فيلو ودورنيليس الفائزان بجائزة لجنة التحكيم في كانّ ٧٢:
وددنا ردّ الاعتبار إلى ضحايا التمييز
هوفيك حبشيان
-
المصدر: "النهار"
"باكوراو"
عن قرية برازيلية منسية، فيلم غريب اللهجة، "لقيط"، شكلاً ومضموناً، فاز
عنه البرازيليان كليبير مندونسا فيلو وشريكه في الإخراج جوليانو دورنيليس
بجائزة لجنة التحكيم (مناصفةً مع "البؤساء" للادج لي) خلال الدورة الأخيرة
من مهرجان كانّ السينمائي التي أقيمت الشهر الماضي.
الاحساس الأبوكاليبتي يخيّم على كلّ لقطة، منذ الافتتاحية
حتى لحظة الختام. التناغم الذي يعيش فيه أهل القرية يهتز مع دخول بعض
السياح إليها وانطلاق أحداث دموية. فجأةً، يكتشفسكّانها انهم لم يعودوا على
الخريطة. عن المرجعيات السينمائية التي ألقت بظلالها على الفيلم والتمييز
المناطقي الذي أمسى أهل شمال شرق البرازيل ضحاياه التاريخيين، أجرينا هذا
اللقاء مع مخرجَي الفيلم.
جوليانو دورنيليس: كلّ شيء بدأ بحوار بيننا حصل خلال وجودنا
في مهرجان سينمائي. فقررنا ان نعمل معاً على إخراج هذا الفيلم. سبق ان
اشتغلنا معاً على أفلام قصيرة. لم نخطط لشيء. حصل فحسب. منذ صغري، أحببتُ
كتابات كليبير. هو يصغرني بـ١١ عاماً. كنت أتابع مقالاته عن السينما
بحماسة. ثم، بدأتُ أرتاد "سينما دو فونداسون"، أهم صالة في ريسيفي، حيث كان
يعمل مبرمجاً. هكذا التقينا. بدأنا نتحدّث عن الأفلام. ثم دخلتُ مجال
السينما، فدعاني إلى العمل معه.
كليبير مندونسا فيلو: أشتاق إلى النقد السينمائي، لكني أؤمن
انه مرحلة ولّت من حياتي. أشبه بشخص أحببته تربطك فيه الآن علاقة طيبة، الا
انك تعلم انها لن تعود لتصبح علاقة غرامية. أفتقد الأدرينالين. في كانّ،
هذه المرة، لم أشاهد سوى ٤ أو ٥ أفلام. كنت أشاهد ٤٠ عندما أحضر إلى هنا
للكتابة، علماً ان رقمي القياسي هو ٤٦ فيلماً، مع كتابة يومية.
دورنيليس: لطالما كان وحشاً (ضحك).
باكوراو
فيلو: كلمة باكوراو تعني "الحافلة الأخيرة" في اللهجة
المحلية للمنطقة التي صوّرنا فيها. هذه الحافلة تغادر في الساعة الأولى بعد
منتصف الليل. طبعاً، عندما كنّا في سن الشباب، أي قبل "أوبر" بسنوات كثيرة،
كنّا نركض لنلحق بالباكوراو، فاذا فاتتك فستواجه مشكلة. لا حلّ سوى ان تنام
عند صديق أو في المتنزه وهذا شيء غير آمن. احدى النسخ الأولى للسيناريو
كانت تظهر تيريزا (نراها داخل الشاحنة في النسخة النهائية للفيلم) وهي تركض
ليلاً مع حشد من الناس للحاق بالحافلة في المحطة. أحببنا هذا المشهد، لكننا
اضطررنا لحذفه من السيناريو لأنه لم يعطِ معنى لبقية الفيلم. طبعاً
الباكوراو هو أيضاً نوع من أنواع الطيور، يختبئ دائماً، ولا يظهر الا
ليلاً. سلوكه شبيه جداً بسلوك الجماعة التي أصوّرها، اذ ان الجميع "يختفي"
عندما يصل العمدة إلى القرية، ويتكرر الاختفاء عندما يصل الغرباء في نهاية
الفيلم.
أعمل على "باكوراو" منذ عشر سنين. كتبته قبل "أكواريوس"،
وكان من المفترض ان أنجزه قبله. لكن سيناريو "أكواريوس" كان شيئاً فريداً.
كتبته في ستة أشهر. ثم صوّرته، هكذا، ببساطة! بلغت كلفته أقل من كلفة
"باكوراو".
