“الأعمى
الذي لم يرغب في مشاهدة تيتانيك”
محمد كمال
احتوى الفيلم الأمريكي” تيتانيك الذي أنتج عام 1997 على
واحدة من أهم قصص الحب على شاشة السينما خلال فترة التسعينيات والذي حقق
نجاحا جماهيريا كبيرا وقت عرضه وتم ترشيحه ل 14 جائزة أوسكار حصل على 11
منهم، وعلى غرار قصة حب تيتانيك يأتي المخرج الفنلندي تيمو نيكي بتحفته
السينمائية الجديدة
“The Blind Man Who Did Not Want to See Titanic”
أو “الرجل الأعمى الذي لم يرغب في مشاهدة تيتانيك” الذي حصل مؤخرا على
جائزة النجمة الذهبية خلال مشاركته في المسابقة الرسمية للدروة الخامسة
لمهرجان الجونة السينمائي الذي اختتمت فعالياته منذ أيام قليلة وحصل بطله
بيتري بويكولاينن على جائزة أفضل ممثل.
افتتح هذا الفيلم عروض المهرجان ونال ردود أفعال إيجابية
منذ الأيام الأولى للمهرجان، وكان الفيلم قد حصل على جائزة الجمهور في
مهرجان فينسيا من خلال اشتراكه في برنامج
“Orizzonti Extra“.،
ويعد “الرجل الأعمى الذي لم يرغب في مشاهدة تيتانيك” ضربة بداية موفقة
للجونة من خلال هذا الفيلم صاحب الاسم الطويل الذي يفتح معه التساؤلات
لماذا لا يرغب رجل كفيف مشاهدة فيلم تيتانيك؟.
الإجابة كانت خلال الأحداث حيث أن عدد الذين لم يشاهدوا
تيتانيك قليلون جدا وبطل هذا الفيلم الفنلندي واحد منهم وهو لم يشاهده فقط
بل انه يحمل رؤية مختلفة حول تيتانيك وحول مخرجه جيمس كاميرون والتي هي
مغايرة تماما عن السائد، وهو ما يجعلنا نجد أنفسنا أمام شخصية مختلفة غير
عادية برغم الإعاقة.
يدخل المخرج تيمو نيكي الجمهور داخل تفاصيل فيلمه منذ تتر
البداية الذي استخدم فيه التعبير الصوتي لعرض أسماء فريق العمل ليقول منذ
الوهلة الأولى أن التجربة خاصة وموجهة للمكفوفين، بالإضافة إلى كتابة تلك
الأسماء بطريقة برايل صحيح هي على المستوي المادي لم تضيف للفيلم لكنها عنت
الكثير معنويا.
منذ المشهد الأول يضعنا المخرج على مسافة واحدة مع البطل
“ياكو” من خلال لقطات شديدة القرب “كلوس آب” مع وجه البطل من جميع الزوايا،
واستخدام إسلوب متعمد لإخفاء أي ممثل أو شئ اخر لا يريد أن يراه ياكو ليظهر
كأنه
“Fade”
باستخدام صورة مشوشة حتى نرى الأحداث من خلال ياكو فقط حيث الصورة السوداء
الغير واضحة ونكون جزء من تفاصيل اليوم الذي تدور خلاله الأحداث.
في البداية نعيش مع ياكو داخل غرفته الصغيرة حيث حياته
الضيقة النمطية التي بالتاكيد يستحوذ الملل على نصيب الأسد فيها من خلال
هاتفه المحمول المصمم للمكفوفين وأدويته وحركته الصعبة خلال التنقل من مكان
لآخر وغرفته المكتظة بنسخ الأفلام خصوصا شرائط الفيديو القديمة وبعض من
“DVD”
لنعرف أننا امام شخصية تولي للسينما اهتمام خاص لدرجة انه يعتبر تلك
الأفلام هي ثروته الحقيقية التي يمكن ان يورثها للآخرين، وأيضا مكالماته
الهاتفية مع “سيربا” وهي العلاقة الحميمية الوحيدة في حياة ياكو، برغم
المرض حيث أنه أصيب بالتصلب العصبي المتعدد الذي تسبب في فقدان البصر.
