المخرج برهان علوية.. رحيل شاعر المنفى وإشكاليات الحرب
بيروت
– رنا
نجار
رحل المخرج السينمائي و"عرّاب السينما اللبنانية البديلة"
برهان علوية، مساء الأربعاء، في منفاه الاختياري في بلجيكا التي يحمل
جنسيتها ودرس فيها ألف باء اللغة البصرية، عن عمر يناهز 80 عاماً.
وتوفي علوية بعد معاناة مع مرض السرطان الذي حتّم عليه
"مكرهاً" العودة إلى المنفى في عام 2012 لأنه "لم يعد قادراً على تحمّل
أعباء الحياة خصوصاً الطبابة، في وطنه الذي أحبّه حتى الرمق الأخير، وشغل
أفكاره وأفلامه ولغته السينمائية الشاعرية، وبقي يتابع أخباره حتى توقف
قلبه"، كما قال لـ"الشرق" المنتج اللبناني نجا الأشقر صديق علوية وموزع
أفلامه.
إشكاليات الحرب
لم تنفصل سينما برهان علوية عن فكره وموقفه السياسي العروبي
من قضية فلسطين وانحيازه للغة العقل والمنطق والإنسانية ضد لغة الحرب
الأهلية اللبنانية والاقتتال الطائفي.
طرح في أعماله إشكاليات الحرب التي اندلعت مع بداية مشروعه
السينمائي، الذي تعامل معه كأداة تغييرية محفّزة واستفزازية لطرح الأسئلة
والهواجس والقضايا السياسية والإنسانية وفتح النقاش حول أمور عربية
ولبنانية شائكة.
لذلك ارتبطت أفلامه بالواقعية المحض وتفكيكها وتحويلها إلى
أسئلة حول الذاكرة والمنفى والصراع العربي الإسرائيلي والهوية والعلاقات
الإنسانية.
تلك العلاقات التي باتت محرّمة بين الطوائف خلال الحرب التي
هجّرت الناس داخل بلدهم ونفتهم في أرضهم، كانت محور أهم أفلام برهان علوية
"بيروت اللقاء" (1981)؛ وهو فيلمه الروائي الطويل الثاني الذي صنعه قبل عام
واحد فقط من الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، والذي شكل حداً
فاصلاً بين مرحلتين، دفع ببرهان علوية الذي بقي في بيروت حتى لحظة الاجتياح
هذه، إلى خيار الهجرة إلى باريس، حيث أنجز "رسالة من زمن الحرب" (1984)
و"رسالة من زمن المنفى"
(1990).
لكن رسائل علوية عن الحرب التي رسمت مساره وحدّدت هوية
مشروعه، بقيت ممنوعة في لبنان ولم يعرض الفيلم إلا بين الأصدقاء!
إلى المنصات الرقمية؟
لذا، يحضّر الأشقر الآن بعد العمل على معالجة أفلام علوية
ورقمنتها، لمشاركة فيلم "رسالة من زمن الحرب" في مهرجانات عالمية، مثل كان
والإسماعيلية والإسكندرية، لتكريم مخرج ترشح لجائزة "سيزار" الفرنسية
السينمائية المرموقة مرتين، وكان أول مخرج عربي يشارك في المسابقة الرسمية
في "مهرجان برلين السينمائي الدولي" في دورته الـ39 عبر "بيروت اللقاء"؛
لتكرّ السبحة ويتكرّم في بلدان كثيرة ويشارك في لجان تحكيم مهرجانات عالمية
مثل: كازابلانكا وبروكسيل وقرطاج.
وهو الحائز على التانيت الذهبي من مهرجان قرطاج السينمائي،
وجائزة مهرجان الإسماعيلية المصري الدولي.
هذه الجهود يبدو أنها ستنقل أفلام علوية إلى المنصات
الرقمية بعدما وصلت أفلام صديقه مارون بغدادي إلى "نتفليكس" التي "طلبت
أفلام الراحل في انتظار الرد النهائي منها"، بحسب الأشقر.
دمج الروائي بالوثائقي
وكان علوية يقول دائماً إن "فلسطين أدخلتني إلى السينما"،
إذ إن أول أفلامه كان "كفر قاسم" (1974)، الذي يعادل اسمه في ذاكرة جمهور
السينما العربية وفي ذاكرة النقاد، والذي حطّ عبره طريقه إلى الفن السابع
رسمياً بعد عودته من دراسة السينما في معهد "إنساس" في بلجيكا.
