"أوروبا"
لحيدر رشيد.. أرض ميعاد تحرسها وحوش هائجة
محمد صبحي
كمال، شاب عراقي هرب من بلاده وعليه خوض رحلة عسيرة لدخول
أوروبا سيراً على قدميه، عبر طريق البلقان. حين وصوله الى الحدود التركية
البلغارية، تقبض عليه شرطة الحدود البلغارية، ويُضرب ويُسرق، لكنّه يتمكّن
سريعاً من الهرب، إلى غابة على الحدود نفسها، حيث ينتظره تهديد أكثر شرّاً
في هيئة حرّاس/ صيادين/ مرتزقة مسلّحين يتتبعون المهاجرين ويردونهم قتلى
مثل حيوانات برية. في عالم الغابة، لا قوانين، والمخاطر عالية، وليس أمام
كمال، الوحيد واليائس، سوى ثلاثة أيام للتمسّك بنجاته والوصول إلى وجهته
وأرض ميعاده.
هذا ملخّص فيلم "أوروبا" لحيدر رشيد، المخرج الإيطالي
العراقي، الذي عُرض ضمن الدورة الـ53 لقسم "نصف شهر المخرجين"، في الدورة
الـ74 لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي (7 ـ 17 يوليو/ تموز 2021). يواصل
رشيد، المولود في فلورنسا لأب عراقي هو الناقد السينمائي عرفان رشيد، قصته
عن المهاجرين والصعوبات التي يواجهها أولئك الذين يجدون أنفسهم مضطرين
لمغادرة بلادهم، لينجز فيلماً غامراً ومزعجاً، استناداً إلى أحداث حقيقية
مخيفة يختبرها معظم طالبي الهجرة واللجوء إلى الملاذ الأوروبي.
"أوروبا" فيلمٌ مكثّف ومباشر وفعّال، من النوع الذي يكتسب
مستويات دلالية إضافية من عنوانه، وهو في ذلك يذكّر بفيلم مبكّر للأرجنتيني
ليساندرو ألونسو بعنوان "الحرية "LA
LIBERTAD(2001).
هناك مشابهات أخرى مع ذلك الفيلم الأرجنتيني (شخصيته الملاحِظة، حواراته
القليلة جداً... على الرغم من تباين الوتيرة، التي تسير بخطى سريعة هنا)،
لكن الأساس يكمن في القراءة التي يُخرج بها مما يتم التعبير عنه في كلا
الفيلمين. فهو فيلم يبدو كما لو كان يحدث على مدار 24 ساعة فقط، ونادراً ما
يترك الغابة الحدودية، ولكنه، لكثيرين، يمثّل التجربة الأوروبية بأكملها.
إنه، بأكثر من طريقة، أوروبا، تلك التي يعرفونها، وربما الوحيدة التي
سيعرفوها على الإطلاق. يقول رشيد إن بلغاريا هي البلد الذي ذهب إليه والده
عندما فرّ من عراق صدام حسين في أواخر السبعينيات قاصداً أوروبا. ورغم أن
رحلته كانت مختلفة عن تلك التي خاضها بطل الفيلم، إلا أنه بطريقة ما شعر
أنه من الصواب سرد هذه القصة.
يبدأ الفيلم بسلسلة من الإشارات النصّية (تتضمّن كلمات أكثر
من تلك الموجودة في الدقائق الـ 72 التالية) تخبرنا بما يجب على بعض
المهاجرين الآسيويين فعله لدخول القارة المرغوبة في خضم هروبهم من الواقع
المزري لبلدانهم. وهذا يعني: دفع الكثير من المال، وخطر التعرض للخداع،
وإذا نجحوا في عبور الحدود، فسيتم احتجازهم أو حتى قتلهم من قبل مضيفيهم
غير المرحبين بهم. يُظهر المشهد الأول ذلك بالضبط، مع مجموعة من الأشخاص
على الحدود بين تركيا وبلغاريا يلفّهم الظلام والتوتر حين يواجهون طلبات
اللحظة الأخيرة من مهرّبيهم للحصول على أموال إضافية، ثم يلي ذلك ركض
ومطاردة وإطلاق نار. يكاد يستوي الأمر فيلم حرب في منتصف الليل: مربك،
يائس، مرعب.
