سبايك لي.. محارب يرفض الاستراحة
أمل مجدي
قبل 4 عقود كان من الصعب أن يتخيل أحد إمكانية تصدر وجه
أسود الملصقات الدعائية لأهم تظاهرة سينمائية في العالم، فما بالنا بتولي
مخرج أمريكي ذي أصول أفريقية رئاسة لجنة التحكيم المسابقة الرسمية، ولكن
سبايك لي، الذي استطاع التمرد على واقع السينما الهوليودية البيضاء، وفرض
وجوده على شاشتها ساردًا حكايات بني عرقه بشجاعة مثيرة للدهشة والجدل،
استحق بعد سنوات طويلة من العمل الدؤوب أن تتغير السياسات من أجله، ويكون
محل احتفاء مهرجان كان الفرنسي في دورته الـ74.
يحظى سبايك لي بشهرة واسعة عالميًا تتجاوز كونه صانع أفلام
مهمومًا بقضايا الملونين في أمريكا، لا يقبل المساومة على رؤيته الخاصة
وفنه. فهو أكثر من ذلك بفضل شخصيته طاغية الحضور التي أجاد صقلها،
واستثمارها في الإعلام والصحافة منذ البدايات، وحتى يومنا هذا. حيث يظهر
دوما بأزياء واكسسوارات تخطف الأنظار، وعندما يتحدث تنطلق الكلمات على
لسانه دون تردد أو خوف من خلق عداءات مع أشخاص أو مؤسسات في أي مجال. وكأن
لا شيء يعنيه سوى صدقه مع نفسه، وعدم خيانته لأفكاره وقناعاته.
هذا النهج في الحياة يعود بالأساس لما نشأ عليه في صغره.
كان طفلًا محظوظًا بأسرة محبة وداعمة علمته تقدير ذاته واحترامها. كما فتحت
عينيه على إرث العبودية، وشجعته على التحرر والركض وراء الأحلام مهما كانت
صعبة.
“يتصف
أهلي بأنهم أناس ممتعون.
فوالدي عازف جاز، أما والدتي فكانت مدرسة لمادة تاريخ الفن ومادة الأدب
الأمريكي الخاص بالسود. أي أنني انحدرت من عائلة تتمتع بخلفية ثقافية فنية
جيدة… أدين بكل شيء لأهلي ولجدي وجدتي لأنهم سقوني الشعور بالثقة قطرة قطرة”.
جيل المستقلين الجدد وتحطيم التماثيل
في واحد من أكثر المواسم الصيفية الساخنة في درجة حرارتها
وأحداثها قرر سبايك لي أن يصبح مخرجًا بعدما صنع فيلمًا قصيرًا عن بروكلين.
كان العام 1977 حيث تمر مدينة بأزمة اقتصادية خانقة، وتعيش حالة رعب بسبب
جرائم القاتل المتسلسل “ديفيد بيركويتز”، والذي حكى لي قصته لاحقًا في
فيلمه Summer of Sam.
التحق سبايك لي بعدها بجامعة نيويورك ليدرس السينما، وهناك
التقى بزميليه جيم جارموش وأنج لي اللذين سيصبحان فيما بعد من أهم المخرجين
في وقتنا الحالي.
وقد شكلوا مع الأخوين كوين وجوس فان سانت وجون سايلس جيلًا
جديدًا من المخرجين المستقلين الذين يسعون إلى إحداث تغييرات في الصناعة
سواء على مستوى الأفكار أو اللغة والتقنيات. في النهاية، فضل بعضهم
الابتعاد عن نظام الاستوديو تمامًا، بينما تمكن آخرون من خلق نوع من
الموازنة مثلما فعل سبايك لي.
يمكن تلمس ملامح تجربة لي السينمائية من خلال النظر إلى
فيلمه القصير
The Answer (1981)
الذي أعده للجامعة في العام الأول. فقد كان غاضبًا من أساتذته الذين يمجدون
فيلم Birth of a Nation الذي
أخرجه جريفت عام 1915، على اعتبار إنه إنجاز فني بديع ورائد في تاريخ فن
الصورة المتحركة، متجاهلين تمامًا مضمونه العنصري ضد الملونين.
كتب سبايك لي وأخرج فيلمًا يهاجم التحفة الكلاسيكية ويصطدم
مع المنظومة، تدور أحداثه حول كاتب سيناريو أسود عاطل عن العمل يوافق على
كتابة نسخة جديدة من فيلم “جريفيث”، لكنه يعجز عن مواصلة العمل على
المشروع، فيصبح عرضة لهجمات منظمة “كو كلوكس كلان” المتطرفة. بالتأكيد أدى
ذلك إلى استياء الجامعة، وكاد يُطرد منها لإهانته “عراب السينما”.
ومع ذلك، لم يتراجع سبايك لي عن صداميته التي تعد من أبرز
سماته الشخصية، واختار أن يكون فيلمه الروائي الأول She’s Gotta Have It 1986 جريئًا
في معالجته وأسلوبه.