بولسونارو
دورنيليس: بالنسبة إلى الربط بين الفيلم والوضع السياسي
الحالي في البرازيل في ظلّ بولسونارو، يجب التذكير بأن إنجاز فيلم يحتاج
إلى وقت، فكيف يمكن ان نصوّر فيلماً عن وضع عمره بضعة أشهر؟
فيلو: أنهينا التصوير في مثل هذا الشهر (أيار) من العام
الماضي. صدِّقني لم يكن انتخاب بولسونارو وارداً حتى. لا يزال الوقت مبكراً
للحديث عن تداعيات انتخاب بولسونارو لأن التغييرات دخلت لتوها حيز التنفيذ.
لكن يمكنني ان أعطيك مثلاً عملياً: عادةً، نحظى بموازنة معينة لإخراج
الفيلم في الصالات. هذه المرة، يبدو اننا لن ننال أي دعم.
وسترن مغامرات
فيلو: كانت رغبتنا في الأساس انجاز وسترن مغامرات عن السلطة
والقوة. وعندما تفكّر بالقوة، لا بد ان تتجه الأنظار إلى الولايات المتحدة.
الصداقة التي تربطني بجوليانو وحبّنا المشترك للأفلام، فضلاً عن النفوذ
الذي وفّره لي "أكواريوس"، هذا كله حفزني لإنجاز هذا الفيلم الذي ينتمي إلى
سينما الـ"جانر". مع ذلك، أعلم انه لا يمكن تجنّب ربط برازيل الماضي
ببرازيل الحاضر، بالتوتر الذي تعيش فيه وبتناقضاتها المجنونة.
لم أستطع الهروب من جون كاربنتر يوماً. هو حاضر في كلّ فيلم
أنجزته. كنت محظوظاً انني التقيته هنا في كانّ ضمن نشاط "أسبوعا المخرجين"
في يوم عرض فيلمنا.
دورنيليس: خلال الأشهر الثمانية التي استغرقها كتابة
السيناريو، في كلّ مرة كنّا نصل إلى حائط مسدود، كنّا نتوقف عن العمل
ونشاهد فيلماً. شاهدنا الكثير من الوسترن. هناك مرجعيات سينيفيلية في
الفيلم تتجاوز القدرة على التقاطها.
فيلو: "كومبانييروس" لسرجيو كوربوتشي كان فيلماً مهماً لنا.
أحببناه لأنه "قذر"، لا يشبه الوسترن الأميركي التقليدي. لفتنا جوّ القسوة
والحقارة الذي كان ينبعث منه.
دورنيليس: توماس ميليان هو الذي يتولى دور البطولة. من
الأشياء التي أحببتها وضع رجل أبيض مكان الهندي الأحمر، أي استبدال
المواقع. هذا يمدّني برضا معين.
فيلو: السينما الأميركية والهوليوودية لطالما قالت لنا ان
بطل السينما هو أميركي وأبيض بامتياز. هنا، تم تصوير الأميركيين كأبطال
كلاسيكيين، لكن أعمالهم ليست بطولية. أياً يكن، لا أزالمتحمساً جداً لمعرفة
كيف سيكون ردود الأميركيين على "باكوراو".
شمال شرق البرازيل
دورنيليس: نسينا ان نتكلّم عن الناس الذين ألهموا الفيلم
الذي أعتبره ردّ اعتبار إلى هؤلاء البشر الذين يأتون من منطقتنا. فقبل بضع
سنوات، كنّا في مهرجان سينمائي نشاهد فيه عدداً كبيراً من الأفلام. قدّمنا
فيه فيلماً قصيراً عنوانه "كولد تروبيكس"، أنا منتجه وكليبير مخرجه ومؤلفه.
شاهدنا الكثير من الوثائقيات عن الاتنيات المختلفة في البرازيل وعن البسطاء
من الناس الاكزوتيكيين...
فيلو: ...كانت أفلام نيتها طيبة، لا أفلام شريرة...
دورنيليس: ...اختلفنا حول بعض نواحي تمثيل هؤلاء الناس على
الشاشة. ولكن، شاهدتُ في هذا المهرجان ما أثار قلقي: شابة فقيرة جداً ظهرت
في أحد الأفلام الوثائقية رأيتها تجلس على كنبة جلدية فاخرة. كنّا استلمنا
مبلغاً من المال من المهرجان لشراء الطعام. المبلغ عن كلّ يوم أكل كان يكفي
لشراء الطعام طوال شهر كامل. كانت هي وغيرها من الفتيات يرتدين ملابس رثّة،
الأمر الذي منعهن من دخول المطاعم. أزعجنا جداً هذا الأمر. الكلّ حولهن
كانت نياتهم حسنة، رغم العنف الذي يوحي به الموقف. رغبتنا في إنجاز
"باكوراو" جاءت من هذا اللقاء.
