في هوليوود لا يمكنك الاستناد على جودة فنّك من أجل البقاء
على قيد الحياة
حسام عاصي/ لوس أنجليس – «القدس العربي»:
بعد أن أُعلن عن هبوط حاد في نسبة مشاهدة حفل توزيع جوائز
الأوسكار الأسبوع الماضي، إذ تدهورت إلى ما يقارب عشرة ملايين مشاهد وهي
الأدنى في تاريخ الأوسكار، تسابق المعلقون والخبراء في طرح آرائهم عبر
وسائل الإعلام حول أسباب ذلك التراجع الحاد؛ منهم من لام جائحة كوفيد 19،
التي حرمت الأفلام الضخمة من الانطلاق في دور العرض ما حال دون تأهيلها
للمنافسة وحضور نجومها على البساط الأحمر، آخرون لم يستغربوا الهبوط ووصفوه
بأنه استمرارية لتلاشي اهتمام الجماهير بجوائز الأوسكار، الذي بدأ منذ أكثر
عقدين، وذلك لأنها صارت تكرّم أفلاماً صغيرة لم تشاهدها الجماهير في دور
العرض، إذ بلغ دخل جميع الأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم هذا العام 30
مليون دولار، بينما حصد الفيلم الفائز «نومادلاند» ما يقارب 6 ملايين دولار
في شباك التذاكر وهو أدنى دخل حققه فيلم فائز بالأوسكار. فكيف تفوز هذه
الأفلام الصغيرة بجوائز الأوسكار؟
في العقود الستة الأولى من تأسيس جوائز الأوسكار، هيمنت
عليها أفلام استوديوهات هوليوود، التي كانت من بطولة أبرز نجومها، وتتصدر
دخل شباك تذاكر دور العرض. لكن منذ أوائل التسعينيات، بدأت أفلام مستقلة،
كانت تعرض في المهرجانات السينمائية ودور العرض الفنية وحسب، تظهر في
ترشيحات الأوسكار وتفوز ببعض فئاتها مثل «قدمي اليسرى» و»جنس وأكاذيب وشريط
فيديو» و»لعبة البكاء» وذلك بفضل حملات جوائز لا سابق لها قام بها منتجها
وموزعها هارفي واينستين.
انهيار امبراطورية واينستين
عام 1979، أسس الأخوان هارفي وبوب واينستين شركة «ميراماكس»
لتوزيع أفلام فنية من إنتاج شركات مستقلة، كانت تختفي بعد عرضها في
المهرجانات السينمائية لعدم قدرتها على منافسة أفلام هوليوود المهيمنة على
دور العرض آنذاك، بفضل الحملات الدعائية الضخمة التي كانت تستثمر فيها
الاستوديوهات الكبرى.
لم يملك واينستين ميزانيات الاستوديوهات الضخمة، ولم يكن بإمكانه أن
ينافسها في حلبة الحملات الدعائية، التي كانت تصل إلى جماهير عريضة في كل
أرجاء العالم من خلال الصحف الكبرى ووسائل الإعلام الأخرى كالتلفزيون
والراديو. فقرر أن يواجهها في معارك الجوائز الأقل تكلفة، لأنها تتطلب
استهداف بضعة آلاف من المصوتين وحسب، وهكذا عندما يترشح فيلم ما لجائزة
مهمة أو يفوز بها، يثير اهتمام الإعلام ويصل الى الجماهير العالمية.
«لن تنجح الأفلام إلا إذا أشيد بها» قال لي واينستين في
مقابلة أجريتها معه عام 2015. «بحلول وقت عرض الفيلم في دور السينما، يكون
قد فاز في مهرجان أو رُشح لجوائز الغولدن غلوب وربما الأوسكار، وبالتالي
إنه مجرد تضافر لتلك الإضافات التي تدفع أحدهم أخيراً إلى دور العرض. فعلى
سبيل المثال لو لم يحصل فيلم «قدمي اليسرى» على الإشادة والترشيحات الخمسة
للأوسكار، ولو لم يفز دانيل داي لويس لم يكن ليوجد فيلم أو نجاح ولم يكن
هناك داع لصنع فيلم آخر مثله. فكل فيلم فائز يمهد الطريق للمرحلة التالية.»
في حملة جوائز الفيلم الإيرلندي «قدمي اليسرى» أقنع
واينستين طاقم إنتاج الفيلم وممثليه بالانتقال من إيرلندا الى لوس أنجليس
خلال موسم الجوائز، ورتب لهم حفلات ليلية صاخبة استضاف فيها أيضاً مصوتي
الجوائز والنقاد للتعرف عليهم. «كان نموذج عمله هو الحصول على جوائز بأي
ثمن، فهو لم يملك خياراً آخر» قال لي طوني أنجيلوتي، الذي وظفه واينستين
عام 1991 للعمل على حملاته الترويجية. «أتذكر أنه أراني فيلم بيلي بوب
ثورتون «سلينغ بليد» الذي خسر تجارياً بعد انطلاقه، وقال لي: أريدك أن تعيش
مع هذا الفيلم للأشهر الستة المقبلة وتركز عليه، ففاز بجائزة الأوسكار.