يحكي الفيلم عن فتاة تواعد ثلاثة رجال في آن واحد، وترفض أن
يملي عليها أحدهم رأيه، أو يتحكم في اختياراتها، فهي ترغب في امتلاك سيطرة
كاملة على حياتها دون شعور بالخجل أو العار. كانت الفكرة تنتقد المجتمع
المتناقض في مواقفه بناءً على الجندر، وتستهجن الوصاية على النساء، ولكن
أهمية الفيلم تتجاوز ذلك، لأنه كان مغايرًا في تقديمه للسود، حيث يمنحهم
فرصة الظهور كأناس عاديين لديهم تجارب ولهم أحلام ورغبات مثل العرق الأبيض.
“لا
تكاد توجد أفلام عن السود،
وحينما تعثر على أفلام عنهم تكون إما موسيقية أو كوميدية… لا يتبادلون
القبلات فيها، ولا يظهرون أي جوانب رومانسية. لا يمتلكون منزل، أو زوجة، أو
أحبة. أعلم جيدًا أن السود يتمنون الذهاب إلى صالات السينما لمشاهدة أشخاص
مثلهم يتعانقون ويقبلون بعضهم بعضًا، ويتحابون”. هذا ما قاله سبايك في
حوار مطول بعد عرض الفيلم، وسعى إلى تحقيقه في أفلامه التالية.
في الفيلم احتلت مدينة بروكلين بشوارعها ومعمارها وشخوصها
مساحة في الصورة ذات اللونين الابيض والأسود، ورافقتها موسيقى الجاز صوت
الأسلاف الثائر، لأن كلاهما ساهم في تشكيل وجدان سبايك لي منذ الطفولة.
ورغم أن الفيلم يُظهر مدى تأثر لي بمخرجين مثل جودار وكوروساوا، فإن
الصحافة أطلقت عليه آنذاك لقب “وودي آلن الأسود”، بسبب اشتراكهما في هذين
العنصرين، لكنه انزعج من هذا التشبيه واعتبره انتقاصًا من قدرته على ترك
بصمة الخاصة.
رائد الموجة السوداء الجديدة
في نهاية عقد الثمانينيات، كان الأفرو أمريكان يعانون من
تجاهل إدارة رونالد ريجان لمطالبهم، وغضها الطرف عن الممارسات العنصرية
بحقهم. في هذا السياق، قدم سبايك لي فيلمه الثالث والأشهر في مسيرته Do The Right Thing (1989)
عن الجو العام المحتقن بين الأعراق نتيجة الاضطهاد وغياب العدالة.
تقع الأحداث في يوم حار وصاخب داخل حي ببروكلين غالبية
سكانه من السود، حيث تحدث مشاحنات بين مالك مطعم بيتزا إيطالي الأصل
وابنيه، وعدد من أفراد الحي، تنتهي بتدخل الشرطة وقتل شاب أسود بوحشية، ثم
حرق المطعم.
استلهم سبايك لي الفكرة من حادثة كارهية وقعت في شاطئ هاورد
راح ضحيتها شاب أسود عام 1986. وقد اتبع هذا الأسلوب في غالبية أفلامه
الروائية اللاحقة. فهو يعلم أن هناك تقاطع بين ماضي وحاضر العرق الأسود،
ويرى كافة الشواهد التي تؤكد أن التاريخ يعيد نفسه، لذا، نبش في الذكريات
الأليمة ليحكي عن وجوه منسية لم يأبه أحد لمصائرها، وأخرى طمست بطولاتها
كأنها لم تكن.
بعض وسائل الإعلام اعتبرت الفيلم مُحرضًا على العنف ودعت
إلى مقاطعته، لكن في الوقت نفسه، تلقى سبايك لي إشادات كثيرة تثمن رؤيته
المتفردة وتنسب إليه الفضل في إحداث تغييرات حقيقية في المشهد السينمائي.
كتب الناقد روجر إيبرت: “سبايك
لي هو المخرج الذي بشّر وصوله بالموجة السوداء الجديدة، مثلما أسس جودار
وتروفو الموجة الجديدة في فرنسا، وساهم فاسبيندر وهيرزوج في ولادة جديدة
للسينما الألمانية”. وذلك،
لأن بعد مرور عامين فقط على صدور الفيلم، شارك عدد من السينمائيين الأفرو
أمريكان في مهرجان كان، وكتبت الصحف العالمية: “القوة السوداء على
الريفييرا”.
لم يكتف سبايك لي بأن تكون أفلامه قاصرة على فضح العنصرية
تجاه السود. لأنه بالأساس مهتم بكيفية تمثيل بني عرقه على الشاشة. لذا، كان
عليه أن يرسم شخصيات سوداء البشرة ذات أبعاد درامية تتميز بالجاذبية
والأصالة، والأهم أن تكون معبرة عن الواقع، أي أنها ليست ملائكية أو
شيطانية.
