·
هل إصرار المهرجان على تخصيص نسبة معينة لأفلام المرأة
والأقليات انعكس على مستوى الاختيارات.. أم أن الأمر مجرد عدم توفيق؟
·
فيلم الافتتاح متواضع و"سيبريا "فيلم شديد الخصوصية "وامسح
التاريخ" كوميديا عميقة عن حالنا في ظل تسيد "السوشيال ميديا"
كان من المفترض أن يشكل الرقم 70 علامة مهمة في تاريخ
مهرجان برلين السينمائي (البرليناله)، ذلك في ظل تصريحات الإدارة الجديدة
الشابة بعد أن تولى الإيطالي الأربعيني كارلو شاتريان منصب (المدير الفني)
ومارييت ريسنبيك (الإدارة العامة). وهي التصريحات التي انطلقت قبل بدء
المهرجان حيث وعدت بالكثير من الطموحات، وشددت على أن الدورة الـ70 تشهد
العديد من التغييرات، بل كان الرهان على مستوى وجودة الأفلام كبيرا..
تلك الوعود والطموحات تبددت مع الأيام الأولى من انطلاق
المسابقة الرسمية والتي لم تحمل مفاجأة ترضي النقاد والمتابعين لواحد من
كبريات المهرجانات السينمائية في العالم، حيث باتت جمل من نوعية "تلك
الدورة باهتة"، أو "إننا محبطون من مستوى أفلام المسابقة الرسمية"، و"ما
الذي حدث في برلين هذا العام؟"، تتردد في أروقة المهرجان وعلى لسان صحفيين
ونقاد من مختلف دول العالم، وهو ما جعل التليفزيون الألماني يخصص حلقة
استضاف فيها عدد من النقاد ينتمون لدول مختلفة ويتحدثون معهم عن مستوى
أفلام المسابقة المتوسطة، ويسألون لماذا التراجع رغم الحديث عن دورة جديدة
وطامحة؟.
برلين السينمائي يمتلك جمهورا سينمائيا كبيرا، وقد يكون هو
المهرجان الأكبر من حيث رواده وعدد التذاكر المباعة في الآونة الأخيرة وتصل
إلى ٣٣٠٠٠٠ تذكرة، وكذلك عدد زوار السينمات الذى تعدى نصف المليون زائر،
وذلك طبقًا لوسائل إعلام ألمانية، وهى المعلومات التي تمت ترجمتها،
وتداولتها المواقع الإلكترونية، وهو ما زاد من وقع الصدمة فيما يتعلق
بمستوى وجودة الأفلام.
وإذا كان مهرجان "كان" السينمائي الدولي يعد أضخم من حيث
السوق والفعاليات إضافة إلى مدينة اليخوت التي يقام بها، والطابع الأكثر
تجارية وسياحية، ومهرجان فينسيا الذي يقام في واحدة من أجمل مدن العالم،
إلا أن مهرجان برلين أو "البريناله" كان ومنذ انطلاقته الأولى يحمل طابعًا
سياسيًا، فقد تأسس فى عام ١٩٥١ ببرلين، مدينة الأطلال، باعتبارها "شاشة عرض
للعالم الحر" و"سد ثقافى ضد البلشفية" وظلت على مدى عقود متأثر بالحرب
الباردة، حتى بعد سقوط سُوَر برلين، ظل للمهرجان موقف سياسي واضح، في
العديد من القضايا، وحتى الآن.
تلك الحالة تجعلنا نتساءل عن أسبابها وهل مثلا لاهتمام
برلين بفكرة "الجندرية"، وكوتة المرأة، من الأسباب التي أدت لذلك؟، بمعنى
هل إصرار المهرجان على تخصيص نسبة معينة لأفلام المرأة المخرجة، والأقليات،
وأيضا مرضى السرطان وهو جندر جديد بدأ يظهر في بعض المهرجانات واختياراتها،
هل تلك السياسات انعكست على مستوى الاختيارات، حيث شكلت هي أساس الاختيار
بدلا من المستوي الفني، أم أن الأمر لا يخرج عن كونه مجرد عدم توفيق من
القائمين على الاختيارات فنيا؟.
عموما هناك الكثير من التساؤلات التي ستطرح بعد ختام
المهرجان في الأول من مارس المقبل، لأن الأيام الأخيرة من الفاعليات وعروض
الأفلام قد تحمل طوق النجاة للإدارة في حال ظهور أفلام مميزة تعرض في
المسابقة الرسمية أو البانوراما.