البطل، كمال، يتمكن من الفرار وسط الفوضى. يركض، ويركض،
ويستمر في الركض. تتابعه الكاميرا، تلتصق بجلده ووجهه وجسده، ليشاركه
المتفرج تجربة الاصطياد والهروب. يقدّم المخرج العديد من اللقطات المتسلسلة
ويجعل عدسته قريبة قدر الإمكان من وجه مرعوب لا يعرف راحة البال. القصة
كاملة تروى من خلال جسد الشخصية ومتابعة حركة هذا الجسد، ركضه وزحفه على
الأرض أو صعوده إلى أعلى شجرة للاختباء. واقعية قلقة ومقلقة، نسمع الرصاص
يمرّ بالقرب منه، ويهرب رجال آخرون أيضاً، وبعضهم يسقط في المحاولة،
ويتمكّن كمال من التقدم رغم كل شيء، بفضل مزيج من البراعة والمهارة والحظ.
لكن عاجلاً أم آجلاً سيصبح الوضع أكثر كثافة وتعقيداً. ومن
دون تغيُّر نمط السرد كثيراً، إضافة إلى بعض مونولوجات بلا إجابة، يعمل
المخرج على تعقيد التجربة بشكل أكبر، ما ينتهي بالبطل إلى الانغراس أكثر في
تربة ملغّمة بالمزالق الجسدية والأخلاقية. ليس فقط مع الطبيعة أو "صيادي"
الحدود، بل أيضاً مع بعض الأشخاص القلائل الذين يصادفهم في مسيرته داخل
الغابة الموحشة. يستخدم المخرج أجندة معاصرة لقيادة فيلم منسوج على وتر
البقاء والخطر المستمر والأمل في النجاة، لا يفلت بطله وسط أجواء يسودها
العنف وانعدام الثقة ومنطق البقاء للأقوى، تاركاً جميع العناصر التي تشكل
تهديداً خارج المجال. لأن كل شيء يهدّده، من الطبيعة إلى أولئك الذين،
مثله، يجرّبون طريقهم عبر الأشجار.
الغابة الشاسعة، كموقع تصوير مفتوح، تتعارض تماماً مع
الشعور الخانق المسيطر على الفيلم. يقدم المخرج عمله كفيلم إثارة وتشويق،
مستعيراً بعض العناصر من سينما النوع. "أردت الاستلهام من أفلام الوحوش.
الحرّاس هنا ليسوا مخلوقات غريبة أو دموية، إنما يرتدون الخوذات، وبقسوة لا
تتوقف يصطادون فرائسهم بأسلحة متأهبة على أذرعهم". في الجانب الآخر، يحمل
البطل تجربة الهجرة على جسده ووجهه، مجروحاً ومتألماً وجائعاً ومنهكاً.
تلتصق الكاميرا بوجهه ونرى جروحه ودموعه وعرقه وحتى مخاطه. لدخول القارة
الموعودة، يجب أن يتعرض للضرب والقسوة وسوء المعاملة، بل وحتى الخوف من أي
آخر. يتضح هذا الأخير في مشهد على الطريق، يُظهر حالة جنون العظمة التي
تحيط بالمجتمع البلغاري، في هذه الحالة، والمجتمع الأوروبي بشكل عام.
يكشف "أوروبا" أيضاً عن الخطاب المزدوج للقارة العالقة في
ارتباكها إزاء المهاجرين. ففي حين أن بعض دول أوروبا الشرقية كانت دائماً
أكثر فظاظة ومباشرة في رفضها لهذا النوع من الهجرة، فإن رد الفعل الوحشي ضد
هؤلاء المهاجرين يسلط الضوء على الصدع بين المظهر الإنساني للقارة (خطابات
التضامن، إعانات التنمية، الشعور بالذنب والشروع في مفاوضات عبثية مع
السفّاحين) وموقفها من الواقع اليومي للهجرة. كما حدث في الجائحة
(الاستئثار باللقاحات وشفطها من دول "العالم الثالث" الفقيرة، أو الإمعان
في فرض معوقات السفر من/ وإلى بلدان ربما يكون وضعها الوبائي أفضل حالاً من
معظم الدول الأوروبية)، فإن ما يُقال شيء، وما يُنفّذ شيء آخر تماماً. وهذه
هي أوروبا أيضاً. |