"حظر
تجوّل".. حبيسو الدار والوحدة والأسرار
رولا عادل رشوان
السِّرّ هو البطل الرئيس، وبعد مشاهِدَ قصيرةٍ ندرك الخيط
الأول..
تظهر "فاتن" على الشاشة بعد عشرين عاماً قضتها خلف الأسوار
عقاباً على قتلها لزوجها.. تبدو حرّةً أخيراً بعد عقدين.. يملأ قلبها ذلك
الشغف الشديد، والرجاء الأكثر من حارّ في أن تلقى ابنتها الوحيدة "ليلى"،
وتأمل أن تُغلِّب الفتاة مشاعرها في لقائهما المرتقب، وأن ترحِّبَ بأمِّها
التي امتنعت عن زيارتها طوال الأعوام الطويلة الماضية، بدافعٍ من الزيارة
الوحيدة التي هجرتها بعدها، وهو رفض الأم الإجابة عن سؤالها الوحيد، آنذاك:
لماذا.. ما دافع هذه الجريمة؟!
تصمُتُ الأم في كل مرّةٍ يتكرر فيها السؤال، تداري دموعها
وتنفرد بنفسها، كما فعلت وتفعل على الدوام، لكنها، ورغم ذلك، وخاصةً في
سنواتها الأخيرة، تبدأ رحلتها في اجترار الذكريات، وهنا يتداعى "الفلاش
باك" في مشهدٍ طويلٍ نُشاهده مُقطّعاً على طول مدة الفيلم، وتلاحُق أحداثه
أو تفرُّقها، في ملاحقةٍ لوعدٍ يبدو خفيّاً في كشف السر، نهاية المطاف.
و"فاتن" هي الشخصية المحورية، التي جسَّدَتها الفنانة
القديرة إلهام شاهين في الفيلم الروائي المصري "حظر تجول" للمخرج أمير
رمسيس ومن تأليفه، بينما جسّدت الفنانة أمينة خليل دور ابنتها "ليلى"، في
الفيلم الذي تدور أحداثه فترة "حظر التجوّل" الذي فُرِضَ على البلاد العام
2013.
قويّة دون "ليلى"
تبدو
"فاتن" هنا في صورةٍ مغايرةٍ للصورة المنكسرة التي تظهر عليها شبيهاتها في
أعمال سينمائية سابقة، عالجت نفس القصة بالكاد، كالدور الذي جسَّدَتْهُ
شادية في فيلم المرأة المجهولة"، مثلاً، بحيث رفضت الإفصاح عن السِّرّ،
وتمسَّكَت بالـ"خَرَس" خياراً أساسيّاً، دون ضعفٍ تُبديه عيونُها أو هزيمة
مُنْكَرة ترضى بقضائها.
على النقيض.. تظهر "فاتن" كامرأةٍ قويّةٍ، لا يعذّبها سوى
السِّرّ الذي لا يمكن أن تبوح به، وتتحمل في سبيل سرّيَّتِه حتى عار
"الخيانة"، تنفيه عن نفسها ولا تخجل من أن تتحدث عن تجربتها وراء الأسوار،
وسام شرف ترفعه وتبدو متباهيةً به طوال الوقت والأحداث، حتى عند حديثها مع
حفيدتها الصغيرة.. لا تخبّئ "فاتن" شيئاً، لا تخجل حقاً، فقد أضحى واضحاً
أن السجن علَّمَها كيف تتجاوز مآسيها، وأن الهوان درَّبَها على كيفية
التعامل مع "العار" بسخريةٍ لا يفهمها الآخرون.
كوميديا غير مُقْحَمَة
ويمكن القول بأن أمير رمسيس نجا من فخٍّ أصيلٍ، يقع فيه
المؤلف أحياناً بمحاولاته اقتطاع بعض ضحكاتٍ تبدو نشازاً في إطار تلطيف
الجو العام للفيلم، المبني على المأساة واستحضارها، فلم يقع في فخِّ حشو
بعض الكوميديا. بالفعل كان الأمر في "حظر تجوّل" مختلفاً، فجاءت الكوميديا
في محلّها، وأَسَرَتْ ضحكات الجمهور في القاعة حيث العرض بالفعل، ودون
افتعال، بحيث اعتمدت "الفقرات الخفيفة" في الفيلم على كوميديا الموقف، ولم
تبدُ مقحَمَةً، وبالتالي لم تُشَوِّه المشهد العام، أو تتسبب في قطع
للفيلم، بل كانت إضافةً مهمةً له، خاصةً على مستوى تتابع المَشاهِد.