البدايات المحبطة
كما يقولون "الجواب بيبان من عنوانه"، هذا الأمر ينطبق
تماما على فيلم افتتاح الدورة الـ70 "للبريناله"، وهو الفيلم الكندي
My
Salinger Year"
، وهو الفيلم الذي تستطيع وصفه بأنه يقف في منطقة البين بين
فلا هو بالجيد ولا هو بالسيء ومن الممكن أن يتم وصفه بأنه فيلم عادي يحمل
قدرا من البهجة وبعضا من عناصر الجذب، من نجوم وموضوع، إلا أنه لا يليق
بافتتاح مهرجان بعراقة وضخامة برلين السينمائي ولا يحمل حديثا هذا قدرا من
المبالغة حيث إن مخرج الفيلم نفسه وهو ما قاله في المؤتمر الصحفي ردا على
سؤال لأحد الصحفيين حيث قال "أنجزتُ فيلماً متواضعاً"، وهي الجملة التي
تعكس أن اختيار فيلمه للافتتاح كان خبرا مفاجئا بالنسبة له.
الفيلم ينتمي إلى الدراما الأدبية، ومن إخراج الكندي فيليب
فالاردو، وهذا عرضه العالمي الأول، ومأخوذ عن رواية للأديبة والصحفية
الأمريكية جوانا سميث راكوف بالعنوان نفسه اقتبس فالاردو السيناريو الذي
تدور أحداثه في تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً عام 1995، في نيويورك.
"عامي مع سالينجر" ليس فيلم سيرة ذاتية، بخلاف ما يوحي به العنوان، بل
يكتفي المخرج بالإشارة إلى اسم الكاتب في جمل أو من خلال مكالمة تليفونية،
مكتفيا بصوته.
تدور أحداث فيلم فيليب فالاردو على الشابّة جوانا (مارغريت
كوالي)، الشاعرة الطموحة، التي تحلم أنْ تصبح أديبة معروفة ذات يوم، لكنّها
تتخلّى عن كتابة الشعر وعن حلمها، عند حصولها على وظيفة في وكالة أدبية
مشهورة، كمُساعدة للمحرّرة الأدبية مارغريت (سيجورني ويفر). الوكالة تُشرف
على نشر أعمال أدباء كبار، بينهم سالينجر، فتنتهز جوانا الفرصة لتحقق
مشروعها الخاص وتثبت وجودها في نيويورك المدينة الكبيرة والتي أتتها
كوافدة، لذلك تتحمل الطريقة الجافة وكثرة الأوامر من مديرتها، وتركز في
عملها بكل طاقتها حيث تقوم بالرد على الاتصالات الهاتفية، وكتابة الرسائل
على الآلة الكاتبة، وغيرها من المهام.
سيناريو الفيلم الجيد إلى حد ما يعكس الصراع المكتوم بين
رئيسة الوكالة والتي تتعامل مع الأمور وفي تفاصيل الحياة والعمل بمنطق
يختلف تماما عن جومانا تلك الشابة الطموحة، وهو صراع هادئ ينعكس في
التفاصيل الصغيرة بدءا من بيئة العمل وعلاقة كل منهما في حياتهما الشخصية.
بشكل عام فيلم "عامي مع سالينجر" فيلم شديد البساطة سيناريو
جيد وعناصر فنية جيدة ولكن لا يوجد فيه شيء مختلف فهو يشبه تلبك النوعية من
الأفلام التي من الممكن أن تشاهدها وأنت جالس في منزلك.
وإذا كانت تلك الحالة الباهتة قد بدأت مع الافتتاح فأنها
تأكدت أيضا مع بداية عرض أفلام المسابقة الرسمية والتي لم تحمل أية مفاجآت.
أول الغيث قطرة
مع بداية اليوم الرابع في المسابقة الرسمية ظهرت أفلام
لافتة للانتباه وتستحق التوقف عنها من بينها
delete
history""(«حذف
التاريخ») للفرنسيين بينوا دوليبين وجوستاف كورفين المخرجان الكوميديان
الساخران اللذان لا يفترقان ويتواجدان دائماً في مهرجانات مثل «برلين،
وكان».
وفي فيلمها الجديد يقدمان قصة ثلاثة جيران مع العواقب
الجديدة لوسائل التواصل الاجتماعي. مسرحية هزلية عن واقعنا في القرن الحادي
والعشرين، بطريقة سينمائية كوميدية عميقة، وهو واحد من أجمل الأفلام التي
عرضت حتى الآن لأنه وبطريقة ساخرة كشف شكل العالم الحديث وكيف أن التليفون
ووسائل الاتصال الحديثة باتت هي المتحكمة في كافة تفاصيل حياتنا لدرجة أننا
صرنا عبيدا لها.
