أفلام "فرحة" و"صالون هدى" و"أميرة".. فلسطين بين الخيانة
والحصار
رامي عبد الرازق*
في
عروضهما العربية الأولى خلال فعاليات الدورة الأولى لمهرجان
البحر الأحمر (6-15
ديسمبر)، تُحتجز بطلتا فيلمي "فرحة" لدارين سلام و"صالون هدى" لهاني أبو
أسعد، في حيز مكاني ومجازي ضيق وخانق إثر تعرض كل منهما لخيانة متعددة
المستويات وعنيفة النتائج.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى بطلة الفيلم الأردني "أميرة"
للمخرج المصري محمد دياب، الذي كان من المقرر أن يُعرض خلال فعاليات الدورة
الأولى، ولكن نتيجة اللغط الدائر حوله، تم سحبه من قبل صناعه بعد عرضه
العربي الأول في مهرجان الجونة قبل شهرين.
ثلاثة أجيال وثلاثة سجون
تنتمي كل من "أميرة" و"فرحة" و"هدى" إلى ثلاثة أجيال من
صانعي السينما العرب الذين يقدمون تجاربهم مدفوعين بهموم القضية التي تفرز
ألماً متواصلاً منذ عام 1948، القضية الفلسطينية؛ وهم: هاني أبو أسعد، صاحب
"الجنة الآن" الذي قدم نفسه مع بدايات الألفية، ومحمد دياب من جيل الوسط
الذي قدم "ستة سبعة ثمانية" عام 2010، وأخيراً دارين سلام، الشابة التي
تقدم أولى أفلامها الروائية الطويلة عقب مجموعة تجارب قصيرة مميزة أبرزها
"الببغاء" في عام 2016، والتي تنضم إلى قائمة صانعات السينما العربية بفيلم
"فرحة".
اللافت أن كلاً من "فرحة" و"أميرة" و"ريم" (بطلة صالون هدى)
ينتمين بالفعل إلى ثلاثة أجيال على مستوى الشريحة العمرية ومعاصرة القضية،
أصغرهن فرحة (14 سنة) تنتمي لجيل النكبة، ثم ريم (نهايات العشرينات) أي ما
بعد اتفاق أوسلو، وأخيراً أميرة (18 سنة) وهي جيل الألفية.
فرحة.. الأسيرة الحرة
"فرحة"-
أنضجهن بناء وتكويناً على المستوى النفسي- هي ابنة المختار لإحدى قرى
فلسطين 48؛ وحين لا تريد أن تفارق أباها، يقوم بحبسها في مستودع الطعام
بالبيت حفاظاً عليها، ومحاولةً لبث الأمل في نفسه قبلها بأنه سيعود لينقذها
من الصهاينة.
وعبر 52 ق تقريباً، تتماهى "فرحة" – نلاحظ تناقض الاسم مع
الوضع المكاني والمجازي- مع فلسطين نفسها، وتتحول إلى الروح الجميلة التي
خبأها أبوها المُقاوم من أجل أن يعود ليخرجها ذات يوم إما منقذاً أو
مدافعاً عنها. تختنق "فرحة" بالمعنى المجازي والواقعي إثر احتباسها أسيرة
وحرة في الوقت نفسه، تشاهد نموذجاً لمذبحة صهيونية مصغرة حين يتم قتل أسرة
بأكملها في باحة البيت عندما كانوا يختبئون فيه.
ريم.. سجينة مجتمع
أما "ريم" فسجنها المجازي يبدأ قبل حصارها الواقعي؛ هي
مسجونة منذ البداية داخل زواج فاشل اجتماعياً ونفسياً وعاطفياً، مع زوج
ضعيف الشخصية، تقليدي، لا يشكل سنداً بل شوكة في الظهر؛ ثم يتطور سجنها
المجازي حين تبدأ أزمتها، فهي واحدة من ضحايا "هدى" صاحبة صالون التجميل
التي تقوم بتعريتها وتصويرها في وضع مخلّ من أجل إخضاعها للعمل مع
الصهاينة، بينما يطاردها رجال المقاومة الذين يحتجزون هدى ويستجوبونها – في
مشاهد ضعيفة وركيكة درامياً- من أجل التوصل إلى أسماء الفتيات اللواتي
أسقطتهن؛ ثم تصل أزمة الحصار إلى ذروتها مع قيام الزوج بسجنها في البيت
عندما تصارحه بحقيقة مشكلتها وبأن رجال المقاومة يسعون خلفها لتصفيتها وهي
البريئة المغدورة.
يهرب الزوج بطفلتهما الصغيرة تاركاً "ريم" سجينة بيت
الزوجية المتداعي عاطفياً وروحياً، وتصبح هي الأخرى حبيسة مجتمع يريد أن
يتحرر من المستعمر لكنه لا يدرك أن عليه أن يتحرر من التقاليد والقيم
البالية التي لم تعد صالحة لأزمنة الحضارة الحديثة، تقاليد تفرض سطوة
ذكورية زائفة وتحوّل مفاهيم الشرف والإخلاص إلى شعارات طنانة بلا وقع
إنساني مؤثر.
