحه بغاية البساطة المخرج عمر الزهيرى والمؤلف أحمد عامر بفيلم (ريش)، وبساطة فنانين يقفوا أمام الكاميرا للمرة الأولى.. كان المخرج ذكيا باختيار دميانة نصار.. فلو استعان بممثلة محترفة لكانت النتيجة مختلفة لشخصية شبه صامتة بلا ملامح لا تتحمل الأداء الزاعق.

بسبب (ريش) تردد اسم مصر بقوة بالمهرجانات الدولية بمختلف التوجهات وحصده جوائز من (فرنسا والصين وأمريكا ومصر).. وفى عز الاحتفال بجائزة كان السينمائى الفرنسى تحديدا باعتبارها الأولى طوال تاريخنا السينمائى الممتد 125سنة.. خرج فنانون بعد رؤية مشهدين فقط من الفيلم يصرخون ويندبون أمام الكاميرات ويتهمونه بما ليس فيه بسابقة شاذة ان يثور فنانون على تجربة فنانين آخرين ويدهسون فكرة حرية الإبداع.. وأحدثوا جدلا وارتباكا وانقساما، وراحو يشككون في مهرجان كان ويكيلون له الاتهامات، وهم يعلمون ان لجنة التحكيم من جنسيات مختلفة مستقلة بنتائجها! فأسرع الناس يبحثون عن (ريش) باليوتيوب، محققا مشاهدات ضخمة.

رسالة الفيلم نبيلة رغم قتامتها.. والصيغة السينمائية الصادمة التى لجأ إليها عمر الزهيرى هى الأمثل.. فهى أصدق تعبير لآنين صامت لناس منسيين غير مرئيين يعيشون على الفتات.. ولو تعلموا ان قيمة قليل من فساتين السجادة الحمراء وبدلة ذلك الفنان المرصعة بالماس قادرة على تغيير حال ناس وانتشالهم من واقعهم المرير.

أحببت الست دميانة أم ماريو ولكنتها الصعيدية وبساطة زيها وطلتها الشبيهة بنفرتارى.. كسروا بخاطرها.. وهى من جبرت بخاطرنا بفيلم جلب جائزة لم يصل إليها فنانونا الكبار أبدا.

 

الأهرام اليومي في

27.10.2021

 
 
 
 
 

