“أنا
في المكان الصح، أنا مع الناس، الناس اللي بقى لها سنين ماقالتش آه”.. بهذه
الجملة على لسان شخصية “العميد مجدي” يختم وحيد حامد حوار فيلم “النوم في
العسل”، لكن قد تكون هذه الجملة هي أصدق ما يعبر عن الكاتب وحيد حامد نفسه،
فهو المؤلف الذي اختار عادة أن يتخذ صف الشعب والمهمشين في كتاباته العظيمة.
من الصعب التعامل مع رحيل السيناريست الاستثنائي وحيد حامد،
على مدار مسيرته الممتدة لقرابة 50 عامًا من الإبداع في مجال التأليف.. جمع
بأسلوب نادر بين كتابة شديدة التميز للمسرح والسينما والمسلسلات
التليفزيونية والإذاعية أيضًا، ليترك الكثير من العلامات التي لا تنسى،
العديد من الشخصيات، وعبارات صارت لها قوة الأمثال الشعبية.
من الصعب تخيل المشهد السينمائي دون هذا الأستاذ الفريد من
نوعه، والذي يمكن أن نعده دون شك أحد أهم كتاب السيناريو في تاريخ السينما،
ليست السينما المصرية وحدها بل في تاريخ السينما عمومًا.
ليس من المعتاد أن نجد اسم كاتب السيناريو محفوظًا
ومتداولاً بين الجمهور.. عادة يحصل المخرجون والممثلون على مساحة أكبر من
النجومية والشعبية بين الجمهور، لكن أعمال وحيد حامد نجحت في تجاوز هذا
الحاجز الصعب، وصارت تُنسب إليه كما تُنسب إلى مخرجيها.
“أنا
مش عايز أتهان، متهيأ لي دي مطالب لا يمكن أتعاقب عليها”
فيلم: الإرهاب والكباب
من الصعب ألا يجد المشاهد نفسه في واحدة أو أكثر من شخصيات
وحيد حامد، هذه الشخصيات التي يمكن أن نصفها بـ”العادية”.. مواطنون
تقليديون، التجسيد الأفضل لنقيض البطل.. ما الذي يلفت النظر في شخصية أحمد
فتح الباب، بطل “الإرهاب والكباب”؟ لا شيء، لا شيء على الإطلاق، لا ملابسه
ولا لغته ولا رغباته ولا حتى بقية أسرته.
اختيار هذه الشخصيات لتجسيدها على الورق ثم على الشاشة ليس
بالأمر السهل بالتأكيد، الشخصية اللامعة ذات المميزات الخاصة هي التي تلفت
نظر المشاهد عادة، بل قد يرى البعض أن السينما تمثل فرصة للهروب من الواقع،
فلماذا يذهب المشاهد ليرى نفسه على الشاشة في النهاية؟
لكن وحيد حامد كان يعرف كيف يصنع من كل شخصية من هؤلاء حالة
مؤثرة لا تُنسى.. يمكن التوقف عند مسلسل “بدون ذكر أسماء” تحديدًا لرصد هذه
الحالة.. فغالبية شخصيات المسلسل كانت من المهمشين، فقراء الحال، بل أقل
أحيانًا، بلا طموحات أو أحلام كبيرة..
يبدو أن هذه المساحة الضيقة هي ما يحب أن يُبدع من خلاله
وحيد حامد، كتابة المساحات الصغيرة التي تقاس فيها العبقرية بحسن التصرف
وإبداعه، فنجده يمنح كل شخصية أبعادها بالكامل، النفسية والاجتماعية
والشكلية، ثم نشاهد كيف يحول الأحلام الضئيلة لهؤلاء الأشخاص إلى حدث كبير،
فمع شخص مثل رجب الفرخ في “بدون ذكر أسماء” تصير مواصلة الحياة ليوم آخر
وفرض السيطرة/البلطجة على منطقته، هي أقصى ما يطمح إليه، لكن سيناريو وحيد
حامد يجعلنا نتوحد مع هذه الشخصية، إذ يقدم لنا شخصية مكتوبة بميزان حساس،
بها عدة عوامل تجعلنا نكرهها، وأخرى تجعلنا نتعاطف معها، وبالتالي ننجذب
للمشاهدة راغبين في الوصول إلى إجابة السؤال: هل سيعيش رجب ليومٍ آخر؟
والأهم من هذا، كيف سيعيش يومه الحالي؟
هذه الكتابة تخرج من مؤلف يحب شخصياته بالفعل، ولا يتعالى
عليها أو يكتبها فقط، بل يعيشها.
“إحنا
دارسين نفسية الشعب المصري”
فيلم: عمارة يعقوبيان
على لسان السياسي كمال الفولي تأتي العبارة السابقة، وهو
يتحدث عن كيفية إدارة الانتخابات في بلد كمصر. بعيدًا عن السياسة وعن
الفولي، كان وحيد حامد بالفعل دارسًا لنفسية الشعب المصري، ليس الجمهور
فقط، بل أيضًا الخطوط الحمراء في مصر وكيفية التعامل معها.