دورٌ بسيطٌ ولكن
في دورٍ بسيطٍ على مستوى الحيّز لا يتعدى مشاهد قليلة، يظهر
الممثل الفلسطيني كمال الباشا في تجربته السينمائية الأولى مصريّاً، كطيفٍ
يحكي قصةً متداخلةً في الأحداث، لكنها تحمل بُعْدَها ومأساتها الخاصّين،
فـ"يحيى" هذا، جارٌ لـ"فاتن" يحمل ويتحمّل "عار الخيانة" هو أيضاً، فحين
قتلت "فاتن" زوجها، كانت التقاليد هي الحاكم الذي يعزو التهمة في جرائم
القتل على الفور إلى شُبهة الشرف.
يرحّب الجار بـ"فاتن" بعد عودتها، وتشكره في كلماتٍ رقيقةٍ
على تحمُّلِهِ الهوان بينما لم يكن أبداً طرفاً.. تتواصل مشاهد الباشا
(يحيى)، الذي صار الجميع يتجنَّبُهُ في المكان كوباء، وإن كان يشكِّل مرآةً
لحياة "فاتن" خاصةً خلف الأسوار، هي وحدةٌ فَرضَها القَدَر ولم يخترها هو،
لكنه لم يعد يعبأ بالطامعين فيه حتى، لذا لم يهتم أن يعترف لـ "فاتن"
بحبِّهِ.. يكتب لها الخطاب ويتركه يحترق بعدها كما احترقت أيامه.
ربما كان حظُّ "فاتن" خلف الأسوار أفضل قليلاً، فقد وجدت
هناك من يدعمها أو يتقبّلها، فالجميع هناك يعلمون أن الكل أشرار، ولكنهم
مسلَّحون بنقطة نورٍ ما مضيئةٍ داخل أرواحهم.
السِّرّ.. غير الخفي
تتدخل الفطرة فاعلاً بالأحداث، فتتذكر الفتاة ما تفتقده في
العلاقة التي لم تكتمل أبداً، وتبدأ رحلتها مع"الفضفضة".. وتتبادل الأم
وابنتها أحاديثهما الحميمة، كما لو أن شيئاً ليس بالصدور.. وفي "مفاجأة"
متوقَّعَة، ولو بنسبةٍ قليلةٍ، ينكشف السِّرّ، بعد أن تزايدت الإشارات
الخفيّة إليه في المشاهد السابقة، وتدعّم ذكرى السر الذي انكشف، ألاعيب
اللا وعي التي عبثَتْ بذاكرة الابنة التي شهِدَت الواقعة بالفعل، غير أنها
كانت قد اختفت من ذاكرتها تماماً.. اندملت الذكرى لقسوتها ولم يظهر منها
بعد سنين طوال سوى ملامح مبهمة راودتها في حلمٍ قصيرٍ، لم تُدْرِك منها
شيئاً، ولم يحفّزها فيما يبدو سوى رغبتها الدفينة في أن تصدّق أحاسيسها
التي تأبى أن تطلقها صريحةً على شفتيها، بأن السبب لا بُدَّ وجيهٌ، وأمها
لا بُدَّ تحمل صكّ البراءة وإن أصرّت على إخفائه.
تظهر الأم على مدار الفيلم في دور "المخلّص" حامل الذنب،
المصلوب الذي تحمّل لأجل أحبابه، بينما لا تدّخر جهداً في الاصلاح، لا
لتكفّر به عن ذنوبها، وإنما انتصاراً لفطرتها التي تقف لها خير شفيع.
أخرُجُ من القاعة مستمتعةً بخفَّة الفيلم، مدركةً أن الحياة
يلزمها شيءٌ من"المعافرة"، فهي طاحنةٌ في كل الأحوال.. وبينما يتبادل
الجميع أدوار الجناة والضحايا، نجد أن الاستسلام ليس أبداً الاختيار
المناسب، وربما لا يجب أن يكون أبداً خياراً أيضاً.
رمسيس لـ "المنصة"
وفي تصريحٍ خصَّ به "منصة الاستقلال الثقافية"، قال المخرج
والمؤلف أمير رمسيس، في ردٍّ حول تأجيل عرض الفيلم ليكون عرضُهُ الأول ضمن
فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بدورته الحالية الثانية
والأربعين، يقول: بعيداً عن الدور الذي قد يلعبه عرض الفيلم في المهرجان
بتسويقه أو الترويج له، فإن هذا العرضَ تقديريٌّ في الأساس، ويشكِّل
خصوصيةً بالنسبة له، لكون هذا التقدير يأتي من مهرجان بقيمة مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي، لافتاً إلى أن ثمة حالة افتتان تُغالِبُهُ تجاه مهرجان
القاهرة السينمائي منذ كان طالباً في معهد السينما، حيث كان يتنقل بين
قاعات العرض، منبهراً في الأفلام والندوات، دورة بعد الأخرى، هو الذي سبق
وأن عُرِضَ أول أفلامه الطويلة "آخر الدنيا" في المهرجان منذ ما يقارب خمسة
عشر عاماً، لذلك فهو يشعر برابطٍ قويٍّ بل وشخصيٍّ بالمهرجان.
