ماضي الحب والحرب يتصدر بجدارة مهرجان برلين
بداية واعدة في اليوم الأول منه
هوليوود: محمد رُضا
أفلام اليوم الأول من الدورة 71 من مهرجان برلين السينمائي،
الذي باشر أعماله في الأول من هذا الشهر، تذكير جيد بما كان الحال عليه في
الدورات السابقة. أفلام جيدة في المسابقة وخارجها وبعض المتوسط في النجاح
الفني، إنما المهم في مضمونه أو في أسلوب عمله.
لا شيء يختلف مطلقاً باستثناء أن هذه الأفلام كلها تفتقد
صالاتها المعتادة. ما يشاهده النقاد والصحافيون من دورة هذا العام هو
الأفلام معروضة كـ«لينكات» تطرق على أحدها فيطلع لك الفيلم لتراه.
المسألة تبدو بسيطة، لكن مهما كان حجم الشاشة التي في
البيت، فإنها لا تُساوي حجم وقيمة الشاشة العريضة في أي من الصالات التي
كانت هذه الأفلام تُعرض فيها حتى العام الماضي.
وحين يأتي الأمر إلى تقنيات العرض، فإن المُتاح هو درجات
دنيا من إتقان عملية العرض. ما يصلك هو الجيل الثاني أو الثالث بعد تطويع
الفيلم للإنترنت. التفاصيل واضحة في المشاهد النهارية. والليلية فعليك أن
تضبط جهاز المونيتور المتصل بالكومبيوتر لكي ترى تلك التفاصيل. أما العرض
على الكومبيوتر نفسه فيمثل نحو 70 في المائة فقط من القيمة التقنية التي
صاحبت صنع الفيلم وتجهيزه.
مهرجان برلين في العام الماضي ارتأى تحدي بداية انتشار
«كورونا»، وتمت بالفعل إقامته بالصورة التي يجب أن يُقام بها، والتي اعتاد
عليها: أفلام + شاشة كبيرة + جمهور. ما تبقى هذا العام هو الأفلام فقط. حتى
عدد الأيام التي استغرقتها الدورات الماضية قُلصت الآن إلى خمسة.
حتى في تلك الدورة الفعلية الأخيرة، عندما كان الوباء قد
بدأ بالانتشار وعدد مستخدمي الكمامات ما زال محدوداً للغاية، بلغ عدد الذين
قضوا أياماً في الفنادق في فترة المهرجان (الأسبوع الأخير من فبراير/شباط)
34 مليوناً و500 ألف ضيف، حسب إحصائية «جمعية فنادق ومطاعم برلين». بعد
انتهاء المهرجان نزل الإقبال 77 درجة في المائة وطوال باقي أشهر سنة 2020
لم يزد عدد الوافدين للمدينة 12 مليون زائر.
لكن ما يشفع للمهرجان، لجانب إنه ليس من نشر الوباء، هو أنه
رفض أن يطوي جناحيه، ويعتبر أن سنة 2021 كما لو أنها لم تكن. واختار
الاستمرار بدوراته. أكثر من 170 فيلماً محشوراً في خمسة أيام ليس بالأمر
الهين.
ذكريات حب
في عداد اليوم الأول تمت مشاهدة خمسة أفلام، أولها «دفاتر
المرايا» (عنوانه التجاري المعتمد هو «صندوق الذكريات») للبنانيين جوانا
حاجي توما وخليل جريج. دراما عن الحاضر والماضي حين يجدان نفسيهما مضطرين
للعيش معاً داخل واقع وذكريات شخص واحد. حاد في صورته ومتقن في صوته وجيد
الاختيار بصرياً فيما يعرضه من مشاهد، وكيف، ويميل إلى إطلاق طاقة جديدة لم
يعمد لها من قبل المخرجين المتزوجين اللذين أمّا السينما منذ أكثر من 25
سنة.
«دفاتر
المرايا» يبدأ في مونتريال، كندا. ثلاث نساء (الجدة، الأم، الابنة) متحابات
في مطلع الفيلم. الجدة (كليمانس صباغ) والأم (ريم تركي) مرتبطتان بالهجرة
القسرية من لبنان أثناء الحرب الأهلية. الفتاة لا تعرف الكثير عن تلك الحرب
ولا عن أمها خلال الفترة. عندما يصل صندوق الأسرار إلى المنزل يحدث هزة في
العلاقات بين الثلاثة، تقرر الجدة خلالها ترك منزل ابنتها عائدة إلى بيتها
في المدينة ذاتها.
في مشهد مبكر يصل الصندوق بالبريد وعليه عنوان المرسل من
فرنسا. إنها صديقة للأم اسمها ليزا التي هاجرت وأهلها إلى فرنسا عندما
اشتدت وطأة الحرب الأهلية. ليزا بعثت بالصندوق، الذي يحمل رسائل وأفلاماً
وأشرطة تسجيل وصوراً ووثائق تخصها. بعد كل هذه السنوات يعود الصندوق إليها.
