جوسلين صعب... تنويعات سينمائية في توثيق الحرب
علاء رشيدي
”اسمي
راشيل كوري“… مسرحية من يوميات غزّية
جوسلين صعب... تنويعات سينمائية في توثيق الحرب دمى مسرحية
تتمرد على صناعها: عرض "دمى أوتوبورترايت" لفرقة "أيد واحدة" من مخيم
شاتيلا
"تخلي"
محمد خياطة: البيئة، الهجرة، الحرب، الموت
في هذا الفيلم، يبرز الأسلوب الذاتي في سرد الحرب من قبل
المخرجة، من عنوان الفيلم نلمح هذا الحس الأدبي في الرغبة في الحديث عن
الحرب، "الرسالة " كلمة تحمل التواصلي، الشخصي، والذاتي. يُرافق الشريط
البصري لهذا الفيلم قراءة لنصوص إيتل عدنان، التي تحضر بأفلام جوسلين في
تلك الفترة، كما يظهر أن أفكارها تحضر في وعيها.
تكمن الأهمية التي تكتسبها تظاهرة ”سينما جوسلين صعب“ التي
نظمتها دار النمر هذا الشهر، في أن الأفلام التي تم عرضها من تجربة هذه
المخرجة، تم اختيارها من قبل ماتيلد روكسل التي درست الفلسفة وتاريخ الفن،
وخصصت رسالتها الأكاديمية عن سينما جوسلين صعب، وحققت عن المخرجة
السينمائية كتاباً بعنوان ”الذاكرة الجموحة“ ( دار النهار، 2015).
فمن بين العشرات من أفلام جوسلين صعب التي حققتها على طيلة
مسيرتها الفنية، استقر اختيار ماتيلد روكسل على خمسة أفلام من مسيرة
المخرجة ليتم عرضها في تظاهرة دار النمر لهذا العام: ”لبنان في دوامة“
1975، ”بيروت لم تعد كما كانت“ 1976، ”من أجل بعض الحياة“ 1976، ” رسالة من
بيروت“ 1978، ”غزل البنات“ 1984.
هذه الخيارات لا تركز على أشهر أفلام المخرجة، أو حتى
أبرزها اكتمالاً في مسيرتها الفنية، بل نلاحظ التركيز على أفلام محققة بين
عامي 1975 و 1978، باستثناء فيلم ”غزل البنات“ الذي حقق في الثمانينات. إلا
أن الرابط الجامع بين الأفلام المختارة هو موضوعة الحرب. فجوسلين صعب التي
درست الاقتصاد والصحافة، بدأت رحلتها السينمائية في سنوات إنطلاقة الحرب
الأهلية اللبنانية، وكأن الحرب لعبت دوراً في تكوين وعينها الفني. فيتلمس
المتابع لهذه المختارات بين الفيلم والآخر، وكأن المخرجة تسائل نفسها: "كيف
يمكن للسينما أن تعبر عن الحرب ؟ كيف تُعرف الحرب أصلاً ؟" بين الفيلم
والآخر تقدم المخرجة جوسلين مقاربة فكرية مختلفة عن الحرب مطوعةً اللغة
السينمائية لتحقيق هذه المقاربة. مما يسمح بالقول عن أفلامها في تلك الفترة
بأنها تنويعات سينمائية في التعبير عن الحرب.
”لبنان في دوامة“ 1975: لا بد للحرب من أسباب
اقتصادية
في لقاء مع موقع ”المدن“، تقول جوسلين صعب: لقد أنهيت
دراستي في الاقتصاد عام 1970، وبدأت العمل في التلفزيون. كنت مراسلة حربية
في مصر وجنوب لبنان، ثم ذهبت عام 1971 إلى ليبيا، قدمت تقارير عن حرب
أكتوبر 1973 . عملت أيضاً عام 1975 لصالح التلفزيون الفرنسي. كنت مراسلة
حربية. قرار إنجاز فيلمي الأول عن بلدي اتخذته عام 1975 بعد الاستيلاء على
حافلة تقل فلسطينيين كانوا عائدين من حفل، تم قتل جميع الركاب. كان اسم
الفيلم ”لبنان في دوامة“. ومنذ ذلك الحين لم أتوقف عن عمل الأفلام. كان في
ذلك الوقت من الصعب جداً أن تعيش في خضم حرب أهلية. ولكنني بالضبط كنت أعيش
هناك وأرسل تقارير من الجبهة، مما دفعني إلى الحلم بأماكن أخرى. وأتذكر
تماماً ما كنت أقوله أحياناً في ذلك: "لا بد لي أن أحكي ما الذي يحرك قلوب
البشر. لا أريد فقط تبيان ما يحدث من حولهم.“
في سرديات الحرب الأهلية اللبنانية، غُيبت القراءة السياسية
للأحداث العنفية والتي انطلقت من أجل تغيير في عدد توزيع المقاعد في
البرلمان اللبناني، وتسيدت فيما بعد القراءة الطائفية التي ركزت على كون
الحرب صراع طوائف على مراكز القوى في الدولة، أما القراءة الاقتصادية فهي
لا تحضر على الإطلاق. في فيلمها الأولى ”لبنان في دوامة“ تختار جوسلين صعب
التركيز على الأسباب الإقتصادية للحرب، أي الوضع الإقتصادي/الاجتماعي الذي
رافق الإنطلاقة الأولى للحرب. الخيار الاقتصادي يؤشر إلى حساسية خاصة في
قراءة الواقع امتلكتها جوسلين صعب في حينها، وخصوصاً إذا عرفنا أن ”لبنان
في دوامة“ ليس أول فيلم لجوسلين صعب فحسب، بل هو أول فيلم عن الحرب
اللبنانية كما يوضح الناقد محمد عبيدو، في مقاله ”أفلام تتلمس الهموم
ومكامن الجروح“.
