برحيل سمير غانم عن أربعة وثمانين عامًا، تُطوى صفحة مهمة من دفتر الضحك
المصري.
بكل المقاييس ليس سهلًا أن تُضحك شعبًا بضاعته الضحك، بل وتتربع على عرش
مضحكيه قرابة نصف قرن.
سمير المولود في بني سويف في كانون الأول/ يناير عام 1937، ينتمي إلى جيل
تفتح وعيه مع ثورة يوليو، وبدأ حياته العملية مطلع الستينات. على عكس الجيل
السابق الذي بدأ في العصر الملكي وضم أسماء مثل فؤاد المهندس وعبد المنعم
مدبولي.
كان من المعتاد أن يُهيمن أحدهم على عصر الضحك، فنجيب الريحاني هيمن على
الثلث الأول من القرن العشرين، ثم سلّم الراية إلى إسماعيل يس، ثم جاء فؤاد
المهندس، ليختتم الربع الأخير من القرن العشرين بظاهرة عادل إمام.
ثلاثي أضواء المسرح
غانم الأكبر سنًا من إمام بثلاث سنوات، يتشابه معه في الانتماء الطبقي،
و"المديني" إلى حدٍ ما، فوالده كان شرطيًا، ما كان يؤهله لأن يصبح شرطيًا؛
لكنها مهنة قائمة على الانضباط، وسمير نموذج فذّ لـ "اللا انضباط"!
أيضًا، تخرّج الاثنان في كلية الزراعة، وبدأ بزوغهما بالقرب من ظاهرة فؤاد
المهندس، وإن كان عادل الأقرب إليه.
مع ذلك الفروق شاسعة بين التجربتين، لأن عادل تجاوز التبعية للمهندس خلال
سنوات قليلة، كما تجاوز الثنائية مع رفيق دربه سعيد صالح، وإن احتفظ
بالشراكة معه، واستمر مؤسسة قائمة بذاتها.
أما سمير فبدأ تحت لافتة جماعية "ثلاثي أضواء المسرح". ثلاثة أصدقاء لا
يفرق العمر بينهم سوى بضعة أشهر: الضيف أحمد، وسمير غانم، وجورج سيدهم.
بدأوا بتقديم أغنيات و"إسكتشات" مرحة، معبرة عن بهجة ما قبل النكسة.
كانوا أمام الكاميرا ثلاثة، لكن في الحقيقة هم خمسة، حيث وراء الكواليس
الشاعر الكبير حسين السيد مؤلفًا، ومكتشفهم محمد سالم مخرجًا.
ظل الحس الجماعي طاغيًا، فتعاونوا مع نجوم آخرين كما في فيلم "القاهرة في
الليل" الذي يعد باكورة إنتاج القطاع العام في مصر. وهو فيلم قائم على
الوفرة والتباهي. وفرة هائلة في الممثلين والمطربين منهم شادية وصباح ونجاة
وفايزة أحمد ومحمد قنديل، مع نادية لطفي وليلى طاهر وفؤاد المهندس.
أما التباهي، فلأنه ليس فيلمًا بالمعنى الدقيق، بل فقرات مصورة خفيفة الظل،
بين مجموعة أغنيات، تعكس صورة براقة لستينيات عبد الناصر، حيث يظهر النيل
وتغني الفلاحة، وتعزف فرقة الموسيقات العسكرية، ويربط بين كل هذا وصلة مرحة
يؤديها "ثلاثي أضواء المسرح".
الكوميديا... والسلطة
ولأنّ الكوميديا أقرب إلى الناس، فليس غريبًا توظيف السلطة لها، فمن قبلهم
قدم إسماعيل يس سلسلة أفلام في الجيش والأسطول. وعلى المنوال نفسه سار
الثلاثي بطريقتهم.
عقب النكسة، جنحوا نحو أكبر قدر من الضحك، لمداواة الانكسار. هل جاء الأمر
بتكليف رسمي؟ هل شعر ثلاثتهم أن هذا أفضل علاج لصدمة الهزيمة؟
قدّم الثلاثي، مع مخرجهم وشريكهم الرابع محمد سالم، مسرحية "حواديت" وهي
كوميديا اجتماعية من فصلين، تتعامل مع الواقع وكأنه لم تحدث نكسة.