الأمر نفسه مع فيلم «ساعي البريد» الإيطالي الذي فشل في الولايات المتحدة،
لكن بعد ثمانية أشهر حصلنا على أوسكار عنه.»
واينستين أراد أن يفوز بأهم أوسكار وهي أفضل فيلم، وكان
متأكداً أنه سيحصل عليها عن تحفة كوينتين تارانتينو «بالب فيكشن» لكن
هوليوود، التي كانت أيضاً تسيطر على أكاديمية علوم وفنون الصور المتحركة،
حرمته منها ومنحتها لفيلم استوديو «باراماونت» (فورست غامب» عام 1995 فقرر
موزع الأفلام المستقل أن ينتقم منها.
وعندما كان يروج لـ «المريض الإنكليزي» عام 1997 كسر قواعد
حملات الأوسكار، إذ أرسل الفيلم على شرائط فيديو إلى بيوت المصوتين ثم اتصل
بهم جميعا للتأكد من مشاهدتهم له، ودعا مصوتي الجوائز لحفلات صاخبة للتعرف
على طاقم الفيلم وغمرهم بالهدايا، ما أسفر عن فوز الفيلم بتسعة جوائز
أوسكار من ضمنها أفضل فيلم. «الأمر الأهم في حملات الأوسكار هو أن يشاهد
المصوتون الفيلم» يقول واينستين. «ببساطة، إذا لم تشاهد الفيلم فلن تصوت
له، وبالتالي علي أن أجعلك تشاهد فيلمي بطريقة ما، وهذا يتطلب قدراً هائلا
من الجهد.»
«كان الأمر آنذاك أشبه بالغرب المتوحش فلم تكن «هناك قواعد
تكسر» يضيف أنجيلوتي. «كان يجرب أمراً وإذا قيل له إنه لا يستطيع فعله،
يتوقف. الأمر لم يكن عدائياً في السبعينيات والثمانينيات كما أصبح عليه في
التسعينيات وحتى اليوم، فأفلام الاستوديوهات كانت معروفة ولم تكن في حاجة
لحملات جوائز، كما أن الاستديوهات كانت تملك المال الكافي للترويج لأفلامها
عند إطلاقها في دور العرض». فوز «المريض الانكليزي» الهائل في الأوسكار دفع
واينستين لخوض معركة الجوائز ضد تحفة ملك هوليوود ستيفن سبيلبرغ «إنقاذ
الجندي رايان» بفيلمه الهزلي «شكسبير عاشقاً» مستخدماً نوعاً جديداً من
الحملات، وهي الحملة السلبية، التي كثيراً ما استخدمها معي كأحد المصوتين
لجوائز الغولدن غلوب؛ فعندما كنت أمدح فيلماً من إنتاج استوديو آخر أمامه،
كان يقترب مني ويهمس في أذني أمراً سلبياً عن ذلك الفيلم، ويحثني على
مشاهدة فيلمه والانتباه لبعض عناصره المميزة، أو يحكي لي قصة مثيرة عن مخرج
الفيلم أو أحد ممثليه.
فيلم «إنقاذ الجندي رايان» تفوق على «شكسبير عاشقاً» في كل
المستويات، لكن واينستين أثار إشاعات بأنه ليس إلا معركة دموية مثيرة في
الحرب العالمية الثانية، بينما روّج بأن فيلمه «شكسبير عاشقاً» الذي يتمحور
حول وقوع وليم شكسبير بحب ممثلة في مسرحيته، يكرم الأدب والمسرح وفن
التمثيل، ما أقنع الكتاب والممثلين، الذي يشكلون أغلبية مصوتي الأوسكار
بالتصويت له، وهو ما نتج عن فوزه بست جوائز من ضمنها أفضل فيلم.
إنتصار «شكسبير عاشقاً» على «إنقاذ الجندي رايان» صدم
هوليوود وصناعة الأفلام. فقررت الإستوديوهات أن تسلك نهج حملات واينستين من
أجل التصدي له، وصارت تقتنص موظفيه ومساعديه للعمل لحسابها وإدارة حملاتها.
نموذج واينستين تستند عليه الآن كل شركات الأفلام المستقلة مثل «فوكس
سيرتشرلايت» التي أنتجت فيلم «نومادلاند» ويعتمد على لفت انتباه الإعلام
وتنبيه صناع الأفلام بأنهم إذا جلبوا أفلامهم إلى هذه الشركات سيحصلون على
حملة أوسكار، و»قد نجح ذلك» يقول أنجيلوتي، الذي بات مدير حملات جوائز
استوديوهات «يونيفرسال» و«ديزني انيميشن» و«بيكسار» وحقق لها العديد من
الجوائز من ضمنها جوائز أوسكار أفضل الأفلام مثل «الكتاب الأخضر» و «قصة
اللعبة 3 و 4» و«شجاع» و «فوق». آخرها كان فيلم بيكسار «روح» الذي فاز
بأوسكار أفضل فيلم رسوم متحركة الأسبوع الماضي.
