أكثر الأمور مدعاة -لا للضحك- بل للاستياء الشديد، فهو ما
أعلنه المسؤولون عن المهرجان أخيرا من أنه من أجل مكافحة انتشار وباء
كورونا سيقومون بوضع علب تحوي مادة مطهرة في أماكن مختلفة من المهرجان.
يخطئ خطأ فادحا كل من يؤمن بما يسمى بـ”العبقرية
الألمانية”. فمهرجان برلين السينمائي الذي ستفتتح دورته الجديدة الأسبوع
المقبل، وهو مهرجان قديم أقيم لأول مرة عام 1951، قام قبل سنوات بإحلال اسم
مضحك لا يفهمه سوى سكان المدينة محل اسمه التاريخي.
فبعد أن كان الاسم المعروف هو “مهرجان برلين السينمائي
الدولي” أصبح يطلق على نفسه اسم “برليناله”، وهي كلمة غريبة وأنا شخصيا لم
استخدمها ولا استخدمها أبدا في كتاباتي عن هذا المهرجان، فهو يبقى بالنسبة
لي كما بالنسبة للغالبية العظمى من نقاد السينما في العالم “مهرجان برلين
السينمائي”.
ولكن هناك من يستخدمها من الصحافيين العرب ربما تأثرا بما
تنقله قناة “دويتش فيلله” الألمانية أو موقعها على شبكة الإنترنت باللغة
العربية، وأشك كثيرا أن يفهم الكلمة القراء العرب بالطبع وأولهم حضرتي، بل
ولا يهمني أن أفهمها أصلا، فالكلمة يجب أن تكون ذات معنى في سياق اللغة
التي توجد فيها وإلاّ صارت مجرد لغو.
وقد اقتضى الأمر من المهرجان نفسه أكثر من عشرين عاما إلى
حين أن أدرك القائمون عليه (هناك إدارة جديدة هذا العام) أنه لا يصح أن
توجد أفلام في البرنامج يطلقون عليها “داخل المسابقة- خارج المسابقة” بدلا
من “البرنامج الرسمي- خارج المسابقة” كما تفعل المهرجانات التي تدرك أهمية
اللغة!
وربما أكون أنا الوحيد الذي أبدى اعتراضا من قبل على هذه
المسألة وتحدثت فيها مع المسؤولين عن المكتب الصحافي، ولكن دون جدوى
بالطبع، فالتغيير شبه مستحيل في ألمانيا والبيروقراطية أبشع كثيرا من
البيروقراطية الإنجليزية، وكنت أتصوّر أن الألمان أقل تمسكا بالتقاليد
القديمة مثل الإنجليز، ولكني اكتشفت أنهم يخضعون لها بشكل غريب حقا.
وعندما كنت أناقش مسألة التناقض في عبارة “في المسابقة-
خارج المسابقة” مع بعض النقاد الأجانب الأقدم مني حضورا لهذا المهرجان،
كانوا يتوقّفون ويفكّرون طويلا وكأنهم اكتشفوا فعلا أمرا غريبا للمرة
الأولى لم ينتبهوا له من قبل. ولكنهم أيضا قالوا إنهم لا يفهمون معنى أن
تكون هناك أفلاما في المسابقة ولكن خارج المسابقة. لكن الحمد لله أن بعض
الألمان من المديرين الجدد، فهموا أخيرا هذا التناقض المحيّر الذي كان يؤدي
إلى أخطاء كثيرة في التقارير التي تنشر عن مسابقة المهرجان.
مهرجانا كان والبندقية هما الأرقى في العالم، بسبب وضوح
الأقسام وعددها وعدم تفرعها إلى تسميات من دون
هدف
أما ما يبقى عصيا على الفهم فيما يتعلق بأسرار “العبقرية
الألمانية” أنه بعد أن كان للمهرجان موقع على شبكة الإنترنت، جذّاب وجيّد
التصميم ويسهل التعامل معه، ويتيح لنا الفرصة لخلق حساب يمكن من خلاله عمل
“أجندة” خاصة للتعامل اليومي مع أفلام المهرجان وأحداثه وفعالياته، ويمكن
للمرء ربطها بهاتفه المحمول لتسهيل الدخول إلى الموقع وتحديد ما يريد
مشاهدته، قاموا هذا العام بإلغاء الموقع كله وإلغاء الأجندة وإلغاء إضافة
الأفلام إلى جدولك الخاص بعد أن أنشأوا موقعا جديدا أقل جاذبية وفعالية من
الموقع القديم. ومرة أخرى وقفت أتساءل عن كيف تعمل هذه “العبقرية”!.
ولا يقتصر الأمر على هذا فقط، بل إنك إن أردت مثلا أن تعثر
على قائمة أفلام المسابقة التي أعلن عنها بالفعل، داخل موقع المهرجان ودخلت
على قسم بعنوان “المسابقة الرسمية” لن تجد سوى تعريف بالمسابقة وجوائزها
وتاريخها، لكنك لن تجد قائمة الأفلام المتسابقة هذا العام. وكذلك الأمر
بالنسبة لباقي الأقسام.
العبقرية الألمانية أيضا ابتكرت أقساما فارغة المعنى مثل:
الملتقى، الملتقى الممتد أو امتداد الملتقى، جيل، جيل 14.. وأقساما عديدة
أخرى مربكة ومحيرة تماما، مع أعداد هائلة من الأفلام. لذلك يظل مهرجانا كان
وفينيسيا هما الأفضل والأرقى في العالم في رأيي الشخصي، بسبب دقة التقسيم
(ولننس الآن مسألة التنظيم فهو مفروغ منه في المهرجانات الأوروبية بوجه
عام)، أي وضوح الأقسام وعددها وعدم تفرعها إلى أقسام من داخل أقسام وتسميات
من داخل تسميات دون هدف أو معنى.
أما أكثر الأمور مدعاة -لا للضحك- بل للاستياء الشديد، فهو
ما أعلنه المسؤولون عن المهرجان أخيرا من أنه من أجل مكافحة انتشار وباء
كورونا سيقومون بوضع علب تحوي مادة مطهرة في أماكن مختلفة من المهرجان. أما
الوافدون والضيوف القادمون من الصين فسيوزعون عليهم بعض الإرشادات في
المطار. وبالتالي أصبح وجودك داخل قاعات العرض التي تمتلئ عن آخرها
بالمشاهدين، وكثيرون منهم من لا يتوقفون عن السعال والعطس.. الخ، مسـألة
محفوفة بأشد المخاطر حقا.
وكنت أتوقع أن تكون إجراءات التأمين على القادمين من الصين
مثلا، وغيرها من المناطق الموبوءة أشد حزما وصرامة. لكن “العبقرية
الألمانية” ستظل تدهشك!
هل كان الأفضل مثلا أن يقوم مسؤولو المهرجان بتوزيع كمامات
على المشاهدين بحيث تصبح العروض السينمائية الحديثة في واحد من أكبر
مهرجانات الأفلام السينمائية من حيث عدد الأفلام وعدد الجمهور، عروضا
بكمامات؟!
لا أعرف. سأكون في المهرجان لأكتب لـ”العرب” من هناك عن كل
ما أراه من أفلام جديرة بالاهتمام، وكذلك عن كيفية تعامل “العبقرية
الألمانية” مع هذه الظواهر الجديدة، كما سأراعي الابتعاد بقدر ما أستطيع،
عن الذين يسعلون ويعطسون خلال العروض السينمائية. ولله الأمر من قبل ومن
بعد!
كاتب وناقد سينمائي مصري |