ألان دولون في كانّ: كيف تستطيعون النظر إليّ بعدما رأيتم
كيف كنت في الماضي؟
كانّ - هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
في حوار مع "باري ماتش" العام الماضي، لمناسبة مرور ٦٠ سنة
على بداياته، قال ألان دولون: "الحياة ما عادت تعطيني أي شيء. عشتُ كلّ
شيء، رأيتُ كلّ شيء. أكره هذا الزمن. أتقيأه. كلّ شيء أصبح زائفاً. لم يعد
للاحترام وجود. لا قيمة لغير المال. طوال اليوم لا نسمع الا عن جرائم.
تقريباً، كلّ الذين أعرفهم ماتوا. أعلم أنني سأترك هذا العالم بلا أي شعور
بالندم".
يوم الأحد الماضي، عاش دولون يوماً مجيداً في مهرجان #كانّ (١٤
-٢٥ الجاري) في مناسبة تكريمه بـ"سعفة" شرفية وعرض "موسيو كلان" (١٩٧٦)
لجوزف لوزي من بطولته. ضحك، بكى، وقّع أوتوغرافات، تألم كثيراً لدى رؤية
صور الماضي المنبعثة من الشاشة، وزّع ابتسامات للجمهور، تذكّر النساء
اللواتي دفعن بهذا الوجه إلى الشاشة، وهو وجهٌ غالب الظن انه لن يتكرر.
وأخيراً، اعترف بأنه صنيعة الجمهور. دولون ٢٠١٩، لم يعد يتكلّم عن نفسه
بصيغة الغائب، كحيوان جميل خرج من الحجرة للهجوم على فريسته، فأغوى الجميع،
الرجال قبل النساء، حدّ دفعنا إلى الاستغراب أن هذا الذي كان يائساً قبل
عام هو نفسه الذي يقف اليوم أمام الجمهور بابتسامة عريضة وبشعور بالرضا لم
يحاول ان يخفيه قط.
في حوار جماهيري مع الناقد والمؤرخ سامويل بلومنفلد قبل
ساعات من تسلّمه الجائزة في مسرح لوميير، استعاد دولون البالغ من العمر ٨٣
عاماً، سيرته المهنية كلها، مذ جاء إلى كانّ للمرة الأولى في العام ١٩٥٦.
آنذاك، لم يكن يعرف شيئاً أو أحداً، بل كان قد عاد للتو من حرب الهند
الصينية (حيث كان عسكرياً، فأُغرمت به الممثّلة بريجيت أوبير (مثّلت في
"القبض على لصّ" لألفرد هيتشكوك) ودعته إلى مرافقتها إلى كانّ. يشدد دولون
مراراً ان وسامته جذبت الأنظار آنذاك.
اعترف دولون غير مرة خلال المقابلة، انه لولا لقاؤه
بالسيدات اللواتي التقى بهن، لكان ميتاً منذ زمن بعيد. "هؤلاء النساء حاربن
من أجلي، من أجل ان أصبح ممثلاً".
أوّل فيلم مثّل فيه دولون الذي دخل التمثيل بالمصادفة، هو
"عندما تتدخل المرأة" لإيف أليغريه. يتذكّر ماذا قال له المخرج قبل بدء
التصوير. كلام كان درساً له لبقية حياته: "لا تمثِّل، تكلَّم مثلما تتكلم
في الحياة، انظر مثلما تنظر في الحياة، اسمع مثلما تسمع في الحياة، كن أنت،
لا تمثّل، عش!".
استعاد دولون خبريات كثيرة من الماضي، منها مثلاً انه شاهد
"لا تلمسوا المال" من بطولة جان غابان عندما كان في سايغون في العام ١٩٥٥.
وعندما مثّل إلى جانب غابان في "نغمة تحت الأرض" بعدها بسنوات قليلة، أخبره
القصّة، فمات غابان ضحكاً. لم يدرس دولون التمثيل، وضعه أليغريه أمام
الكاميرا، وهكذا بدأ كلّ شيء. لكنه، في المقابل، شعر بسرعة بارتياح كما لو
كان "مكتوباً" له ان يمارس هذه المهنة. لم يحسّ بغربة يوماً، كانت الكاميرا
عنده "كامرأة ينظر في عينيها".
بعدها بعام، اختير دولون الذي صرّح بأنه لم يكن له يوماً
مدير للأعمال يدير أموره، ليكون شريك رومي شنايدر في "كريستين"، قبل ان
يطير صيته عالمياً في العام ١٩٥٩ عندما أُسند دور البطولة في "كلها شمس"
إلى رينه كليمان. في البداية، رفض الدور الذي أُعطي له، قبل ان يظفر بدور
المجرم ريبلي الذي كان من المفترض ان يجسّده موريس رونيه.
بعد عرض مشهد من "كلها شمس"، صاح دولون للجمهور: "كيف
تستطيعون النظر إليَّ اليوم، بعدما رأيتم كيف كنت في الماضي؟".
قال بلومنفلد لدولون الذي يُعتبر من الممثّلين الغرائزيين،
ان لا أحد يتحرك مثله داخل الكادر، وما إن يدخل فضاءً حتى يجعله فضاءه. ربط
دولون ذلك بعمله مع كليمان.
