سعفة "كانّ" لـ"تيتان" دوكورنو: غموضٌ في الكتابة لكنّ
الأداء رائعٌ
باريس/ ندى الأزهري
اقتحمت الوحوش، وأيّ وحوش، مهرجان
"كانّ".
من دون مهادنة، وبعيداً عن أنصاف المواقف والمعايير، وعن العادي والمألوف،
قدّمت الفرنسية جوليا دوكورنو "تيتان" فيلمها الطويل الثاني، بعد "خَطِر
(Grave)،
المُنجز عام 2016. هذا كابوس بالأحرى، لاحقها بإصرار وعناد، وفيه تلدُ
قطعاً معدنية، وأجزاءً من سيارة. من هنا، كانت البداية. الكابوس تطوّر،
فأصبح بكتابتها قصّةَ شابّةٍ، يُميّزها أثرٌ لا يُمحى فوق أذنها اليمنى.
قضبان معدن صلب ذي قوّة خارقة، مُقاوم للصدأ والتآكل: الـ"تيتانيوم". شابّة
ذات ميول إجرامية، وأفعال جهنميّة، لا رادع يوقفها، ولا ندم يساورها.
"تيتان"
ـ الفائز بـ"السعفة الذهبية" لمهرجان "كانّ" السينمائي، في دورته الـ74 (6
ـ 17 يوليو/ تموز 2021) ـ ممنوعٌ حضوره لمن هم دون 16 عاماً. هكذا كان حال
الفيلم الأول لدوكورنو، الذي تنازعته في ما يبدو أقسام مهرجان "كانّ"
حينها، ثمّ قرّرت المخرجة عرضه في "أسبوع
النقّاد"،
إخلاصاً منها لقسمٍ عرض فيلماً قصيراً لها بعنوان "جونيور (الصغير)" عام
2011.
جوليا دوكورنو مخلصةٌ أيضاً لمواضيعها الأثيرة. في أفلامها
الثلاثة (القصير والطويلين)، تقترح عالماً مُتفرّداً، تطرأ فيه على أجساد
شخصياتها الرئيسية (تكون دائماً نساء في مراحل عمرية مختلفة) تحوّلات
غريبة، يتبعها ظهور ميول وحشية. في "جونيور"، يصبح جسد المُراهقة جوستين،
الملقّبة بجونيور (13 عاماً) مسرحاً لتحوّلٍ غريبٍ، بعد تشخيص إصابتها
بالتهاب المعدة والأمعاء. جوستين أيضاً، لكنّها هذه المرة شابّة في
"خَطِر"، تكتشف في سنتها الجامعية الأولى طبيعتها الحقيقية كـ"إنسانة" نهمة
لأكل لحوم البشر، هي التي كانت نباتية. ويسبر "تيتان" تحوّلات (أيضاً)
شيطانية لامرأة غامضة، أشبه بكائن هجين، بين ذكر وأنثى شكلاً، وإنسان
وحيوان سلوكاً.
مواضيع دوكورنو تُقسِم الجمهور بين مُعجب كبير وكاره شديد،
وبين مُتقزّز يغادر الصالة قبل نهاية الفيلم، أو متابع له وهو يغضّ النظر
عن مَشاهد عدّة فيه، أو مُتحمّس يُطالب بالمزيد من مخرجة ترفد السينما
الفرنسية بشيءٍ
جديد، لا يمكن بالتأكيد نعته بالطزاجة، لأنّه أبعد ما يكون عنها، بل
بانحراف جريء عن مسارات مألوفة لهذه السينما.
من لقطته الأولى، يتجلّى ابتكار "تيتان" فرنسياً. يقترب
أكثر من سينما أميركية؛ كوانتين تارانتينو مثلاً، أو الكندي ديفيد
كروننبرغ، أفضل من صَوّر الجوانب التحليلية النفسية للتحوّل، كما تقول
دوكورنو نفسها. لا تخفي إعجابها الكبير بهذا المخرج، الذي تمتلئ أفلامه
بأجسادٍ كثيرة مُشوّهة ومجروحة. هناك مراجع سينمائية عالمية عدّة لها، كما
رصدها النقد الفرنسي.
لكنّ هذا كلّه لا يعني تقليداً. ربما يكون مستوحى، لكنّه لا ينزع عن
المُستوحى شخصيته، بل على العكس، فهي تمكّنت ـ في كلّ مشهد ولقطة ـ من
إثبات حضورها وأسلوبها الخاصّين، في فيلمٍ لا يُروى. المخرجة نفسها قالت
إنّه يصعب التحدّث عنه.
