رؤى متعددة في مسابقة مهرجان برلين السينمائي
أمير العمري
المخرج أبيل فيرارا يحاول من خلال فيلم سيبيريا أن يخلق
صورة تنبع من العقل الباطن لرجل قرر اعتزال العالم والذهاب إلى أقصى أطرافه.
يمكن القول إن أكثر أفلام مسابقة مهرجان برلين الـ70 إحباطا
حتى الآن، هو الفيلم الأميركي “سيبيريا” للمخرج المخضرم أبيل فيرارا وبطولة
وليم دافو، وأفضلها هو الفيلم الأميركي صاحب العنوان الغريب “كلمة ‘نادرا’
غير موجودة.. و’أحيانا’ موجودة دائما” للمخرجة إليزا هيتمان. وبين الاثنين
أفلام تتراوح في مستوياتها.
برلين -
المخرج أبيل فيرارا يطرح في فيلمه الجديد “سيبيريا” هواجسه وتساؤلاته
الخاصة، بكثير من الاصطناع، عن معنى الحياة والوجود في هذا العالم، يريد أن
يجعل بطله الذي يعبّر عنه كضمير للمؤلف السينمائي، يمرّ بتجربة بعيدة كل
البعد عن المألوف في عالمنا، ليرتدّ إلى الطبيعة بكل أشكالها: إلى الصحراء
إلى القطب الشمالي الثلجي، وإلى الكهوف المظلمة الغامضة، ثم الجبال.
إنه يحاول أن يخلق صورة تنبع من العقل الباطن لرجل قرر
اعتزال العالم والذهاب إلى أقصى أطرافه لكي يبيع الشراب للسكان المحليين
الذين لا يعرف لغتهم في تلك المنطقة المعزولة. أصدقاؤه الوحيدون هي الكلاب
التي تجرّ الزحافة التي ينتقل بها.
الفيلم عبارة عن رؤى تتداعى، ويتبدّى لبطلنا “كلينت” من
خلالها، تارة والده الذي يواجهه بقسوة ويوضح له خطاياه وعيوبه ونواقصه،
وتارة أخرى يبدو كما لو أن كلينت هو الذي يظهر بصورته الأخرى يواجه نفسه
ويحاسبها ويعذبها بتساؤلاته القلقة.
"بينوكيو"
فيلم حفل بالكثير من التعديلات على القصة الأصلية، تضيف وتثري الخيال، مع
مشاهد مثيرة في سرياليتها
لكننا لسنا أمام رؤية عميقة متماسكة ترتبط بشخصيات أخرى أو
بموضوع واضح يؤرق صاحبه ويريد التعبير عنه، بل يتكوّن الفيلم من تداعيات
وتساؤلات روحية معذبة تائهة غير موجودة داخل بناء واضح، وبالتالي تضيع كل
التساؤلات في الفضاء، ولن نفهم أو نتعاطف أو نشعر بما يعذب هذا الرجل.
هناك تكوينات بصرية بديعة في الفيلم، وصور تتداعى من ماضي
الشخصية وجولاتها السرمدية في أماكن مختلفة في العالم بحثا عن “معنى”،
وامرأة حامل تتعرّى، ومشهد جنسي كامل مثير، وساحر يريده كلينت أن يطلعه على
بعض أسرار ما يطلق عليه “الفن الأسود”.
من حق المخرج أبيل فيرارا بعد أن أصبح شيخا طاعنا في السن
بعد تجربته الحافلة في الإخراج السينمائي، أن يرتد إلى الذات ويتحرّر من
الحبكة التقليدية ويطرح رؤية حرة تماما لما يعذبه ويقلقه. ولكن يجب أن يكون
هناك “سياق” سينمائي تعبّر من خلاله الشخصية الوحيدة المنفردة عن عذاب
الفرد في عالمنا المعاصر.
وهي ربما الفكرة التي لم تتضح تماما في الفيلم، بل يبدو
وكأن الممثل الشهير وليم دافو، يرتجل وهو يجوس داخل تلك المشاهد المؤلمة
الغامضة ويأتينا صوته يناجي ويبوح ويتعذب من أشياء لا نشعر بها. والنتيجة
أن لا شيء يبقى في الذاكرة بعد مغادرة قاعة العرض.