بعد خروج "كلها شمس" إلى الصالات، شاهد لوكينو فيسكونتي
الفيلم، وأراده فوراً لدور روكّو في تحفته "روكّو وأخواته". وبعد عرض مشهد
شهير من الفيلم يظهره مع آني جيراردو وهما في أعلى كاتدرائية ميلانو، تأثّر
وبكى. "رؤية آني تقتلني. انها رائعة".
دولون المتحدر من بيئة فقيرة، تربّى في الضواحي. عن نفسه
يقول: "أنا كلّ شيء وأنا لا أحد، أنا ما فعله الآخرون بي"، موضحاً أنه
لطالما رفض التكريمات والجوائز لأن السينمائيين (يعتبرهم قادة أوركسترا)
الذين عمل وأياهم أكثر أهلا لها. الا انه لما أدرك انهم ماتوا جميعاً، قرر
ان يأخذها (الجائزة) بالنيابة عنهم.
كشف دولون ان أحد أفلامه المفضّلة هو "رجلان في المدينة"
لجوزيه جيوفانّي (١٩٧٣) المناهض لعقوبة الاعدام. أما "المستعصي" لألان
كافالييه (أول مخرج من جيله عمل معه دولون) المناهض لحرب الجزائر، فكان أول
فيلم ينتجه، ما جعله لاحقاً ممثلاً مستقلاً يتحكّم بمصيره، كما قال
بلومنفلد. الرأي الذي يعلّق عليه دولون قائلاً: "لستُ مؤلفاً. لا أجيد
الكتابة، لم أذهب إلى المدرسة، قوتي الوحيدة كانت ان أكون سيد الفيلم،
والطريقة الوحيدة لأصبح السيد كانت ان أنتج الفيلم. أتاح لي هذا ان أشغّل
الناس الذين أريدهم. صرتُ منتجاً جراء عدم قدرتي على أن أكون مؤلفاً".
"الموجة
الجديدة"، ترى ما هي بالنسبة إلى دولون؟ يقول ان جماعتها لم يرغبوا يوماً
في العمل معه، "لأن دولون في مخيلتهم كان يعني فيسكونتي وكليمان وملفيل"،
باستثناء غودار الذي صوّر معه – يا لسخرية القدر - فيلماً عنوانه "موجة
جديدة" بعد سنوات. والحق انه لا يكترث بتاتاً لعدم اكتراثهم به.
ثلاثة أفلام مثّل فيها دولون يوم ذهب إلى هوليوود، نزولاً
عند رغبة المنتج الاسطوري ديفيد سلزنيك. تلك فترة من حياته لم تكن الأنجح.
ثم عاد إلى فرنسا لأنه كان بدأ يشتاق إلى باريس وفرنسا والسينما الفرنسية،
فقال "شكراً" للأميركيين وعاد.
"الساموراي"
(١٩٦٧) ألّفه جان بيار ملفيل وفي باله دولون، وما كان ليُنجز لو رفضه
الأخير. روى انه جاء اليه ملفيل ليقرأ له السيناريو، وبعد خمس دقائق، وافق
على تجسيد دور جف كوستيللو الاسطوري في واحدة من روائع السينما. على نقيض
معظم الممثّلين، لم يحتج دولون إلى نصّ ليثبت براعته، اذ بدا سيداً في
المشاهد الصامتة.
التجربة مع ملفيل تكررت ثلاث مرات، ومعاً شكّلا واحدة من
أكثر الثنائيات انسجاماً في تاريخ السينما. روى دولون أنه كان له مشروع
رابع مع ملفيل، في عنوان "أرسين لوبين"، الا ان الموت خطفه خنقاً اثر تعرضه
لنوبة ضحك.
في "حوض السباحة" (١٩٦٩) لجاك ديراي الذي يقول عنه دولون
إنه غير قادر على مشاهدته من شدة ما يجعله حزيناً، فرض رومي شنايدر على
المنتجين، شنايدر التي كان نجمها قد خفت في هاتيك الفترة. خرج الفيلم إلى
الصالات وحقق نجاحاً باهراً فاتحاً المجال لشنايدر ان تصبح احدى سيدات
السينما الفرنسية في ادارة كلود سوتيه.
أخيراً، تحدّث دولون عن فيلم "موسيو كلان" الذي أخرجه
الشيوعي الأميركي جوزف لوزي المُدرج على اللائحة السوداء في عهد
الماكارثية، وكان دولون سبق ان مثّل في "اغتيال تروتسكي" للوزي. أشاد
بلومنفلد برحابة صدر دولون الذي تعامل مع سينمائيين من معسكر إيديولوجي
مختلف، كونه ينتمي إلى مدرسة ديغول السياسية. موسيو كلان يروي حكاية تاجر
تحف (دولون) خلال فترة ارسال اليهود الفرنسيين إلى مخيمات الاعتقال على يد
الجمهورية الفرنسية في تموز ١٩٤١. فصل معيب وتابو من تاريخ فرنسا. الفيلم
يشكّل في نظر بلومنفلد ذروة المجازفة التي حملها على عاتقه ممثّل في ذروة
مجده. |