ريش.. وما بعد الجونة

ماجدة موريس

منذ سنوات قليلة، رأيت في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فيلما قصيرا، بعنوان طويل للغاية هو «ما بعد وضع حجر الاساس لمشروع الحمام بالكيلو 375» وفيه قصة جمعت بين الواقعية والعبثية لموظف حكومي عطس فجأة امام رئيسه في العمل، ولم يستطع بعدها الحفاظ علي هدوئه فقد ملأه الخوف من رد فعل الرئيس، وشكل العقاب الذي سيوقعه عليه، دقائق لم تزد عن الربع ساعة استطاع فيها الفيلم ان يحظي باهتمام جمهور القاعة الصغيرة بدار الاوبرا المصرية، ولنعرف وقتها مخرج الفيلم، عمر الزهيري، لاول مرة، مع انه لم يكن فيلمه الاول، وانما الثاني بعد فيلم «زفير» الذي كتبه واخرجه عام 2011 عن زوجين مسنين يقعان تحت حصار الحياة وتفاصيلها اليومية المستفزة والذي حصل علي تنويه خاص من مهرجان دبي السينمائي، وفي نفس العام عاد للعمل كمخرج مساعد في افلام مهمة مثل «18 يوم» عن الناس والثورة، و«بعد الموقعة» ليسري نصر الله الذي بدأ معه مسيرته في فيلمه «احكي يا شهر زاد » عام 2009، ومن هذا التاريخ، لم تكن معجزة ان يحصل في فيلمه الروائي الطويل الاول «ريش» علي هذه الجوائز بعد 12 عاما من عمله، وتجريبه للاسلوب الذي يفضله كسينمائي، وهو ما رأيناه في فيلمه القصير بمهرجان القاهرة، والطويل في مهرجان الجونة اخيرا، والسؤال الملح هنا هو :هل كانت الاساءة اليه واتهام فيلمه بأنه يسئ لمصر ضرورة لمن تعامل مع الفيلم، ولم يعجبه «برغم انه فنان»؟. وهل وصلنا الي درجة الاحتراب في التعبير عن أراء عادية أم ان فرق السوشيال ميديا هي من حولت التعليق الي قضية؟؟. لاجل هذا كله، وجدت نفسي سعيدة بتسريب فيلم «ريش»، بالرغم من احترامي التام للقانون، ولكن القضية هنا تتجاوز هذا الي جدل عام، صنع نوعا من الرأي العام تجاه هذا الفيلم، ومخرجه، وحول مواقع الاعلام الافتراضي الي صفحات للكتابة عن الفيلم، بالسلب،او الإيجاب، ووجهات نظر جديدة لمن لا يكتبون عن السينما، بالاضافة الي كتابها، وبالتالي أضاف هذا الكثير من ملامح الحوار التي نفتقدها غالبا في حواراتنا المختلفة، وأثبت أهمية ان يصل العمل الفني المختلف الي الاغلبية، او الكثيرين، ولقد تمنيت ان تتقدم واحدة من القنوات المصرية التي تدفع الكثير في المسلسلات لشراء الفيلم، وعرضه، ودعوة بعض المختلفين للحوار حوله، لكن هذا لم يحدث، لان الثقافة ليست من ضروراتها، وفي النهاية، فإن معركة فيلم « ريش» أضافت الكثير الي أهمية السينما، واهمية الاختلاف في اسلوب التعبير من مخرج لأخر، وجاءت لجنة تحكيم مهرجان الجونة لتعيد التاكيد علي ما رأته لجنتا تحكيم أسبوع النقاد، والفيبريسي في مهرجان كان حول جدارة الفيلم، ومخرجه، وحول الامل في انطلاق موجة جديدة للسينما المصرية الرائعة التي قدمت اعمالا مجيدة علي مدي تاريخها، وللأسف، فإن هذه المعركة وغيرها أخذت وقتا من اهتمام كان ضروريا للكتابة عن أنشطة المهرجان القوية، مثل، بقية افلام المهرجان، الثمانين، وعدد كبير منها يستحق التقدير والاعجاب مثل الفيلم التحفة «الرجل الاعمي الدي لم يرغب بمشاهدة «تيتانيك» و«مقصورة رقم 6» والاثنان من فنلندا، ومثل «عالم آخر» من فرنسا، ومثل «أسوأ شخص في العالم» من النرويج، ومثل«هروب الرقيب فولكونوجوف» من روسيا، و«ملعب» من بلچيكا، ومن عالمنا العربي فيلمان «كوستا براڤا» من لبنان، و«علي صوتك» من المغرب، وافلام اخري روائية طويلة قدمت الكثير من الافكار والرؤي عن الانسان الان في كل مكان في عالمنا.