أسعد أوقات ياكو تلك التي يقضيها في محادثاته مع سيربا
والتي يتضح ان علاقتهما نشأت منذ فترة لكن لم يلتقيا من قبل نظرا لرفض ياكو
ترك غرفته خوفا من صعوبة تنقله وتدهور حالته الصحية، تلك العلاقة التي تجعل
ياكو ينسى إعاقته ومرضه ومواعيد أدويته ولقاءات الأطباء والممرضات وتنقله
من عالمه الضيق الممل الرتيب إلى عام أوسع نسبيا على المستوى النفسي إلى ان
يقرر ياكو لقاء صديقته بعد فترة من الرفض لأنها صرحت له بأن حالتها المرضية
تسوء ودخلت في مراحلها الأخيرة.
استحوذت
رحلة ياكو خارج المنزل على النصف الثاني من الفيلم لأول مرة خارج حدود
غرفته الضيقة لكن أصر المخرج أن يجعلنا كمشاهدين في نفس الصورة الضيقة
المشوشة التي لا نرى فيها سوى ياكو فقط والكاميرا مازلت مركزة على وجهه
تتحرك معه دائما كظله أو جزء من جسده، حتى أن كل الأشخاص الذين قابلهم في
رحلته ظهروا بصوتهم فقط من خلال حوارتهم السريعة مع ياكو.
خلال تلك الرحلة التي كان من المفترض أن يستقل خلالها قطار
وسيارتين اجرة يصطدم بخمسة غرباء منهما لصين ليس في قلوبهما رحمة يستغلان
عجزه وإعاقته يحاولا سرقته وبعد الفشل يتركاه وحيدا عاجزا لا يستطيع سوى
طلب النجاة من السماء إلى ان يساعده شخص اخر ليكمل ويصل إلى نهاية رحلته.
ياكو شخص ذكي سريع البديهة لم يتخلى أبدا عن مداعبة
الحياة، فقد البصر لكنه لم يفقد البصيرة وخفة الظل والأهم لم بفقد مشاعره
الإنسانية وأهمها الحب .. ذلك الحب الذي جعله يتخلى عن محاذيره ويتحدى
الصعاب ويتعرض للاختطاف والمساومة من قبل اللصوص حتى يصل إلى هذا الحب،
الذي يراه الأمل الأخير له لتغيير شكل ونمط حياته من جديد صحيح من الصعب
العودة إلى حياته السابقة لكن على الأقل محاولة لاستعادة ما تبقى منها.
برع المخرج تيمو نيكو في أن يجعل المشاهدين يرون الأحداث من
خلال إحساس ومشاعر بطله حتى عندما سقط أرضا وهو يبحث عن هاتفه شعرنا معه
بالعجز وقلة الحيلة حتى في أحلامه اللاهثة كان المشاهد جزء منها وعندما سقط
في نهاية رحلته وحيدا وقال بصوت عال “الحرية”، كل هذه المشاعر انتقلت بصدق
إلى المشاهدين.
بطل الفيلم بيترى بويكولاينين فقد بصره منذ 10 أعوام تقريبا
نتيجة إصابته بمرض التصلب العصبي المتعدد تماما مثل بطل الفيلم، لهذا يبدو
أن هذه التجربة يرسلها المخرج تيمو نيكو كبرقية حب وتقدير لصديقه الممثل
الذي لا لم يكن من قبل من نجوم الصفوف الأولى ويعتبر هذا الفيلم أول بطولة
مطلقة له.
اختيارالفيلم الأمريكي الشهير تيتانيك في عنوان الفيلم
الفنلندي يشير به المخرج إلى نقطتين الأولى محتملة وهي ان تكون هذه رؤية
هي وجهة نظر المخرج تيمو نيكو الحقيقية تجاه هذا الفيلم الذي أعجب به
العالم بأثره ويمكن اعتباره عتاب صغير لأستاذه جيمس كاميرون الذي حقق نجاح
ساحقا في أقل أفلامه.
أما
النقطة الثانية فهي الخاصة بقصة الحب التي يحاول نيكو أن يجعلها في نفس قوة
وشهرة فيلم تيتانيك صحيح أن الفيلم الفنلندي لن يحصل على نفس النجاح
الجماهيري لكن تظل نقطة اقترانه بتيتانيك وتغلفيها دراميا بهذا الشكل
البديع من أهم نقاط جمال وروعة الفيلم، كما أن قصة الحب في تيتانيك لم
تكتمل عكس قصة حب ياكو الذي وصل في النهاية إلى صديقته وحبيبته سيربا التي
بمجرد لمس وجهه ظهرت على الشاشة دون تشويش أو إخفاء للمرة الأولى كأن ياكو
كان في أمس الحاجة لتلك اللمسة التي اعادت له بريق الحياة توازي عودة البصر
له من جديد. |