أنجيلوتي يؤكد أنه لا يمكن لفيلم أن يُرشح أو يفوز بجائزة
أوسكار بدون حملة ترويج، فقبل بداية موسم الجوائز، يجلس مع الاستوديوهات
لاختيار الأفلام ذات الحظوظ الأوفر في الترشح أو الفوز بالجائزة، بناء على
عناصرها التي قد تجذب مصوتي الجوائز. ثم يتفقون على سرد مثير وجذاب لمصوتي
«الغولدن غلوب» و»البافتا» والنقابات المهنية والأوسكار.
«بدلاً من محاولة بيع الفيلم لمليار شخص على هذا الكوكب،
نحاول بيعه لبضعة آلاف من المصوتين» يقول أنجيلوتي. «عليك أن تعرف ما الذي
يروق لهم بشأن الفيلم. ثم تصمم الإعلانات والسرديات التحريرية وتقدمها
للصحافة، وتنتج مواد جديدة، وتجند خدمات منتجي ومخرجي وممثلي الفيلم لنقل
تلك الرسالة. وعادة يكون ذلك مجرد شكل مغاير لحملة إطلاق الفيلم الترويجية
وأحيانا يكون مختلفاً تماماً.»
الجوائز لا تركز على القيمة الفنية للأفلام
قلما تركز حملات الجوائز على القيمة الفنية للأفلام
وأحياناً تتجاهل مضمونها عندما تشعر أن الفيلم المنافس يتفوق عليها، فتبحث
عن عناصر أخرى تساهم في جذب اهتمام المصوتين؛ مثل عرق أو جنس صناع الفيلم
أو صلة موضوعه مع الأحداث السياسية والاجتماعية المعاصرة.
نهاية عام 2009 كان فيلم جيمس كاميرون «أفاتار» يتصدر دخل
شباك التذاكر وتكهنات الفوز بجوائز الأوسكار بفضل إبداعه الفني وتحذيره من
آثار تدمير البيئة، لهذا لم تحاول حملة فيلم زوجته السابقة كاثرين بيغلو
«خزانة الألم» الذي تجاهلته جماهير السينما في دور العرض، مواجهته على
المستوى الفني والمضموني، بل سلطت الضوء على كون بيغلو امرأة تصنع فيلم
«ماتشو» عن مفككي القنابل في حرب العراق في صناعة أفلام يهيمن عليها
الرجال.
وهكذا تحولت المعركة بين الفيلمين إلى منافسة بين رجل
وزوجته، فاختار مصوتو الأوسكار الزوجة وصنعوا تاريخاً، إذ باتت بيغلو أول
امرأة تفوز بجائزة أفضل إخراج وأفضل فيلم.
وفي عام 2017، كان فوز الفيلم الموسيقي «لا لا لاند»
بأوسكار أفضل فيلم مؤكداً، إلا أن حملته تدهورت إثر تسلُمَ دونالد ترامب
رئاسة الولايات المتحدة ذلك العام، وتحريضه ضد الأقليات العرقية، فصار
يواجه حملات مضادة اتهمته بالعنصرية لاستخدامه شخصيات بيضاء البشرة لطرح
رواية عن موسيقى الجاز، ما دفع مصوتي الأوسكار إلى منح جائزة أفضل فيلم لـ
«ضوء القمر» وهو أول فيلم جميع طاقم ممثليه من السود يحقق ذلك.
«هوليوود تبنت تكتيكات حملات السياسيين في واشنطن» يضحك
أنجيلوتي.»بعضها يكون قبيحاً إلا أن جميع الاستديوهات تنكر تورطها في
الحملات السلبية وترفض الاقتراب منها. لكن واينستين لم يخجل من استخدامها
وكان معروفاً بأنه يقف وراءها.»
رغم محاولة الأكاديمية كبح واينستين من خلال فرض قيود على
حملاته إلا أنه استمر في حصد جوائز أوسكار، محققاً 81 منها فضلاً عن 341
ترشيحاً، إلى أن نُبذ من هوليوود عام 2017 بعد اتهامه بالتحرش الجنسي. هذه
الأيام، معظم حملات الجوائز يقودها تلاميذه، الذين ما زالوا يتبعون نهجه.
«في هوليوود لا يمكنك الاستناد على جودة فنك من أجل البقاء
على قيد الحياة» يقول أنجيلوتي. «إذا أردت أن تحقق شيئاً أو أن تفوز
بجائزة، فعليك أن تطلبه وإلا لم يعرك أحد إهتماماً.»
إذا مثلها مثل هوليوود، جوائز الأوسكار تجارة، تستثمر
الاستوديوهات فيها ملايين الدولارات من أجل إثارة اهتمام الجماهير بأفلامها
ورفع دخلها في شباك التذاكر أو على منصات البث الإلكتروني أو رفع مستوى
أسعار أسهمها في البورصة. |