المهرجان في دورته الحالية يراهن على الأسماء الحديثة نسبيا
في عالم الإخراج، فالمسابقة لا تتضمن أفلاما للأسماء الكبيرة المرموقة.
في عصر الحركة النسائية الجديدة التي برزت من معطف “أنا
أيضا”، وانعكست بقوة على صناعة السينما وصناعة المهرجانات السينمائية، مع
المطالبة بحضور أكبر لأفلام المخرجات وللمرأة عموما، جاء قرار تعيين مدير
فني ومديرة تنفيذية، أي رجل وامرأة، على رأس مهرجان
برلين السينمائي ليحلا
محل المدير السابق ديتر كوسليك.
أدار ديتر كوسليك مهرجان
برلين السينمائي لمدة
18 عاما. وقد نجح في توسيع رقعة نشاطاته، وجعله واحدا من مهرجانات القمة
الثلاثة، وبنى شبكة علاقات واسعة مع صناع ونجوم السينما الأميركية، وهي
السينما الأهم في العالم. إلاّ أن المهرجان بدا خلال السنوات الأربع
الأخيرة، وكأنه قد بلغ شيخوخته، وأصبح يعاني من التراجع والعجز عن المنافسة.
وجاء قرار إحالة كوسليك إلى التقاعد من إدارة المهرجان،
وإسناد إدارته إلى الصحافي الإيطالي كارلو شاتريان كمدير فني، والمنتجة
السينمائية الهولندية مارييت ريسنبيك كمديرة تنفيذية، كصيغة مزدوجة قُصد
منها تحقيق التوازن بين الجنسين. وهي المرة الأولى التي يشترك في إدارة
المهرجان اثنان، ولا وجود لها في المهرجانات الكبرى.
ازدواجية الإخراج
يمكن ملاحظة هذه “الازدواجية” أيضا في اختيارات المسابقة
الرسمية للدورة الـ70 التي تفتتح في العشرين من فبراير الجاري وتختتم في
الأول من مارس القادم. الملاحظة الأولى أن المسؤولين عن المهرجان يعملون
لمدة سنة كاملة، يشاهدون خلالها مئات الأفلام من جميع أنحاء العالم، ثم
يتمخض الجبل فيلد فأرا.
فمهرجان دولي كبير يفترض أن يعرض في مسابقته الرسمية التي
تستقطب عادة الأضواء، ما لا يقل عن 20 فيلما. لكنه يعجز عن العثور على 20
أو 21 فيلما تصلح للتنافس على جائزة “الدب الذهبي” فيكتفي بـ18 فيلما. ولكن
يقل التعجب إذا تذكرنا أن دورة العام الماضي لم يشارك في مسابقتها سوى 17
فيلما فقط.
من بين الأفلام الـ18 في مسابقة الدورة الـ70، خمسة أفلام
اشترك في إخراجها اثنان من المخرجين (بعضها بالتشارك بين رجل وامرأة). وهي
ظاهرة غير مسبوقة أيضا، علما بأن هذه الأفلام ليست من إخراج الثنائيات
المرموقة المعروفة عالميا مثل الأخوين كوين في أميركا. وليس معروفا سر ولع
المديرين الجديدين بهذه الازدواجية!
مهرجان برلين يشترك في إدارته هذا العام رجل وامرأة، وهي
سابقة لا وجود لها في المهرجانات الكبرى
هناك أيضا رغبة في ضم أكبر عدد من أفلام المخرجات. وفي
مسابقة هذا العام 6 أفلام مشتركة من إخراج نساء أو اشتركت في إخراجها نساء.
وليس معروفا هل يعكس هذا ارتفاعا في عدد الأفلام “الجيدة” للمخرجات، أم أنه
مجرد تأكيد على فكرة حضور المرأة بغض النظر عن المستوى؟
وكان مهرجان فينيسيا قد قاوم بشجاعة يحسد عليها مديره الفني
ألبرتو باربيرا، الضغوط الإعلامية التي مورست عليه من أجل رفع عدد أفلام
المخرجات في مسابقة مهرجانه التي بلغت 21 فيلما، لكنه أصرّ على أن المعيار
الوحيد هو الجودة الفنية.