الوثائقي والمصري

كباتن الزعتري هو الفيلم المصري الاول الذي رأيناه في مسابقة الفيلم الوثائقي الطويل، وهو عمل يستحق التقدير الكبير لقدرة مخرجه الشاب علي العربي علي الصمود لسنوات غير قليلة هو وفريق التصوير من اجل فكرة ومشروع ليس من السهل تقديمهما عن أبناء المخيمات وكيف يعيشون ويحلمون، والمخيم هنا هو مخيم«الزعتري» للاجئين السوريين في الاردن، وحيث عاش المخرج مع أفراده وعائلاته لفترة طويلة، وبعد سنوات اختار التركيز علي الشباب، واختار صديقان منهما، حلما بكرة القدم والتحقق خلالها، وكانا موهوبين من الاصل في مدينتهما درعا، ومن هنا، اختيرا ضمن بعثة للامم المتحدة للعب في فريق رياضي دولي، وليصبح كل منهما«فوزي ومحمود» نموذجا لتحدي الواقع الكئيب، وتحقيق النجاح الفيلم هو الوثائقي الطويل الاول لمخرجه بعد افلام قصيرة متعددة وقد حصل علي جائزة نجمة الجونة لافضل فيلم عربي، اما الفيلم المصري الثاني «العودة» للمخرجة سارة الشاذلي، فهو فيلمها الطويل الاول أيضا، وكانت فيلمها «إيزابيل» قد فاز بجائزة افضل فيلم قصير في مهرجان القاهرة السينمائي العام الماضي «العودة» يقدم قصة عودتها الي بلدها وعائلتها بعد اجتياح الكورونا العالم، وحيث اعادت- ايام الحظر- اكتشاف الكثير مما لا تعرفه عن عائلتها، خاصة والدها، بعد غياب طويل قضته للدراسة بين فرنسا وكوبا، واكتشافنا، كمتفرجين، هذا الاب الذي يتمتع بكاريزما عالية لكنه لم يظهر ابدا في اعمال هذه الاسرة، خاصة فيلم «احكيلي» الوثائقي الذي اخرجته ماريان خوري، زوجته، وابنة شقيقة يوسف شاهين، وأم مخرجة هذا الفيلم، والتي لا تفسر هذا، وانما تترك لنا التفسير من خلال العمل، فيلم يكمل صورة العائلة السينمائية عبر الحوارات والوثائق والصور التي بدت جديدة علي المخرجة، وعلي المشاهد ايضا، وغير الفيلمان المصريان ثمانية افلام اخري بينها الفيلم الروسي «حياة إيڤانا» الذي يتتبع حياة امرأة تعيش في منطقة نائية بسهول سيبيريا البعيدة عن العمران، والتي تعول خمسة اطفال وحدها، وفي واقع صعب تحاول التأقلم معه حتي تمضي الحياة وقد حصل الفيلم الذي اخرجه ريناتو سيراني علي ذهبية الفيلم الوثائقي الطويل، اما الجائزة الفضية فذهبت لفيلم سويسري عن البشر الباقين علي قيد الحياة في جزيرة روسية في بحر قزوين، اصبحت مهجورة بعد انقسام الاتحاد السوڤيتي، اما فيلم الجائزة البرونزية، وعنوانه «سبايا» للمخرج الكردي السويدي هوجين فيدور حول ماحدث عام 2014 حين هاجمت داعش اجزاء من العراق وسوريا، واختطفت الاف من الفتيات الايزيديات، سبايا، ورقيق جنسي عند مقاتلي التنظيم.. ويقدم فيلم «السجناء الزرق»، للمخرجة اللبنانية زينا دكاش تجربتها الفريدة في التعامل مع السجناء تحت عنوان «العلاج بالدراما والمسرح» في تجربة فريدة ذهبت فيها الي واحد من اكبر سجون لبنان لتقدم مع نزلائه مسرحيات وتدريبات علي التعبير، وبعدها ذهبت الي سجن النساء لتقدم تجربة مماثلة في عمل مختلف ومتفرد، وهناك ايضا مسابقة الافلام القصيرة، والبرنامج الرائع، غير الرسمي وغيرها من البرامج والندوات والنقاشات التي كانت تستحق تغطيات اعلامية، وتليفزيونية افضل كثيرا لاهمية موضوعاتها مثل «السينما كأداة للتغيير المجتمعي» ومثل «صورة مصر القديمة في السينما» وغيرها من النقاشات والمحاضرات التي لاقت اقبالا كبيرا من جمهور المهرجان، والشباب خاصة، كل هذا يستحق ان يوضع علي موقع المهرجان تأكيدًا علي اهمية تلك الدورة وثرائها، وزحام روادها من اجل السينما اولا لان الفن لا منافس له ولا بديل عنه.

 

الأهالي المصرية في

27.10.2021

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004