ثم في عام 1969 اخترع الثلاثي مع سالم وحسين السيد "فوازير رمضان"
التلفزيونية، والتي أصبحت ظاهرة عربية منذ أكثر من نصف قرن.
هم أيضًا أصبحوا ظاهرة كوميدية، يردد الناس أغانيهم و"أفيهاتهم"، وقدموا
أعمالًا كبطولة جماعية خالصة لهم، أو مشاركة في أعمال آخرين.
كما تميزوا بالعدالة الشديدة في توزيع الأدوار بينهم، وتبادل الموتيفات
ذاتها، مثل ارتداء ملابس امرأة. ولم ينل أحد منهم فرصة أكبر من الآخر، وإن
تميز سمير بنظارة المثقفين ذات الإطار الأسود، ورأسه نصف الأصلع (قبل أن
يتخذ باروكة ثابتة، مع شارب كث).
في عز النجاح، مات في نيسان/ أبريل عام 1970 الضيف أحمد، وبعده بشهور مات
عبد الناصر. لتنتهي ظاهرة "ثلاثي أضواء المسرح" مع نهاية عصر.
عِقد الثنائي
احتفظ الثنائي سمير وجورج بالشراكة الفنية والتجارية بينهما، لأكثر من عشر
سنوات، وكان من أبرز ما قدماه مسرحيات "موسيكا في الحي الشرقي" 1971،
و"جوليو ورومييت"، و"المتزوجون" 1976، و"أهلا يا دكتور" 1981.
ورغم أن ظاهرة عادل إمام واصلت الصعود خلال عقدي السبعينات والثمانينات،
إلا أنّ فضاء السينما والمسرح اتسع آنذاك للجميع، حيث استمر المهندس، وظهر
محمد صبحي، واستمر أيضًا نجاح جورج وسمير.
لكنّ هناك شيئاً من العفوية والبهجة غاب بغياب الضيف أحمد. كما ضعفت شراكة
الثنائي شيئًا فشيئًا، خصوصًا مع انشغالهما فرديًا في أعمال كثيرة، تقوم
معظمها على بطولات جماعية، أو ما سُمي آنذاك بـ "أفلام المقاولات" المواكبة
للانفتاح الساداتي. تقريبًا كان سمير غانم وسعيد صالح أبرز اسمين في هذه
النوعية من الأفلام.
عام 1983 انتهت شراكة الثنائي، وبدأ كل منهما في تقديم مسرحيات خاصة به.
كان جورج الأسوأ حظًا بالانفصال حيث تعرض مسرح "الهوسابير" للحريق، ثم رهنه
شقيقه مدير أعماله من دون علمه، وقبل أن يصل إلى الستين أصيب بمتاعب في
القلب، ثم جلطة أقعدته على فراش المرض قرابة ربع قرن، حتى توفاه الله قبل
عام.
بطولات فردية
أما سمير فكان أكثر الثلاثي حظًا، استمر في البطولات الجماعية، وفي أفلام
المقاولات، منها: "4ـ 2ـ 4"، و"تجيبها كده تجليها كده هي كده" 1982، و"يا
رب ولد" 1984، وظهر بأدوار شرفية بسيطة جدًا مثل مسلسل "بكيزة وزغلول"
1987. كما قدم أعمالًا من بطولته الفردية مثل "حسن بيه الغلبان" 1982،
"غريب ولد عجيب" 1983، و"نهاية رجل تزوج" 1984. وفي هذا العام على سبيل
المثل قدم أكثر من عشرة أعمال.
ومثلما بدأ ضمن فريق جماعي، استمرّ أقرب الى منطق البطولة الجماعية، بغض
النظر عن المستوى الفني للعمل. ولم يجد غضاضة في الظهور كضيف شرف مع
زملائه، ومع نجوم الجيل الجديد مثل أشرف عبد الباقي وأحمد مكي في "الكبير
قوي".