اصطدمت عدة أعمال لوحيد حامد بالسياسة والرقابة، وهو أمر
متوقع بالتأكيد، لأن أفلامه قد تكون الأكثر تعرضًا للشخصيات السياسية
البارزة والوزراء بالنسبة إلى كاتب واحد.. على الجانب الآخر تعرض للوم من
البعض، لأن أفلامه تمثل تطهرًا للمشاهد مما يواجهه من قسوة في حياته
اليومية، لكنها في الآن ذاته تؤكد أن الصدام مع الحكومة ليس مُجديًا،
والنهاية ستكون بالخروج الآمن من مجمع التحرير دون ضحايا أو مكاسب.
بإعادة قراءة هذه الأعمال بنظرة متأنية، أجد نفسي منحازًا
إلى أن وحيد حامد تعامل بذكاء ليستغل أقصى هامش متاح للحرية في عصره.. ربما
خرج المواطنون من مجمع التحرير دون أي مكاسب في نهاية “الإرهاب والكباب”،
ربما وقف الشعب في مواجهة السلطة دون أن نعلم ما سيحدث في نهاية “النوم في
العسل”، لكن خلف هذه النهايات كان الكثير من الأفكار التي مرت إلى أذهاننا
في هدوء، والكثير من المواجهات الدرامية التي لم تكن ستخرج للنور دون
نهايات مفتوحة بهذا النحو.
هذا الفهم لنفسية الشعب المصري هو أيضًا ما جعلنا نشاهد
شخصية “محسن”، الموظف البسيط المثالي في فيلم “طيور الظلام”، فحتى عندما
كان الصراع سياسيًا بحتًا بين قوتين، لم ينس وحيد حامد أن يرصد من يتأثرون
بنحو أساسي بهذا الصراع، “محسن”، الذي لا يملك حتى قرار أن يبقى في عمله أو
يبحث عن غيره براتب أفضل.. المشاهد ليس “فتحي نوفل” أو “علي الزناتي”، لكنه
“محسن”.
لو أعدنا مشاهدة الفيلم دون مَشاهد “محسن” لما وجدنا أن
الحبكة ستختل على الإطلاق، لكن وجود هذه الشخصية أضاف جانبًا آخر إلى
الصراع.
“كلمة
بحبك: عقد”
فيلم: اضحك الصورة تطلع حلوة
قد يكون وحيد حامد هو أكثر كاتب سيناريو مصري نحفظ له جملاً
وحوارات كاملة، ليست مبالغة إن قلنا إنه في هذا يعادل “شيكسبير” بالنسبة
إلى الإنجليز.
في عصر غلبت فيه كتابة التشبيهات المركبة والجمل التي تحاول
أن تكون عميقة، نجد أن وحيد حامد كتب عبارات خالدة أهم ما ميّزها هو
البساطة.
ينسى بعض كتاب السيناريو أن الحوار يجب أن ينبع من الشخصية
نفسها، وكلما كانت العبارة صادقة ونابعة من الشخصية ومنسوجة في المشهد ليست
دخيلة عليه، كانت أكثر قدرة على البقاء وأكثر صدقًا.
بينما يجاهد البعض لصناعة جملة حوار عظيمة الأثر، نجد أن
جملة في بساطة “إحنا صغيرين أوي يا سيد” من فيلم “اضحك الصورة تطلع حلوة”
تترك أثرًا لا يُمحى، لأن الجملة خرجت من شخصية مُسنة بسيطة نازحة إلى
القاهرة لتحتك بعالمٍ لم تشاهده من قبل.
لا نُغفل هنا بالتأكيد أداء الممثلين وتوجيهات المخرج التي
تجعل المشهد في النهاية متكاملاً، ولكننا نتوقف بالأساس عند الحوار الذي
بُني عليه المشهد.
بنفس القدرة على صناعة هذه الجمل البسيطة النابعة من
الشخصيات، يستطيع وحيد حامد صناعة جمل أخرى مركبة لكنها ذات تأثير عظيم مثل
“إحنا ناس لازم الباطل بتاعها يبقى قانوني”، والتي وردت على لسان شخصية
“فتحي نوفل” في “طيور الظلام”، هذه الجملة تأتي قرب نهاية الفيلم، لتجسد
خبرة ورحلة “فتحي” بالفعل، هذا الذي تدرج في المناصب من خلال التحايل على
القانون، القانون الذي يحفظه جيدًا ويدرك ثغراته، يمكنه أن يقول جملة مثل
هذه، لكن لن تكون هذه العبارة مقبولة لو جاءت على لسان “سميرة”، فتاة الليل
في الفيلم نفسه، لكننا سنتقبل منها فورًا أن تقول “يا اختي كده ينفع وكده
ينفع”.
في كلمته وهو يستقبل تكريمه الأخير في مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي، قال الراحل وحيد حامد: “أنا حبيت أيامي”.. هذه الجملة
شديدة القِصر والبساطة تلخص الكثير عن هذا السيناريست العظيم، في وسط حفلٍ
كبير وحضور الكثير من الفنانين المصريين والأجانب، يقف وحيد حامد مستندًا
إلى عصاه، يتنفس بصعوبة، يتحدث ببطء، لكنه يعلم كيف يودع جمهوره بعبارة
أخيرة لا تنسى.
* ناقد فني |