أفلام مسابقة برلين تمثل 18 دولة، من بينها 16 فيلما تعرض
للمرة الأولى على المستوى العالمي وفيلمان سبق عرضهما من قبل، والطريف
أنهما لمخرجتين، وهما إليزا هيتمان الأميركية وفيلمها “ليس نادرا وأحيانا
دائما”، وزميلتها الأميركية أيضا كيلي ريتشارد وفيلمها “البقرة الأولى”
(بطولة علياء شوكت الأميركية من أصل عراقي).
والأول عرض في مهرجان صندانس في يناير 2020، والثاني عرض في
مهرجان تليرويد في أغسطس 2019. فهل هناك سبب فني ملح دفع إلى الاستعانة
بفيلمين سبق عرضهما من قبل؟ أم أن الاختيار يعكس رغبة المسابقة في وضع أكبر
عدد ممكن من الأفلام “المعقولة” لمخرجات؟ هذا ما ستجيب عنه مشاهدة
الفيلمين، إلاّ أنني لست ممن يؤمنون بازدواجية الإدارة بشكل عام. فوجود
مديرين اثنين لا يؤدي سوى إلى التناطح وهو ليس في صالح المهرجان نفسه!
من “الأفلام النسائية” هناك أيضا فيلم للمخرجة النيوزيلندية
سالي بوتر بعنوان “الطرق التي لم نسلكها”، وهو من الإنتاج البريطاني وبطولة
سالما حايك وخافيير بارديم وإيل فاننغ. وقد يكون هذا هو الفيلم الوحيد من
أفلام المسابقة، الذي يضم نجوما معروفين للجمهور. وهناك فيلم آخر بعنوان
“المتطفل” للمخرجة الأرجنتينية ناتاليا ميتا، وهو فيلمها الروائي الثاني.
رهان على الأسماء الجديدة
يفتتح المهرجان بالفيلم الكندي – الأيرلندي “عامي مع
سالينجر” للمخرج فيليب فلاردو ويروي قصة كاتبة شابة تعمل كمساعدة في وكالة
ناجحة للأعمال الأدبية الخاصة بالكاتب الأميركي الشهير ج. د. سالينجر،
تتولى الرد على خطابات المعجبين بروايته “الوحيدة” “الحارس في حقل الشوفان”
التي أحدثت ضجة في الخمسينات وأصبحت أيقونة الشباب. والفيلم من بطولة
مرغريت كوايلي والنجمة الأميركية سيغورني ويفر.
ويراهن المهرجان على الأسماء الحديثة نسبيا في عالم
الإخراج، فالمسابقة لا تتضمن أفلاما للأسماء الكبيرة المرموقة، ورغم ذلك
هناك من أفلام الأسماء القديمة المعروفة فيلم للمخرج الأميركي (من أصل
إيطالي) أبيل فيرارا بعنوان “سيبيريا”، وهو من الإنتاج الإيطالي الألماني
المكسيكي المشترك. وهو فيلم ناطق بالإنجليزية من بطولة وليم دافو في سادس
تعاون بينه وبين فيرارا الذي يصوّر في فيلمه هذا رحلة إلى بلدان عدة من أجل
اكتشاف سر اللغة.
وهناك فيلم آخر للمخرج التايواني المعروف تساي مينغ ليانغ،
وهو فيلم “أيام”. وكان قد سبق أن حصل ليانغ على “الدب الذهبي” في مهرجان
برلين عام 1994 عن فيلمه “يحيا الحب”. ويشارك المخرج الألماني كريستيان
بيتزولد بفيلمه الجديد “أوندين”، وسبق له الفوز بجائزة الأسد الفضي عن فيلم
“باربره”
(2012).
من كوريا يشارك فيلم “المرأة التي جرت” للمخرج هونغ
سانغوسو، وهو من أهم مخرجي كوريا الجنوبية وفيلمه الجديد هو السابع
والعشرون، والفيلم من الأفلام القليلة التي تنتمي إلى دولة واحدة إنتاجيا،
ولا تدخل طرفا في الإنتاج المشترك مع غيرها من الدول.