ليزا ماتت بحادثة سيارة وعائلتها لم تر بداً من إرسال الصندوق إلى الأم
مايا في مونتريال.
ابنتها أليكس فضولية. هي لا تعرف شيئاً عن الحرب ولا عن
ماضي الأم فتسرق محتويات الصندوق وتطلع عليها وما تراه وتسمعه هو ما نراه
ونسمعه عن أمها مايا خلال تلك الحرب. هي أحبت، في وطيس المعارك، شاباً من
طائفة أخرى اسمه رجا (حسان عقيل) حين كانت فتاة صبية (تؤديها في تلك الفترة
منال عيسى). أهلها بالطبع حذروها لكنها، وبالطبع أيضاً، لم تكترث. هذا إلى
أن صُدمت بانتماء رجا إلى فصيل مقاتل.
قبل هذا الانتماء وبعده، الفيلم هو قصة ذكريات منسابة من
فترة كان يجب أن تكون طبيعية تمر بها كل فتاة وشاب في مقتبل العمر. ذكريات
حب لم يكتمل. غاب رجا طويلاً فاعتقد الجميع بأنه مات؛ لكنه في مراسيم جنازة
والد ميا وجدته كان حاضراً. وبحضوره سد الفراغ الذي تبع غيابه في حياتها
ولو أن ميا وأمها قررتا مغادرة لبنان.
حب وحرب
هناك أفلام لبنانية عديدة تناولت الحرب الأهلية. في الواقع
معظم ما أُنتج من أفلام لبنانية، روائية أو غير روائية، كان عن تلك الحرب
أو تبعاتها الحاضرة. لكن «دفاتر مايا» مختلف بالطريقة التي اختارها الزوجان
لمعالجة حكاية رومانسية تتداخل فيها وقائع اليوم وصفحات الهروب من الأمس من
ثم اللقاء المتجدد به عبر مشاهد تنتقل بنا إلى ذلك الماضي. بعض ما نراه،
حسب ما أدلت به المخرجة حاجي توما، نابع من ذكرياتها، لكن التوليفة التي
تعمدت وزوجها إليها لا تترك المجال للقول بأن هذا الفيلم هو سيرة حياة أحد،
بما فيها سيرة حياتها هي.
يعمد المخرجان لتفعيل طاقة كبيرة لعملهما. في الأساس عملهما
مكتوب جيداً ومشغول فيما بعد على نحو صادق ومخلص في رغبة الفيلم التمتع بكل
ما يستطيع التمتع به من ثراء المشاهد والأحاسيس المعبر عنها بالصور وليس
فقط بالكلمات. هناك ما هو مبتكر في صياغة بعض المشاهد (مايا ورجا يركض كل
منهما بلقطتين منفصلتين)Split
Screen) )
تجاه بعضهما البعض ولا يصلان. خلفهما في اللقطتين بيروت مهدمة ومنهوبة
الحاضر والمستقبل.
بيروت هي ثقل مهم في هذا الفيلم - الذاكرة. من خلال ذكريات
أو دفاتر مايا تطالعنا المدينة وما شهدته من معارك. تتحرك مشاهد الماضي من
الصور الثابتة. الشخصيات تتحدث بعد التحديق بها حين تطالع أليكس أو والدتها
بالصور المُتاحة. والمشاهد شديدة الارتباط بحيوية الحياة قبل وفي مطلع
سنوات الحياة. هناك موسيقى وشباب ورقص وحيوية عيش. هذا كله ينضوي تباعاً
عندما تشتد القذائف. يموت الأب. يموت الشقيق وتجد العائلة نفسها عارية أمام
الخطر كشأن كل الأبرياء في تلك الآونة.
يتحاشى المخرجان انتقاد أي فريق. لا يمكن فعل ذلك والأمل
بفيلم يتجاوز المحن أو يرمي نظرة ممعنة عليها. رؤية، وبالتالي معالجة خليل
جريج وجوانا حاجي توما مزدوجة: في حين أنهما يريدان إبلاغ قصة حب على خلفية
حرب مكروهة، لا يسعيان مطلقاً للتساهل بأمر الحلول الفنية التي يتطرقان
إليها. لجانب المشاهد المبتكرة آنفاً، هناك سلاسة الانتقال والربط بين
الماضي والحاضر. وهناك تآلف بين مقاسات التصوير المختلفة (35 مم و16 مم
بالإضافة إلى ما يبدو أنه صُور كوثائق بنظام سوبر 8).
كفيلم مسابقة في مهرجان أول، سيبقى الفيلم طويلاً في بال
لجنة التحكيم بلا ريب. سيعود أعضاء اللجنة إليه في مناقشاتهم وسيجدون أنه
من الصعب تجاهله حين التصويت. |