تبدو مسألة الهوية بكافة صورها من الأفكار المُلحة التي
تشغل شخصيات سبايك لي وتبحث دومًا عن إجابات لها. ففي فيلمه الموسيقي School Daze (1988)
يسرد حكاية فريقين في مدرسة واحدة يتنازعان على علاقتهما بأفريقيا،
وموقفهما مما تمر به من أحداث. كما يحتد الخلاف بين الفتيات بسبب اختلاف
درجة لون البشرة السمراء، وطبيعة الشعر، على اعتبار أن هناك نمطُا معينًا
للشخص الأسود، ومن يخالفه يصبح مسخًا.
تظهر أيضًا في فيلم Jungle
Fever (1991) الذي
يتناول علاقة حب بين رجل أسود متزوج وامرأة بيضاء في بيئة تكره الآخر
وتزدريه، إذ يبحث الجميع عن هويتهم الضائعة نتيجة التزاوج بين الأعراق،
ويشعرون دومًا بأن هناك ما ينقصهم للانتماء إلى عرق محدد.
في مشهد المواجهة بين الزوج وزوجته، يتبين أن غضبها مضاعفًا
لكونه خانها مع امرأة بيضاء بالرغم من حساسية الأمر بالنسبة لها، فهي تتمتع
ببشرة فاتحة لأنها ثمرة علاقة بين رجل أبيض وامرأة سوداء، وقد عانت طوال
حياتها من السخرية والاضطهاد العرقي. تقول له: “أعتقد أنني لم أكن بيضاء
كفاية بالنسبة لك، كان عليك أن تجد امرأة من العرق الأبيض، في نهاية المطاف”.
يستمر في تتبع أزمة الهوية وأبعادها في أفلام أخرى مثلMalcolm X (1992) حيث
يربط بينها وبين انتزاع السود من قارتهم الأم واستقدامهم عبيدًا في أمريكا.
وفي Bambozeled (2000)
يحمل الإعلام مسؤولية تشويه هوية السود وخلق صور نمطية مهينة حولها، وفي
فيلم BlacKkKlansman (2018)
يركز على إخفائها لإعادة اكتشافها من جديد.
المخرج الحر والمشاهد اليقظ
لم يغفل سبايك لي يومًا الدور المؤثر الذي يلعبه في تاريخ
السينما الأفرو أمريكية، لكن روحه المتمردة المبدعة رفضت الانزلاق وراء
تكرار الحبكات والأفكار، وفضلت أن تسبح في فضاءات الصورة الواسعة تختبر
أنواع مختلفة وتجرب أشكال جديدة. لذلك، قدم مجموعة من الأفلام بعيدة عن
المواضيع التي اشتهر بمناقشتها طوال مسيرته.
فمثلاً، يعد فيلم 25th Hour الذي
صنعه بعد عام واحد فقط من أحداث 11 سبتمبر 2001، من أهم أفلامه، إذ يختار
لي ثلاثة أبطال من العرق الأبيض ليقدم فيلمًا يرثي فيه مدينته نيويورك
وسكانها بآثامهم وآلامهم. ويطرح الفيلم الكثير من الأسئلة حول مفهوم
العدالة وإمكانية المسامحة والنسيان، في إطار حبكة تدور حول آخر 24 ساعة
ينعم بها تاجر مخدرات مع صديقيه وحبيبته قبل أن يسلم نفسه ويقضي 7 سنوات في
السجن.
في أحد المشاهد، ينظر تاجر المخدرات إلى المرآة ويبدأ في سب
جميع الأعراق والأجناس بكلمات تحمل الكثير من الكراهية، وتذكرنا بمشهد
مشابه في فيلم
Do The Right Thing.
لي يحافظ دومًا على سمات محددة في أفلامه مهما اختلف النوع
السينمائي أو القصة التي يتناولها، أبرزها على الإطلاق، كسر
الجدار الرابع، لاختراق حالة الإيهام التي تستحوذ على المشاهد،
إذ يواجهه بالأفكار، ويدعوه للانتباه دومًا بعبارته الشهيرة
“Wake Up”
حتى يتفاعل مع ما يقدم على الشاشة.
يعتمد “لي” أيضًا في غالبية أعماله على المونولوجات الطويلة
التي تتحدث فيها الشخصيات عن نفسها وموقفها من الحياة، وتنتقد أوضاعًا
سياسية واجتماعية سيئة. كما يميل إلى استخدام أغانٍ تتميز بالإيقاع السريع
والكلمات التي لها وقع قوي على المشاهدين، أما خياراته البصرية، فلا يمكن
أن تخطئها عين لأنه معروف بألوانه المشعبة وكاميرته ذات الحركات الأيقونية
المفاجئة.
كل هذا يثبت أنه رجل صاحب فكر وفن استطاع أن يشتبك مع
الواقع وقضاياه الجدلية بكل جرأة، ويكون صوتًا لمجتمعات مهمشة لم ترغب
أمريكا في سماعها. وعلى الرغم من كونه في العقد السابع من عمره، فإن إنتاجه
السينمائي لا يزال غزيرًا وملهمًا، يحتفظ بطزاجة أفكاره وثوريته. |