اللقطة الأولى: طفلة في مقعد خلفي في سيارة، ترفس مقعد
والدها السائق بعناد وعدوانية مدهشة، يظهران في فعلتها ونظرتها الشرسة،
كأنّ شيطاناً ركبها. بسببها، يرتكب الأب حادثاً، لا تخرج منه سليمة، جسدياً
وعقلياً. استُخدمت زرعات من الـ"تيتانيوم" لتعويض عظامها المكسورة
وتثبيتها، ولإعادتها إلى طبيعتها. غُرست براغٍ في جمجمتها وخلف أذنها،
لتحسين الصمم الذي أصيبت به. هذا كلّه موضّحٌ بفجاجة في مشاهد عنيفة
للغاية، تُنتج رأساً صغيرة، سجينة قضبان المعدن.
منذ ذلك الحين، تحمل ألكسيا هذا الجرح، ومعه تقرّر طرقها
الخاصة في التعبير عن مكنوناتها العدوانية والإجرامية، في صمتٍ شبه دائم.
عندما أصبحت شابّة (أغات روسِّل)، عملت في مهنةٍ تعتمد الجسد ودلالاته:
راقصة تعرٍّ صامتة وغامضة، ذات مظهر وحشي، ومحميّة بهذا المعدن الصلب
المغروز فيها. لا تبريرات لدوافعها وأفعالها. مُغرمة، لأسباب مبهمة، بالقتل
المتسلسل، وبالدم. الجنس وسيلتها لتحقيق شهواتها الإجرامية، إلى أنْ تضعها
الظروف في طريق فنسان
(فنسان
ليندون)،
رجل إطفاء بائس ويائس، يجسّد فيها ابنه المفقود، وتتعرّف عبره على شيءٍ
اسمه العاطفة.
هناك نقاطٌ عدّة غامضة وواهنة في الكتابة السينمائية
(سيناريو دوكورونو): تَحوّل الفتاة، وهذا العنف كلّه الذي تحتويه؛ غموض
شخصيتها منذ الصغر، كما يظهر من المشهد الأول؛ العلاقة الملتبسة مع الأب.
هذا كلّه لا يُقدّم له السيناريو تفسيراً
واضحاً. في مشاهد تالية، هناك أشياء أخرى أكثر غرابة، لكنّها تُقْبَل في
نوعٍ سينمائي كهذا: حَمْلُ أليكسيا (من سيارة؟) مثلاً، أو نزيفها شحوماً
معدنية. يصعب التكهّن، وربما لا يلزم ذلك في هذا النوع، الذي يُنسي أحيانا
"منطقية" المحتوى. مكمن قوته في التنفيذ، وفي الأسلوب الإخراجي، وفي هذا
الاهتمام المُركّز على الجسد، ليس باقتصاره على المعنى الجنسي من شهوة
وملذات، بل حركته وردود أفعاله، من تجاوب ونفور، وجماله وقوّته وضعفه.
الجسد كتجسيدٍ لمشاعر، عدوانية وعنيفة وهازئة، أو مُحبّة.
هناك أيضاً هذا الأسلوب في التعامل مع الآلة ككائن، وتجسيد هذه الرؤية
العنيفة للعالم في نظرة سوداوية، لا تخلو من دعابة أحياناً، وتترك مساحة
ضئيلة للحبّ.
اعتمد الإخراج كثيراً على الموسيقى والإضاءة والتصوير، وعلى
أداء الشخصيات. فانسان ليندون في أحد أفضل أدواره وأكثرها غرابة، وآغات
روسِّل مُدهشة في شخصية ألِكسيا، ولها فضل كبير في جذب الانتباه. اختارتها
المخرجة كوجه جديد، لتكون كاملة الإقناع بسلوكها، فيرى المُشاهد فيها شخصية
ألكسيا، لا أحد آخر رآه سابقاً في شخصية أخرى. ألكسيا المسكونة بشياطينها،
قبل أن تبدأ تحوّلاً جديداً أبدياً مع تقرّبها من فانسان.
ربما لا نكون من هواة النوع. لكنْ، لا بُدّ من أنْ نؤخذ بـ"تيتان"،
الذي يستحقّ جائزة ما، ربما لا تكون الأولى. |