هذا الفيلم الذي يوثّق واحدة من أبشع المجازر الإسرائيلية
بحق الفلسطينيين سيصبح لاحقاً مرجعاً في ما بات يُسمى
"docudrama"
والذي كان علوية طليعياً ومؤسساً له، قبل أن تُحدّد أطره ويكون له موجة؛ إذ
استطاع علوية صَهر الروائي بالوثائقي المتخيّل القائم على نص للصحافي
والكاتب السوري الراحل عاصم الجندي، ونجح في التأثير بالمُشاهد وفتح باب
النقاش حول القضية الفلسطينية التي لطالما اعتبرها "البوصلة"، بحسب الأشقر.
سينما لصيقة بالناس
كانت "كاميرته لصيقة بالناس وهمومهم وحالاتهم وخيباتهم؛
لأنه كان في حياته يحب الناس ومتشبّثاً بأرضه وهويته ويحب كل من حوله
ويعاملهم بلطف"، كما يقول المخرج اللبناني إيلي خليفي الذي عمل مع علوية
مخرجاً مساعداً في فيلمه الأخير "خلص"
(2007).
وأردف أن الراحل أثّر فيه وبجيل كامل بعد جيله وجيل
السبعينيات من المخرجين، إذ "تعلّم منه كيف يُضفي عمقاً على أفلامه
الكوميدية الخفيفة ليكون لها معنى".
نحات الوقت
ووصف خليفي تعامل علوية مع التصوير "كأنه مغامرة جميلة من
لحم ودم، يؤديها بحب ويتعامل مع فريق العمل بعاطفة وكأنه ينحت المادة ولا
يصوّرها بالشكل".
ويعتبر خليفي أن "علوية ثروة ثقافية ومرجع لبناني بالنسبة
إلى السينما العالمية، فأنا تعرفت على أعماله من خلال الصحافة الفرنسية
والسويسرية عندما كنت أدرس هناك". وأضاف: "برهان علوية ويوسف شاهين هما
المخرجان الوحيدان اللذان ذُكرت أسماؤهما في "قاموس السينما العالمية"
كمرجعيين عربيين".
وقال: "علوية هو أكثر من مخرج بل هو شاعر وإنسان حساس،
نحّات للزمن والوقت في لغته السينمائية وطريقة طرحه للقضايا خصوصاً
المتعلقة بلبنان، الذي رحل وقلبه محروق عليه وما يحصل منذ اندلاع الحرب
الأهلية وما لحقها من نتائج وأزمات وانهيارات، كانت كخنجر في قلبه الذي لم
يعد يحتمل المنفى ولا الألم ولا الهزائم كما يعبّر في فيلمه الأخير (خلص)".
ويضيف: "في هذا الفيلم طلب علوية مني أن أفبرك معه فيلماً
مختلفاً تماماً عما أقوم به في أفلامي التي هي بمجملها "لايت" وفيها
كوميديا خفيفة، بينما أفلامه عميقة تفكّك الواقع ومتجذرة بالأرض. وقال لي
إنه يحتاج هذه الخفّة ليضيفها إلى نصه العميق وعندها يصبح لها معنى".
الإخراج فكره لا مهنته
وقال الناقد والكاتب اللبناني وليد شميط الذي يُعدّ حالياً
كتاباً عن مشروع علوية السينمائي والإنساني، إن "كفر قاسم" يُعتبر من أهم
ما أنتجته السينما العربية في تلك الفترة، والذي فاجأ علوية فيه الجميع بعد
عودته من بلجيكا مثبتاً أنه صاحب طاقة مهمة؛ وكان مدخلاً لإعلان فكره
السينمائي وانتماءاته الفكرية والسياسية والاجتماعية.
وقال علوية بالحرف لشميط في إحدى مقابلاته: "الفيلم
التسجيلي عندي هو الروائي، فأنا أجد نفسي في الموضوع الذي أتعامل معه وليس
في الشكل. فأنا أُخرج أفلامي الشخصية فقط وفكري مُخرج وليست مهنتي مخرجاً".
وأفاد شميط بأن علوية كان مع كل فيلم يحاول قول شيء جديد
ويناقش قضية ويعبّر عن موقف. واعتبر أنه من القلائل في العالم العربي الذين
"يمارسون السينما بلا تنازلات على الرغم من الصعوبات الإنتاجية والمادية
التي واجهها، والتي جعلته يأخذ قراراً بالبقاء في أوروبا كي يستمر في صناعة
الأفلام. لكنه بقي متواصلاً مع لبنان والعالم العربي قلباً وقالباً وبقي
ملتزماً قضايا المنطقة". |