صحيح أن فيلم «تراحم الغرباء» - كما اخترت له كعنوان عربي
وفق قراءتي للفيلم والذي يحمل عنوان
The
Kindness of Strangers -
لم يكن في قوة التوقعات، لكنه أيضاً ليس فيلماً سيئاً ولا
رديئاً. كان الشريط هو افتتاح الدورة التاسعة والستين من البرليناله أحد
أهم ثلاثة مهرجانات كبرى - إلى جانب كان وفينيسيا - فمن زاوية السيناريو
والشخصيات مكتوب بشكل يكاد يكون خاليًا من الجديد المبهر والمضيء، حيث
نعايش رحلة هروب امرأة بعد أن تعرضت للمعاملة السيئة من زوجها رجل البوليس
الذي يضربها ويضرب ابنها، وأصبح طفلاها يكرهانه، ما جعلها تخطط للهرب بهما
إلى نيويورك الباردة.
التراحم غير المبهر
أثناء تلك الرحلة والبحث عن مأوي وطعام، نشاهد كافة درجات
الإهانة ومحاولات سرقة الطعام، نشاهد المشردين، واللاجئين وبعض أماكن
المساعدات، نتعرف على ممرضة اسمها أليس تساعد الآخرين، وتدير جلسات علاج
فتسمع اعترافات الشخصيات ومعاناتها، نتعرف على فندق «قصر الشتاء» لرجل روسي
طيب ولطيف يعمل لديه البطل الذي ارتكب جريمة وقضى فترة العقوبة ويحاول
مواصلة الحياة بشكل جيد، والذي يقوم بدوره طاهر رحيم الذي رغم اجتهاده في
أداء الدور، ورغم التفاصيل الإنسانية العديدة لكنه لم يكن مبهراً ولا يقارن
بشخصيته في «نبي» للمخرج الفرنسي جاك أوديارد، ذلك الدور الذي يصعب نسيانه.
رغم أن مخرجة الفيلم لون شيفريج
Lone
Scherfig
حصلت على جائزة الدب الفضي عام 2001 من البرليناله، ورغم أنها إحدى سبع
مخرجات في المنافسة الرسمية لهذا العام من بين ١٧ فيلما داخل المسابقة،
لكنني شخصياً أعتبر فيلمها الأحدث خارج المنافسة الحقيقة فهناك حتى الآن
أفلام أقوى فنياً وفكرياً.
صحيح أن الفيلم به تصوير جيد يأخذنا في رحلة ممتعة بصرياً،
وموسيقى مؤثرة، ومُطعم ببعض الرموز منها أن الزوج ينتمي للبوليس، ويُحسب
للسيناريو أنه لم يظهره بالوجه العنيف إلا في مشهد واحد أخير عندما اعتدى
على والده، بينما كان يظهره دوماً بالوجه البريء المهذب الناعم الحريص على
أسرته.
أما أهم قيمة بالفيلم فهي الفكرة عن تراحم الغرباء وإحساسهم
ببعضهم البعض في حين يكون الأقارب في تعاملهم مع ذويهم أحياناً شديد القسوة
والإهانة. إنها فكرة رائعة ويمكن الاشتغال عليها وإخراج مئات الأفلام منها،
لكن المخرجة هنا اكتفت بكل ما هو عادي في البناء الدرامي. وهو ما يتضح بقوة
من خلال شخصية الأم، وبحثها في صناديق الزبالة الكبيرة عن بقايا الطعام أو
سرقته من الفندق، ورغم مشهد الطفل وتجمده، وتصرفه المعبر عندما ألقى بدلة
والده الذي تم حبسه في الزبالة، ورغم قراره بالرحيل عن البيت رغم حداثة
سنه، لكننا لن نتذكره هذا الفيلم طويلاً.