فيلو: يوجد تقسيم اقليمي وثقافي واجتماعي بين شمال شرق
البرازيل وجنوبها حيث ريو وساو باولو، مركز الأموال. نحن من هذا الاقليم،
ما يعني انه علينا ان نواجه الكثير من الأفكار المسبقة تجاهنا. الآن، وقد
حققنا هذا الفيلم، هناك صحافيان برازيليان ذكيّان ومحترمان جداً، طرحا
علينا السؤال الآتي: "ما شعورك وأنتَ أنجزتَ فيلماً عن شمال شرق
البرازيل؟". فكان ردّنا: "حسناً، نحن من هذا المكان". الأمر أشبه بأن تذهب
إلى سينمائي مثلي وتسأله: "ما هو شعورك بأنك مخرج مثلي؟"...
دورنيليس: ...أو "لماذا أنجزتَ فيلماً عن المثليين؟" (ضحك).
فيلو: (ضحك)... وعندما قلتُ للسائل ما قلته، كان ردّه:
"سحقاً، نعم، أنت محق جداً، أعتذر، أفهم وجهة نظرك". لحسن حظنا، ولاية
برنمبوك التي آتي منها غنية جداً من النواحي الثقافية: موسيقى، أدب، فيلم.
المشهد الثقافي فيها محل تقدير وإحترام الجميع. لكن خارج هذا المشهد، نرى
الويلات! سأعطيك مثلاً: في العام ٢٠٠٠، ذهبتُ إلى ريو (قصر كوباكابانا)
لاجراء مقابلة مع صنّاع فيلم التحريك "أمير مصر". كانت المقابلة مع جيفري
كاتسنبرغ وجيف غولدبلوم. توجّهتُ إلى آخر الممر حيث شخصان من ساو باولو
كانا في انتظاري، فقلتُ لهما: "اسمي كليبير مندونسا من الجريدة الفلانية،
وأنا هنا من أجل المقابلة. جرى بيننا الحوار الآتي:
• "أهلاً
بك، أنتَ تحتاج إلى مترجم، صح؟".
• "لا،
أتحدّث الانكليزية".
• "آه،
سكّان شمال شرق البرازيل صاروا يتحدّثون الانكليزية؟ جيد جيد…!".
• "ماذا
تقصدين؟".
• "أعتذر،
كانت نكتة غير موفقة. أعتذر جداً".
دورنيليس: ... ولكنها لم تكن نكتة!
فيلو: بالطبع لم تكن نكتة! فـ"باكوراو" هو عن هذا الجانب من
البرازيل أيضاً. هل فهمتَ مثلاً ان سائقي الدرّاجة النارية هما برازيليان؟
اهتممتُ بهذين الكاراكتيرين لأني أفكّر كثيراً في الحرب العالمية الثانية،
خصوصاً في بعض الأوكرانيين الذين تعاونوا مع النازيين وقدّموا لهم الخدمات.
دورهم كان مرعباً خلال الحرب، وهذان الشخصان استوحيتهما من بعض القصص التي
قرأتها في كتب التاريخ عن غزو النازيين للاتحاد السوفياتي.
خلال كتابة السيناريو، تعمّدنا عدم اعطاء معلومات كثيرة، بل
الاكتفاء بتقديم تلميحات لمَا يمكن ان يحصل. أما بالنسبة إلى موضوع دعارة
صغيرات السن، فلم تعد الحال كما كانت في السابق، أي في الثمانينات في
ريسيفي، حيث الشواطئ الرائعة. كنّا نرى طائرات محمّلة سيّاحاً ألماناً
وهولنديين يأتون الينا لمضاجعة بنات صغيرات جداً جداً. أعمارهن بين ١٢ و١٤.
كان يمكن رؤيتهم على الشاطئ في وضح النهار. لا أقول ان هذا ما ألهمني،
لكنها تجربة شخصية استلهمتُ منها.
أودو كير
فيلو: التقيته في بالم سبرينغز، حيث يعيش. أحدهم في
المهرجان سألني اذا كنت أريد ان التقيه، فقلت "بالتأكيد". كان يلبس بزة
لونها بنفسجي، فأول ما عرفني اليه الشخص، استدار وقال لي: "لم أكن يوماً
عشيق فاسبيندر!" (ضحك). كانت هذه أغرب طريقة يتم تعريفي بها إلى شخص. انه
رجل ظريف جداً. مشاركته في الفيلم تحرك احساسي. استمتعنا جداً ونحن نصوّر".
دورنيليس: أودو، يا له من كاراكتير! أحبّه من قلبي، لعله
أفضل رجل في العالم. |