قصة ملهمة
المخرج الإيطالي ماتيو غاروني (صاحب “حكاية الحكايات”
و”مُربي الكلاب”) يعود بأجواء القصة الشهيرة من عالم الخيال التي تنتمي
للقرن التاسع عشر، إلى أصولها الإيطالية، ومع الممثل المخضرم روبرتو بنيني
في دور النجار الذي سيصنع دمية (بينوكيو) من الخشب ويبث فيها الحياة في
سياق تلك العلاقة الملهمة بين الخالق والمخلوق، أو الأب والابن، بكل
تداعياتها الروحية والدنيوية.
أما في دور بينوكيو، فهناك الممثل الجديد فيديريكو إيلابي
الذي سيكون له شأن كبير مستقبلا، فهو يتقمّص ببراعة شخصية ذلك الطفل
المصنوع من الخشب الذي يتمرّد على والده – خالقه، ويخالف تعليماته ويهجر
المدرسة للالتحاق بالسيرك، فيكون مصيره أن يمرّ بتجارب عديدة يتعلم خلالها
دروسا قاسية، ويُعاقب على تمرّده، ويعاني من وجوده ككائن حبيس داخل قطعة
خشبية، يكاد يلقى مصيره حرقا مع مجوعة من أشباهه الدمى، إلى أن يحقّق حلمه
بالتحوّل إلى كائن بشري.
الفيلم ساحر في تفاصيله وشخصياته وأشكاله الحية التي تتجاوز
كل ما يمكن أن توفره إمكانيات التحريك وكائنات الرسوم، رغم الاستعانة
بممثلين حقيقيين يرتدون أقنعة وملابس أسطورية ويتحرّكون مثل الحيوانات
الضخمة. كما يظهر فيه أيضا بعض الكائنات السحرية العملاقة مثل الحوت الذي
يبتلع بينوكيو، ثم يتمكن من الفرار من فتحة فمه.
ورغم أنه يواجه الكثير من العذاب إلاّ أنه يجد أيضا تعاطفا
معه من جانب الساحرة الصغيرة “الفيري” التي تجعله يمرّ باختبارات التحوّل
من عالم الدمى إلى عالم البشر.
هناك الكثير من التعديلات على القصة الأصلية، تضيف وتثري
الخيال، مع مشاهد مثيرة في سرياليتها، وإشارات كثيرة كامنة إلى معاناة
الفقراء والعاطلين، وفيها يتبدّى الموقف الاجتماعي لغاروني كما برز في
أفلامه السابقة مثل “غومورا” وغيره.
وليس من الممكن اعتبار فيلم “بينوكيو” فيلما للصغار فقط بل
لكل من الكبار والصغار معا. والقصة على أي حال لا تزال تلهم الكثير من
صنّاع الخيال المصوّر.
التاريخ لن يمحى
رغم طرافة موضوع الفيلم البلجيكي الكوميدي “امسح التاريخ”
Delete History
الذي اشترك في إخراجه اثنان هما بينوا ديلفين وغوستاف كيرفيرن، إلاّ أنه لا
يمتلك أكثر من مواقف متناثرة مبالغ فيها كثيرا بغرض التعليق الساخر على
العصر الحالي، أي عصر وسائل الاتصال الرقمية التي تزعم أنها حرّرت الإنسان،
في حين أنها أوقعته حبيسا داخل سجن كبير للمعلومات التي أصبحت هدفا للتجسّس
والتحكّم في الفرد.
من خلال قصص عن ثلاث عائلات تتجاور في السكن في منطقة ريفية
خارج العاصمة البلجيكية، وما يقع لها من مفارقات، يقدّم الفيلم تعليقا
ساخرا على تردي الأحوال الاقتصادية (البطالة والبحث الشاق عن فرصة للعمل،
والعجز عن ملاحقة الفواتير المتتالية، واستغلال الشركات، وتفشي
البيروقراطية.. الخ). ولا ينسى صنّاع الفيلم في سياق الكوميديا التي تصل
إلى حدود العبث، توجيه رسالة تحية إلى متظاهري السترات الصفراء الذين
يحتجون على توحش الرأسمالية.