بشاعة القفاز الذهبي
من الأفلام الأقوى فيلم المخرج الألماني من أصل تركي فاتح
أكين المعنون بـ«القفاز الذهبي» - والذي يعود به بعد فيلمه السياسي المؤثر
المؤلم «من لا شيء» والذي لا يخلو من العنف أيضاً من خلال الوصف الذي نسمعه
عن بقايا أشلاء الزوج والابن والذي حصدت بطلته جائزة أحسن ممثلة في كان
السينمائي عام ٢٠١٧، وحصد الفيلم نفسه أوسكار أحسن فيلم أجنبي ٢١٠٨.
كذلك شريطه السينمائي «القفاز الذهبي» فيلم آخر مليء بالدم
والقسوة والعنف الجسدي والقتل وتقطيع الأجساد بدرجة غير محتمله أحياناً،
لكن ما يُحسب لفاتح أكين أن العنف دوما عنده له تفسير ويُحيله إلى الظروف
الاقتصادية والاجتماعية. هنا العنوان مقتبس من عنوان البار الذي يقضي فيه
القاتل معظم أوقاته ويصطاد منه ضحاياه أحياناً. إنه رجل شاب مريض جنسياً
ويستغل احتياج الضحايا للطعام والشراب، ففي ظل الفقر والمعاناة فترة الحرب
العالمية والخسائر النفسية والجسدية، نرى العديد من النساء والرجال في
حالات من ضياع والحزن والبكاء، نرى كيف تحولت كثير من النساء إلى عاهرات،
كيف أصبحت النساء لديها استعداد للاستجابة لدعوة أي رجل مهما كان قبيح
الهيئة من أجل الشراب أو الطعام.
نزاهة الاختلاف
«القفاز الذهبي» إنتاج ألماني فرنسي، ومدته ١١٠ دقائق يكاد
المشاهد يحبس أنفاسه طوال المدة، وستخبئ النساء عيونهن مرات عدة لئلا
يشاهدن ما على الشاشة، وذلك رغم أن بعض لقطات العنف والقتل وتقطيع الأجسام
البشرية تتم خارج الكادر. إنه عمل آخر يؤكد به فاتح أكين موهبته
السينمائية.
الأمر اللافت أن فاتح أكين كان من بين ٧٩ مخرجاً ألمانياً
من بينهم فولكر شلوندورف ومارِن آيدي وكرستيان بيتزولد، قد وقعوا على "بيان
تغيير" غاضب ضد كوسليك. كان البيان يُطالب بتغيير المدير الفي ديتر كوسليك،
على أن تكون هناك بداية جديدة للمهرجان يتم من خلالها تغيير سياساته،
وتزداد عبرها مشاركة المخرجين الألمان، ومع ذلك فإن فيلم فاتح أكين تم ضمه
لأفلام المسابقة الرسمية وذلك رغم رحيل كوسليك بالفعل عقب هذه الدورة إذ
ينتهي تعاقده في شهر مايو القادم، وهو ما يُحسب للنقاد والباحث الألماني
النزيه ديتر كوسليك إذ لم يتخذ من البيان فرصة للانتقام أو الإقصاء.
بعيدًا عن سرقة الخيول
أما أجمل الأفلام حتى الآن فشريطان؛ الأول شاهدته صباح
اليوم الأحد معنون بـ«الله موجود، اسمها بيترونيا» من الإنتاج المشترك بين
مقدونيا، بلجيكا، سلوفانيا، كرواتيا، وفرنسا، وهو عمل سينمائي لافت وجديد
وبه سخرية ظريفة ويناقش أحد أوجه قضايا المرأة في تداخل علاقة القانون
بالكنيسة، وهو يحتاج مقالًا لاحقًا تفصيليًا.
أما الفيلم الآخر فشاهدته بالأمس للمخرج هانز بيتر مولاند
بعنوان
out
stealind horses
ويمكن ترجمة عنوانه إلى «بعيدًا عن سرقة الخيول» أو «ليست سرقة خيول»
والعنوان مستمد من جملة حوار بين الابن والأب عندما يسأله: أين كنت؟
فيجيبه: «كنا نسرق الخيول»، وبعد لحظة تفكير يضيف الابن: «بالأحرى كنا نركب
الخيول ولا نسرقها».