وأضاف رمسيس: ردود الفعل التي وصلتني من المشاهدين للفيلم
قبل عرضه رسمياً كانت إيجابيةً للغاية، وآمُلُ أن يحقق النتائج المرجوة عند
عرضِهِ الرسميّ الأول في المهرجان.
وعن الصعوبات التي واجهته خلال التصوير، قال رمسيس إن
معظَمَها قد يتلخَّص في قصة الفيلم التي لا تبدو تجاريةً بالقدر الكافي،
ولكن، ومن خلال التعاون مع منتجين متحمّسين للفكرة، خرج الفيلم إلى العلن،
ناهيك عن صعوبة تصوير فيلم تدور أحداثُهُ في زمن "حظر التجول" العام 2013،
وهو ما تطلّب ظروفاً خاصةً للتصوير، كأن تكون الشوارع خاليةً تماماً وقت
ظهور الشخصيات فيها، خاصةً في أوقات مختلفة من الليل والنهار، حيث كان
التصوير في مناطق مزدحمة، لافتاً إلى أنه أحياناً تم السيطرة على الشوارع
ببناء أماكن خاصة للتصوير تتناسب وزمن المعالجة، التي وإن كانت قريبةً
زمنياً فهي بعيدةٌ بصريّاً، علماً "أننا كنّا قد انتهينا من تصوير الفيلم
قبل شهر من بداية فرض حظر التجول لأغراض الوقاية من جائحة كورونا في مصر..
ربما حينها كان خلو الشوارع سيفيدنا أكثر، ولكنها ترتيبات قدرية، ومن حسن
الحظ أننا تمكَّنّا من تحقيق رؤية الفيلم كما ينبغي رغم العراقيل التي ذكرت".
إلهام شاهين
وكانت الممثلة المصرية القديرة إلهام شاهين، وفي تصريحاتٍ
لوكالة أنباء "رويترز"، أشارت إلى أن الفيلم يناقش إحدى أبرز القضايا
المسكوت عنها اجتماعيّاً ويخجل الناس من طرحها كما تخشى الأعمال الفنية
طرحها بوضوح، ألا وهي "زنا المحارم"، أو ما يطلق عليه في دول أخرى "سِفاح
القُربَى".
وقالت بعد العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي: لأول مرة نتكلم عن زنا المحارم، نتحدث بالطبع على
استحياءٍ شديدٍ لأننا لا نستطيع جرح مشاعر الناس، لكن المهم أن الرسالة
وصلت، هو من بين الموضوعات المسكوت عنها ونخجل من مناقشتها سواءً في الحياة
العادية أو على الشاشة أو في الإعلام".
وأضافت: أعتقد أن فيلم "حظر تجوّل" سيفتح هذه الملفات،
وسيثير مناقشات كثيرة، وكذلك سيُعيد التذكير بضرورة تغليظ العقوبات لمثل
هذه الأنواع من الجرائم.. لا يسعى الفيلم وراء الفضائح، لكنه يتطلع إلى
إيجاد حلول.. نهدف إلى إصلاح المجتمع والتعامل بجدّية مع مشاكلنا الواقعية.
وعن تأديَتِها دور الأم قالت إلهام شاهين: منذ قرأتُ
السيناريو عرفتُ أن الدور جديد ومختلف، لأنني لم أجسِّد مثل هذه المشاعر من
قبل على الشاشة، مضيفةً: بعد الانتهاء من قراءة السيناريو كاملاً، والتعرف
على باقي الأبعاد والشخصيات والقضية التي يناقشها بمنتهى الجرأة تحمَّسْتُ
للعمل جداً.
جدير بالذكر أن فيلم "حظر تجول" من تأليف وإخراج أمير
رمسيس، وبطولة: إلهام شاهين، وأمينة خليل، وأحمد مجدي، وعارفة عبد الرسول،
ومحمود الليثي، بمشاركة الفنان الفلسطيني كامل الباشا، كما يشهد الفيلم
ظهوراً خاصاً للمخرج خيري بشارة، وللفنان أحمد حاتم.
وكان مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، أعلن منذ فترة
التحضير لفعالياته المهمة، عن اختيار الفيلم الروائي المصري "حظر تجوّل"
للمخرج أمير رمسيس للمشاركة في المسابقة الدولية بالدورة 42، وذلك في
عرضِهِ الأول للجمهور المصري، وكانت تلك هي العودة الأولى لرمسيس للمشاركة
في المهرجان منذ عرض فيلمه "آخر الدنيا" عبر مسابقة الأفلام العربية في
العام 2005، علماً بأن رمسيس سبق وأن شارك في لجان تحكيم عدد كبير من
مهرجانات السينما، ويعمل حالياً بمنصب المدير الفنّي لمهرجان الجونة
السينمائي الدولي. |