لم يتهم بوضع "اسمه" داخل "برواز" معين، ولا بأي قيمة فنية للعمل، ما دام
سيقوم بما يعرفه جيدًا وهو إضحاك الناس.
مدرسة المشاغبين
كان عادل إمام يصنع ظاهرته بذكاء ودأب، وقبل سمير المشاركة معه في أفلام
أقرب الى البطولة الجماعية، وأخرى تُعطي أفضلية لاسم إمام، منها: "المهم
الحب" 1974، "البعض يذهب للمأذون مرتين" 1978، "أذكياء لكن أغبياء" 1980،
و"رمضان فوق البركان" 1985.
المفارقة أن سمير الذي لا يجد حرجًا (رغم نجوميته) في المشاركة في أي
أفلام، ابتعد لسنوات طويلة عن عادل إمام، قبل أن يظهر مجددًا ضيف شرف في
مسلسله "عوالم خفية" عام 2018.
ثمة مفارقة أخرى أن سمير شارك في فيلم "مدرسة المشاغبين" عام 1973، ولعب
دور "المدرس علام"، وفي العام نفسه قدم عادل إمام المسرحية.
ربما يشير ذلك إلى منافسة بين الاثنين، جعلتهما ينطلقان في مدارين مغايرين.
صحيح أن مسرحيات إمام ظلت تستقطب الجمهور لسنوات، لكنّ هذا لا يمنع أن مسرح
سمير - منفردًا - تمتّع برواج تجاري في أعمال مثل: "فارس وبني خيبان"،
"أخويا هايص وأنا لايص"، و"أنا والنظام وهواك".
كما نجح في مسلسلات كوميدية مثل "حكاية ميزو" (1977) تأليف لينين الرملي،
ثم عاد مرة أخرى إلى الفوازير منفردًا بشخصية "فطوطة" عام 1983، وما زال
أفضل ممثل رجل نافس نيللي وشريهان.
نجاحه في الفوازير أكبر دليل على براعته الاستعراضية والغنائية، وليس خفة
الظل فحسب، وهو جانب يتفوق فيه على عادل إمام نفسه.
لكنّ غزارة إنتاجه الذي يتجاوز ثلاثمئة عمل، تشير إلى افتقاده فضيلة
الانتقاء والاهتمام بكيفية تقديم نفسه، كأنه يمارس الفن بمنطق التسلية
والإضحاك فحسب.
لذلك يمكن بسهولة استبعاد معظم تراثه لو حكمنا معيار الجودة. حتى فكرة
التمثيل لا تستغرقه، فهو يعي جيدًا أنه "مضحكاتي" لا "مشخصاتي". التزم في
جلّ أدواره بالباروكة والشارب، والأداء الخاص به.
مع هذه المزاجية المرحة كان مولعًا بالارتجال والخروج على النص، وتقديم
"الضحك" كحالة عفوية حية. وفي الوقت نفسه تهرب من أي تنظير، أو تحميل
أعماله لرسائل أخلاقية أو سياسية ثقيلة، كما فعل محمد صبحي كثيرًا، وعادل
إمام أحيانًا.
ومن أعماله التي اشتغلت على إسقاطات سياسية مباشرة "جحا يحكم المدينة"،
ولعلّ السبب تعاونه مع الكاتب الراحل وحيد حامد.
وفي معظم مسرحه وأفلامه انشغل بالمفارقات المتعلقة بالحب والزواج والصراع
الطبقي، والحضور الإيروسي للمرأة، هذا الحضور الذي سخر منه هو نفسه في
مسرحية "أخويا هايص وأنا لايص" عندما استعار صدر امرأة مع احتفاظه بشاربه
العريض! عمومًا كان سمير مولعًا بالإكسسوارات الغريبة والمبالغ فيها مثل
أدوات المطبخ في "المتزوجون".
وأكثر لقب يليق به هو "ملك الهلس"، ملك الضحك غير المحمول على أي معنى آخر.
فهو يقدم لنا في كل أدواره سمير غانم أكثر مما يقدم لنا أي شخصية أخرى. |