من إيطاليا أيضا يشارك فيلم “مخفي بعيدا” للمخرج جيورجيو
ديريتي، الذي يصوّر الحياة الشاقة للرسام الإيطالي أنطونيو ليغاوبي، أحد
أشهر فناني القرن العشرين، الذي عاش لسنوات في عزلة، وكان يعاني من
اضطرابات نفسية وعصبية.
ومن فرنسا يشارك فيلم “اشطب التاريخ” للمخرجين بينوا ديلفين
وغوستاف كيرفيرن، ولكن هناك أربعة أفلام أخرى تدخل فيها فرنسا طرفا في
الإنتاج. كما أن الدولة المضيفة، ألمانيا، تشارك في المسابقة بخمسة أفلام
بالمشاركة في الإنتاج مع دول أخرى مثل سويسرا وفرنسا وهولندا وأوكرانيا
وأميركا وروسيا وبريطانيا وجمهورية التشيك وإيران.
المخرج محمد رسولوف المحظور في إيران، يشارك في المهرجان
بفيلم "لا وجود للشر"، المستمد من كتاب الكاتبة حنا أرندت
الإيراني المحظور
هذا “التشابك الإنتاجي” عادة ما يثير الارتباك عند التعامل
مع تلك الأفلام، خاصة عندما يتعلق الأمر بفيلم مثل الفيلم الإيراني “لا
وجود للشر” للمخرج محمد رسولوف، فموضوعه إيراني، يدور في إيران، ويشارك فيه
ممثلون إيرانيون. والأفضل في هذه الحالة أن ينسب الفيلم إلى مخرجه لو كان
موضوعه قد صوّر في بلد المخرج وفي سياق ثقافته الخاصة، وليس طبقا لما يسمى
“بلد المنشأ”.
محمد رسولوف صاحب “لا تحرق المخطوطات” و”رجل شريف” كان قد
حكم عليه في يوليو الماضي بالسجن لمدة سنة، والمنع لمدة سنتين من مغادرة
إيران بسبب ما نسب إليه من “نشر دعايات كاذبة بقصد زعزعة النظام”. وهي
التهمة التي توجه عادة إلى المثقفين والمبدعين في إيران.
وليس معروفا بالتالي ما إذا كانت السلطات ستسمح له بحضور
المهرجان، أو سيوضع له مقعد يظل خاليا كما حدث في دورة سابقة من المهرجان
حينما عرضت أفلام المخرج جعفر بناهي “وراء الستار” و”تاكسي” و”3 وجوه” دون
حضوره!
فيلم رسولوف الجديد من إنتاج كافا فارنام مدير شركة
“أدفانسد ميديا” ومقرها دبي، وهو يقوم على فكرة مستمدة من كتاب الكاتبة حنا
أرندت حول “تفاهة الشر”.
ألمانيا تحاول عن طريق الإنتاج المشترك، خاصة مع الدول
الأوروبية، تأكيد وجودها في قيادة الاتحاد الأوروبي. ومن جهة أخرى تنافس
فرنسا في دعم وتمويل الأفلام الجريئة فنيا التي تتجاوز المألوف، وخاصة إذا
كانت من إخراج مخرجين من المهمشين أو الممنوعين من العمل أو التي تواجه
أفلامهم المتاعب مع السلطات، في الصين وإيران وروسيا وغيرها.
لهذا السبب يميل مهرجان برلين عادة إلى “تهميش” السينما
الأميركية، ولذلك لا يشارك سوى فيلمين فقط من الأفلام الأميركية القديمة
نسبيا، أي التي سبق أن شاركت في مهرجانات أخرى، كما أوضحت من قبل.
المخرج الروسي إيليا كرانوفسكي يقدّم فيلمه الجديد “ابنتي
ناتاشا” الذي أخرجه بالاشتراك مع فنانة المكياج المعروفة جيكاترينا أويرتل.
ويقدّم المخرج الأفغاني الألماني برهان قرباني (مخرج فيلم “شهادة”) فيلمه
السادس “برلين ألكسندر بلاتز” في المهرجان وهو نفس عنوان المسلسل
التلفزيوني الطويل الذي أخرجه المخرج الألماني الراحل راينر فيرنر فاسبندر
عن تلك المنطقة الشهيرة في شرق برلين. ومصدر الفيلم الجديد هو نفس مصدر
مسلسل فاسبندر من عام 1980، أي رواية الكاتب الألماني ألفريد دوبلين من عام
1929.