أما العنوان فهو تنبيه إلى ضرورة إزالة أي أثر لدردشات أو
صور أو شرائط من هاتفك المحمول، حتى تتخذ قرينة، للتشهير بك أو ابتزازك أو
ملاحقتك. والرسالة ببساطة هي: لا تترك شيئا وراءك فكل شيء مراقب. وهي رسالة
تتكرّر بأشكال مختلفة في الفيلم من خلال كوميديا المفارقات والمبالغات
والتعليقات اللفظية.
مشاكل الإجهاض في أميركا
أما الفيلم الأكثر اكتمالا بين الأفلام “الدرامية” التي
عرضت في مهرجان برلين السينمائي حتى الآن (مع الفيلم الروسي “نتاشا”)، فهو
الفيلم الأميركي “كلمة ‘نادرا’ غير موجودة.. و’أحيانا’ موجودة دائما”، وهي
أقرب ترجمة، ربما، لعنوان الفيلم الغريب
Never Rarely Sometimes Always
للمخرجة إليزا هيتمان.
هذا عمل شديد القوة والتماسك والتأثير. ينبع جماله الخاص من
صدقه الشديد، وقوة تماسكه وبراعة ممثلتيه، وهما بالفعل ممثلتان تملآن
الشاشة بعيونهما التي تكشف في صمت، عذابا لا يطاق.
أولهما هي “أوتام” (أي الخريف) فتاة السابعة عشرة، تريد
إجراء عملية إجهاض للتخلص من جنين جاء من علاقة عابرة مع شاب لا نراه وليس
مهمّا أن نراه. والثانية هي “سكايلر” وهي ابنة عمة أوتام وزميلتها في العمل
في “السوبرماركت”.
وهي تذهب معها في رحلة من بلدتهما في ريف بنسلفانيا إلى
نيويورك تجرّ حقيبة ضخمة لا نعرف طوال الفيلم ما الفائدة منها؟ لأن
الفتاتين كما سنرى لن تستقرا للحظة واحدة داخل غرفة فندق، بل ستقضيان يومين
في هذه المدينة المتوحشة، لا تجدان مكانا للارتياح سوى فوق المقاعد داخل
محطات قطارات الأنفاق، أو داخل دورات المياه العامة، بعد أن نفد كل ما
معهما من مال دفعته أوتام مقابل إجراء العملية المنشودة.
لكن الأمر ليس سهلا ولن يمر مرورا عابرا كما يتخيل المرء أو
يتصوّر أنه يجب أن يكون في أكثر بلد علماني يؤمن بحرية الفرد في العالم.
فسوف يتعين على الفتاة أن تمرّ باختبارات عديدة مهينة ومُجهدة، وتتعرّض
لمواقف تجد فيها نفسها مرغمة على الإجابة على عشرات الأسئلة منها ما يتعلق
بأدق تفاصيل حياتها الشخصية.
ومن هنا يأتي عنوان الفيلم، ففي أحد تلك الاختبارات يصبح
مطلوبا منها الإجابة بكلمة من 4 كلمات: (أبدا، أحيانا، نادرا، دائما) وكلها
أسئلة تتعلق بعلاقتها الجنسية بالشاب الذي عرفته ومارست معه الجنس وأنتج
هذا الحمل، وهي في السابعة عشرة.
وقيل لها في البداية نتيجة الاختبار الذي أجرته في بلدتها
إنها حامل في الأسبوع العاشر، لكنهم لا يستطيعون إجراء عملية إجهاض لها،
لأنها تحت السن القانوني (18 سنة) إلاّ بعد الحصول على موافقة والديها
الأمر الذي ترفضه. لذلك يتعين عليها الذهاب إلى نيويورك بعد أن تختلس
سكايلر مبلغا من المال من “السوبرماركت” الذي تعمل الاثنان فيه، لتغطية
تكاليف الرحلة والعملية.