أميرة.. شهيدة الخيانة والتخلي
أما "أميرة" فقصتها تبدأ بالأساس من السجن، نراها مع أمها
وهي تزور أباها الأسير في السجون الإسرائيلية، ليظل السجن محوراً أساسياً
في الحكاية، ثم تكتشف أنها ليست ابنة بيولوجية من نطفة أبيها ولكنها ابنة
بالهوية والتربية والروح.
تتعثر "أميرة" في أزمة ساحقة، تحولها من فتاة حرة مقبلة على
الحياة -تماماً كـ"فرحة"- إلى حبيسة سياقات اجتماعية ونفسية شديدة التعقيد
وغاية في العنف، يدينها مجتمعها المغلق ويحمّلها مسؤولية النطفة التي جاءت
من سجان إسرائيلي خائن بدل نطفة أبيها، في مجاز واضح لما يمكن أن يتمادى
فيه المحتل ليس فقط على مستوى سرقة الأرض والتاريخ ولكن الهيمنة -ولو
بيولوجياً- على المستقبل.
التهديد
والخيانة
تتعرض الفتيات الثلاث إلى حالات مختلفة من التهديدات
المادية والمعنوية، وإلى مستويات من الخيانة التي ترتبط بأزمة الحصار التي
تفسد سلامهن الروحي.
تتساوى ثلاثتهن في قسوة التهديد وعنفه، فـ"فرحة" مهددة بأن
يكتشف الصهاينة مخبأها بينما تشاهد من الفتحة الصغيرة في أعلى المستودع
صديق أبيها المقرب وهو يتحول إلى "أبو خيش"، ذلك الخائن الذي يستعمله
الإسرائيليون إلى اليوم في الكشف عن عناصر المقاومة، حيث يأتون بأحدهم
ويلبسونه قناعاً مفتوحاً عند العينين كي لا تكتشف هويته بينما يشير هنا
وهناك إلى عناصر المقاومة وأماكن السلاح.
ويرجو "أبو خيش" الصهاينة بالعفو عن الأسرة الصغيرة بدلاً
من إعدامها، على اعتبار أن الوعد بالأساس كان مجرد الإبلاغ عن السلاح، ولكن
بلا جدوى، إذ تُقتل الأسرة.
أما "ريم" فالخيانة تطاردها منذ البداية، حين تخونها "هدى"
وتقوم بتصويرها من أجل أن تقودها للخيانة الفعلية تحت تأثير التهديد
بالفضيحة، وتصبح الفضيحة أكثر قسوة من أي رد فعل آخر، ويكشف التهديد عن
تصدع كبير في أركان مجتمع يعاني من ظلامية اجتماعية لأنه انشغل عن تطوير
سياقاته الحضارية في القضية التي تحتاج إلى التحضر.
تصبح "ريم" مهددة من كل الأطراف، المقاومة والصهاينة الذين
يسعون للإيقاع بها والزوج الذي يعلن تنصله من فضيحتها، لأن أحداً لن يرحم
سيرتها مهما كانت بريئة، فلا براءة في جرائم الشرف داخل مجتمع لا يزال
يعتبر أن ذكوريته هي أصل وجوده.
وعبر السياق الاجتماعي والنفسي ذاته، تعاني "أميرة" من
التهديد المستمر بكونها ابنة صهيوني – نرى "نجمة داود" ترسم على باب
الاستديو الذي تفر إليه عندما تلفظها أسرتها- ويصبح التهديد قائماً بأن
التخلص منها واجب وطني من أجل الحفاظ على نقاء العرق الفلسطيني.
تتعرض "أميرة" للتهديد من قبل أسرتها بينما هي بالأساس
نتيجة لخيانة السجان الإسرائيلي لكل القيم والأعراف، فهو لا يساهم فقط في
تهريب النطف مقابل المال، ولكنه يقوم بتبديل النطف بنطفته، في حرب عرقية
دنيئة.
ثم لا يكون أمامها – من وجهة نظر السيناريو- إلا أن تتحول
إلى شهيدة من أجل أن يتم الاعتراف بهويتها ودفع شبهة الخيانة التي لا يد
لها فيها.
نضوج
مبكر
تُعتبر تجربة "فرحة" أنضج التجارب الثلاث على مستوى البناء
الدرامي، رغم أن الكاتبة دارين سلام هي أصغر الكتاب، إلا أن تجربتها تتمتع
بقدر كبير من التماسك والوضوح الفكري بعيداً عن ثرثرات المشاهد المسرحية في
"صالون هدى"، أو تشوش الرؤيا في قضية شائكة كما في "أميرة".
ويشير الأمر إلى اطمئنان نسبي من ناحية كون الجيل الجديد
لديه من الحساسية ما يجعله أكثر دقة وتركيزاً في تعامله مع القضية، من دون
أن يعتبر أن مجرد الحديث عنها هو إبداع في حد ذاته.
*ناقد
فني مصري |