3
أفلام من سويسرا
سويسرا تمثل في المسابقة بثلاثة أفلام منها فيلم مشترك مع
فرنسا هو “ملح الدموع” للمخرج الفرنسي فيليب غاريل، والثاني مشترك مع
إيطاليا وهو “حكايات رديئة”، إخراج الثنائي داميانو وفابيو دينوسينزو. أما
الفيلم الثالث فهو “أختي الصغيرة”، وهو من إخراج الثنائي ستيفاني شوات
وفيرونيك ريموند. ومن كمبوديا يشارك المخرج ريثي بنه، صاحب فيلم “الصورة
الأخيرة” بفيلمه الجديد من التمويل الفرنسي بعنوان “تعرّض للإشعاع”، وهو
الفيلم التسجيلي الوحيد في المسابقة. يبقى فيلم واحد من البرازيل وهو “كل
الموتى” للثنائي كايتانو غوتاردو وماركو دوترا.
وكان الإعلان عن إسناد رئاسة لجنة التحكيم الدولية إلى
الممثل البريطاني جيرمي إيرونز (71 عاما) قد أثار موجة من الاحتجاجات في
الصحافة الألمانية، بدعوى أن إيرونز كان قد أدلى بتصريحات اعتبرت عنصرية
قبل نحو عشر سنوات، منها ما يتعلق بموضوع حساسية المرأة تجاه أي احتكاك
بالرجل، ومنها ما يتعلق برفضه زواج المثليين.
وقد دافع المدير الفني للمهرجان عن اختيار إيرونز، وقال إن
إيرونز اعتذر وأوضح أن تصريحاته أفرغت من سياقها، وأنها لا تمثل موقفه
الحقيقي. وهذه هي الموجة الأولى من الهجوم الإعلامي على الإدارة الجديدة،
ومن المتوقع أن تتعرّض الإدارة لموجات أخرى من الهجوم بعد أن يبدأ
المهرجان، خاصة إذا ثبت أن أفلام المسابقة لا تتجاوز كثيرا اختيارات
العامين الأخيرين اللذين اعتبرا الأسوأ خلال العشرين عاما الأخيرة.
تخلو المسابقة تماما من الأفلام العربية والأفريقية، لكن
ضمن لجنة التحكيم الدولية لأفلام المسابقة المخرجة الفلسطينية آن ماري
جاسر، ويخصّص المهرجان عروضا خاصة خارج المسابقة، تضم 20 فيلما من 19 دولة،
من بينها 15 فيلما ستعرض للمرة الأولى عالميا.
ومن بين هذه الأفلام، الفيلم الإسرائيلي التسجيلي “شبير
يذهب إلى هوليوود” عن ألبرت شبير المهندس المعماري الذي أصبح وزيرا في
حكومة هتلر، إخراج فانيسيا لابا، وفيلم التحريك أو الرسوم المنتظر من
أستوديو بيكسار “إلى الأمام” الذي أخرجه دان سكانلون.
وفي قسم “الملتقى” يعرض الفيلم المصري القصير “الموعود” (19
دقيقة) إخراج أحمد الغنيمي، والفيلم الإماراتت “هبوط” المتوسط الطول (63
دقيقة) إخراج اللبناني أكرم زعيتري. كما يعرض الفيلم اللبناني “كما في
السماء كذلك على الأرض” (70 دقيقة)، وهو عمل تجريبي من إخراج ساره فرنسيس.
ضمن “العروض الخاصة” يعرض فيلم “بينوكيو” للمخرج الإيطالي
ماتيو غاروني، وهو معالجة درامية جديدة لرواية “مغامرات بينوكيو” لكارلو
كولودي (1883)، ومن بطولة روبرتو بينيني.
ورغم هامشية الحضور الأميركي، يتوقع حضور عدد كبير من نجوم
السينما الأميركية للمشاركة في الاحتفال بمرور 70 عاما على تأسيس المهرجان.
كاتب وناقد سينمائي مصري |