سيناريو الفيلم المبني على العديد من المفارقات الكوميدية
التي تفجر الضحك طوال أحداثه، ماري التي تشعر بالتهديد بسبب فيديو إباحي
لها، والخوف من أن يعرف ابنها ذو الـ15 عاما بأمره حيث تعرفت إلى رجل في
البار ولم تكن في وعيها ولم تتذكر أنها ذهبت معه إلى منزله وأنه صور لها
فيديو إباحي وقرر أن يبتزها ماديا، والجار الثاني هو بيرتراند والذي يتحول
لمدمن علاقة جنسية عبر الإنترنت متخيلا أن من تتحدث إليه وتدعي ميراندا
إنسانه حقيقية تعيش في أمريكا، ويتأزم نفسيا عندما تتعرض ابنته للتنمر من
قبل زملائها في المدرسة والذين يسخرون منها بسبب تقويم أسنانها، وهناك
كريستين مدمنة المسلسلات التي تبث أونلاين وتعمل سائقة على "أوبر" وتعاني
من سوء التقييم.
كيف يجتمع الثلاثة وما هي خطتهم لمواجهة الأمر وما الذي
سيكتشفه كل منهم عن نفسه خصوصا بعد رحلة سفر ماري إلى أمري بيرتراند في
محاولة إقناع مسؤولي الداتا بمحوها.
ماري التي ذهبت لمحو فيديو فتفاجئ بنفسها وقد تورطت في
علاقة مع أمريكي ثري عاشق للألعاب الجنسية وصور لها مشاهد قد تصنع فيلما،
ورد فعل عندما يكتشف بيرتراند أن ميراندا هي مجرد آلة.
سيناريو الفيلم شديد الذكاء ويعتمد كليا على كوميديا الموقف
ويجعلنا نشعر بالرثاء والسخرية من حالنا في نفس الوقت، وقد يكون من أكثر
الأفلام التي حصدت تصفيقا كثيرا.
Siberia («سيبيريا»)
للأمريكي أبل فيرارا المخرج المثير للجدل، والفيلم من بطولة ممثله المفضل
ويليم دافو. يروي العمل قصة الرجل المهزوم والمكسور "كلينت "الذي يعيش
وحيداً في قلب تندرا المتجمدة، ولكن رغم عزلته، فإنه يعجز عن الهرب من
العالم أو إيجاد السلام.
في إحدى الليالي، يشرع في رحلة يسافر خلالها عبر أحلامه
وذكرياته وخياله، محاولاً شق طريقه من الظلام الى النور، ويعتمد سيناريو
الفيلم بأكمله على تلك الحالة الذهنية، وكيف يقابل كلينت مخاوفه وهواجسه،
ولحظات الخذلان في حياته فهو يستدعي والده ويدخل معه في حوارات تعكس عقدة
العلاقة بينهما، وأيضا الأم، والزوجة التي تركها ودائما ما يردد لها جملة
"المشكلة إنني أحببتك أكثر من اللازم"، وهناك نساء أخريات كثيرات مختلفات
اللون والثقافة قد يكن دخان إلى حياته، في فترات ما، ورغبته في أن يتحول
إلى قاتل في لحظة، وكيف كان شاهدا على واقعة اعدام جماعي.
تلك الحالة الذهنية والأحلام والهواجس والتساؤلات حول من
أنت وماذا تفعل وكيف وصل بك الحال إلى اختيار العزلة التامة نمط لحياتك،
حولها المخرج الفذ إلى صورة بصرية شديد الثراء، ومشاهد كاشفة لتعقيدات
النفس البشرية وساعده في توسل كل تلك الحالة والمعاني ممثل يفهم جيدا ما
يقدمه على الشاشة، والمفارقة أن المخرج لم يهتم أبدا بترجمة بعض الحوارات
التي كانت تدور بين البطل وشخوص من تلك المنطقة النائية التي اختارها للعيش
كأنه يريد أن يقول أنه لم يعد يهتم بالتواصل الإنساني بدرجة كبيرة يكفيه
أنه يفهم القليل، لأنك كمشاهد قد تكون في نفس الحالة.
"سيبيريا" من الأفلام الخاصة جدا والتي قد لا تكون لونا
سينمائيا جاذبا للبعض، ولكنه فيلم متفرد بكافة عناصره السينمائية.
بالطبع هناك أفلام أخرى تستحق التوقف عندها في مهرجان برلين
خصوصا تلك الأفلام التي تتحدث عن ثيمة الحب وأشكال مختلفة له منها الذي
يحمل بعدا أسطوريا مثل "اوندين"، و"شقيقتي الصغرى".. وللحديث بقية. |