ولكن بعد إعادة إجراء الاختبار في مصحة بروكلين بنيويورك
ستعرف الفتاة أن الحمل مدته 18 أسبوعا، وبالتالي لا يمكن إجراء الإجهاض في
هذه المصحة بل يتعيّن عليها التوجه في اليوم التالي إلى مصحة أخرى في
مانهاتن.
سيدني بلانيجان وتاليا ريدر قدّما في الفيلم الأميركي تحكما
مبهرا في الأداء، باستخدامهما المتقن للإشارات والإيماءات أكثر من الحوار
رحلة شاقة
يصوّر الفيلم تلك الرحلة الشاقة المضنية التي تكشف ما تتعرض
له الفتيات في المجتمع الحديث، من مهانة، وتضييق ويتعين عليهنّ وحدهنّ
دائما دفع الثمن باهظا من صحتهنّ النفسية والجسدية. أما “الرجل” فربما لا
يعلم شيئا عمّا يحدث لرفيقته بعد أن تخلّى عنها ونسيها.
هذا عمل مخلص كثيرا لتقاليد الواقعية، بحيث بدا كما لو كان
فيلما تسجيليا بما يصوّره من تفاصيل دقيقة عن واقع الحال في النظام الصحي
الأميركي ومشاكل التعامل مع المصحات والعيادات الخاصة في مثل هذه الحالات
والنفقات الباهظة التي يجب دفعها، مع الإشارة إلى وجود مؤسّسات خيرية تساعد
وترعى وتشارك في تغطية بعض المصاريف.
إننا نتابع جميع مراحل بحث الفتاة عن حل لمشكلتها ودخولها
ذلك النفق الطويل الذي تواجه فيه كل ما تواجهه دون طعام كافٍ ودون نومٍ
حقيقي أو راحة، بالإضافة إلى تصويره ما تتعرّض له فتاتان شابتان في مدينة
مثل نيويورك في الليل.
ورغم صرامة السرد، إلاّ أن الفيلم ليس عملا باردا رتيبا
يعرض الأحداث في تواترها من على مسافة، فالمخرجة تختار أسلوبا في التصوير
يجعلها تحصر الفتاتين معظم الوقت، في لقطات قريبة للوجهين أو اليدين،
وأحيانا لجزء من الوجه والعينين، للكشف عن الانفعالات الصامتة المكتومة،
خاصة وأن الفتاة محور الفيلم أوتام لا تتكلم كثيرا بل هي تميل للصمت وتبدو
حزينة مهمومة معظم الوقت.
والحقيقة أن من أهم أسباب تميز الفيلم فنيا ذلك الاختيار
المدهش للممثلتين الشابتين اللتين تقومان بالدورين: سيدني بلانيجان وتاليا
ريدر والتحكم في أدائهما، فهما تستخدمان الإشارات والإيماءات أكثر من
الحوار، ورغم الضغط الذي يكاد يصل أحيانا إلى الانفجار، إلاّ أن التماسك
بينهما يبقى قائما.
أوتام مثلا تصرّ على عدم الاتصال بأمها وإبقاء أمر الحمل
خافيا على أسرتها، وهي تتحمل كل ما تمرّ به من معاناة في صمت وصلابة،
تدعمها سكالير بقوة طوال الوقت. وكثيرا ما يصبح الصمت في الفيلم أكثر بلاغة
في التعبير عن الألم. ولعل ما يجعل هذا الفيلم يشدنا بموضوعه المقبض
المؤلم، اقترابه المباشر من الواقع، من حقيقة ما يحدث لفتاة مشوشة لا تعرف
الكثير عن هذا العالم، وثانيا تلك الكيمياء التي نجحت إليزا هيتمان في
توليدها في العلاقة بين الممثلتين.
هذا فيلم من أفلام الاحتجاج، ولكن من دون صراخ ومبالغات
ميلودرامية وشعارات مباشرة، وهو مرة أخرى، عن المرأة كضحية للرجل وهي
الثيمة السائدة في عدد كبير من أفلام مسابقة مهرجان برلين الـ70. ولا بد أن
تنعكس على نتائج المهرجان التي ستعلن، مساء غد السبت.
كاتب وناقد سينمائي مصري |