البطل، هنا، رجل في السابعة والستين يعود بعد تقاعده إلى
النرويج ليعيش في قرية صغيرة، بعد أن عاش ما يزيد على أربعين عاماً في
أوسلو. زوجته توفيت حديثاً في حادث أثناء قيادته السيارة. إنه يعترف أنه لا
يشعر بالذنب، لكنه يفتقدها، ويعيش الافتقاد.
مقاومة الموت بالذكريات
هنا، في هذا المكان المتجمد عام ١٩٩٩ تُصبح - من دون وعي -
محاولة الرجل للبقاء على قيد الحياة أن يستعيد الماضي، وهذا الماضي شائك به
كثير من المفاجآت والألم، ولحظات السعادة القليلة، وندبات على جدران الروح.
عندما يبدأ في استعادة ماضيه نعود إلى عام ١٩٤٨. لكنه يظل
طوال الفيلم يُراوح بإنسيابية - النهر المتدفق بهدوء - بين الماضي والحاضر
مستعينا بالفلاش باك داخل فلاش باك آخر كأن يعود لأحداث سابقة بيوم، ثم
العودة من الفلاش باك إلي الفلاش باك الأول، وأحياناً يستخدم الفلاش فورورد
لمدة شهرين قبل أن يعود منهما إلى الحاضر ثم الماضي مرة أخرى بشكل سريع
ولكنه غير مربك أبداً، بل على العكس يتم ذلك بشكل شديد الرومانسية والوضوح،
مستعينا أحيانا بالأحلام كي تكون حفار الذكريات.
هنا، نشاهد الاختلاف بين الطبيعة في مكان الصبا حيث علاقته
بأبيه، وبين الحياة الآنية بعد الكبر وعقب وفاة الزوجة. ففي الصبا رغم
مشاكلها وصعوباتها وألمها لكن الحياة والطبيعة نراها غنية مليئة بالحيوية
والأمل، والحب والألوان، بينما الزمن الحاضر متجمد محصور بين لونين فقط
بالأبيض والأشجار بلونها المائل إلي الأسود أو الرمادي، كأن البطل عالق في
هذا الحاضر الميت، المتشح بلون الموت الخالي من البشر والحياة.
الفيلم مليء بالشخصيات المتنوعة الثرية المختلفة، فيه قصص
أشخاص عدة، ومآسٍ كثيرة، منها طفل يقتل آخاه عن طريق الخطأ بطلق ناري أثناء
اللعب، وعقد الذنب التي ستلاحق الأخ القاتل، هنا البطل سيكون الشاهد على
الأحداث، لكنه أيضاً له حكاياته وارتباكاته وعلاقاته مع أبيه وحبيبة أبيه
والمحيطين به.
رغم ما سبق فالفيلم قليل الحوار والمونولوج. السمة الغالبة
المبهرة في التصوير هي التواصل مع الطبيعة، وتصوير هذه العلاقة من التجانس
والاندماج والاتصال بتفاصيل الطبيعة كأن الصبي جزء منها، والذي تم تصويره
بشكل مبهر وأخاذ.
التصوير بطل أساسي، الإحساس الذي يصلنا من الأبطال ومن
الشاشة بطل أساسي آخر، بعض المشاهد مؤلم وجميل في فنيته مثل مشهد الجنازة،
فعند لحظة هبوط النعش في القبر يجري الطفل القاتل لأخيه حول شواهد القبور،
في مشهد مؤلم، والكاميرا لا تكتفي بأن تنقل لنا هذا، بل تجعلنا جزءا من
نظرات ولفتات الآخرين، بتصوير أكثر من رائع.. كأن الطفل مثل الديك المذبوح
يجري منتفضاً من الألم، كأنه يجري وراء روح أخيه الهائمة في الأرجاء.
إنه شريط سينمائي يقول بالصورة والإحساس إن الحياة مأساة
كبرى، لكن علينا التعامل مع تلك المأساة ومحاولة الاستمتاع بالحياة قدر
الإمكان من دون أن نترك لها الفرصة أن تجعلنا نشعر بالمرارة. |