هل تأتي قراءة جوسلين صعب الاقتصادية للحرب من كونها درست
الإقتصاد؟ أم من وعيها المهني الصحفي؟ في الفيلم تنتقل بنا المخرجة في
مختلف المناطق اللبنانية لتبرز الجوانب الاقتصادية التي تلعب درواً في
تأجيج النزاعات الأهلية، فمثلاً في البقاع تسلط الضوء على مشكلة تقاسم
المياه بين عائلتين كبيرتين تعملان في الزراعة، وتتنافسنا على موارد المياه
الشحيحة، مما يؤدي إلى نزاعات مسلحة، تبرر الحرب درجة العنف التي يستعملها
الطرفان. كذلك الأمر في الجنوب اللبناني، أما في الشمال/منطقة طرابلس فيركز
الفيلم على دور المال في أيدي بعض الشخصيات المتنفذة التي راحت تؤسس لنفسها
ميليشيات بناءً على أيديولوجيات قومية في بعض الأحيان، ودينية في أحيان
أخرى. وهي قائمة ومستمرة ليس على الفكر أو الإيمان، بل على المكافات
المالية للمقاتلين.
فيلم ”لبنان في دوامة“ ينتهج أسلوبية التقصي الصحفي
والتوثيق. تصور المخرجة لقاءات مع عدة شخصيات سياسية كانت فاعلة في تلك
الفترة (كمال جنبلاط، فاروق المقدم، عبد المجيد الرفاعي)، وكذلك مفكرين
ومنظرين (سمير فرنجية، فواز طرابلسي)، لقاءات تترافق وصور مشاهد اختارها
المخرجة لتعكس أجواء تأسيس القوى المسلحة، لتدريبات فرق عسكرية تقوم بها
القوى المتصارعة، ترافقها طبعاً مشاهد لوقائع العيش في جحيم بلد مفتوح على
صدامات شتى، أي على الحرب. كأن المخرجة بما تنقله عبر كاميراتها تريد من
المتلقي أن يشتم وينبئ بمقدار العنف وطول الصراع الذي سيقدم عليه المجتمع
المصوّر في الفيلم.
”بيروت لم تعد كما كانت“ 1976: الحرب مشاهد، مواقف، بصريات،
وحكايات
التركيز في الفيلم الثاني ”بيروت لم تعد كما كانت“، على
وقائع الحرب، بمعنى الأثر الذي تولده في بصريات ومشاهد والحياة اليومية
للمدينة. المقصود بكلمة ”وقائع الحرب“ يوضحه هذا المقطع الذي جاء في بيان
الفيلم: ”هذا الفيلم مرثية لمدينة بيروت، صُوّر خلال فترة من الحرب توقف
فيها العنف بشكل لحظي وحاول الناس خلالها إعادة بناء حياتهم وسط الركام
ودمار الحرب. تم تصوير الفيلم على مدى ستة شهور، حيث يقدم نصفه الأول صوراً
لمدينة مدمرة، وشوارع خاوية، وأبنية تعرضت للقصف، ومناظر عشوائية، وأطفال
يلعبون. يرافق الصور تعليق صوتي كتبته الشاعرة والفنانة إيتل عدنان، تخبر
فيه كيف "دمر غير المعتاد ترتيب الأشياء". يخبر الناس تجاربهم مع الخراب
ومعاناة المعارك. هذا الفيلم يغمره التردد والعنف الذين تسبب بهما دمار
مكان كانت تعرفه المخرجة وأحسّت أنه ضاع للأبد“.
بالإضافة إلى الوقائع الحياتية في مدينة الحرب، تتعدد لقطات
الفيلم التي تروي عن دور الطفولة في الحرب، نشهد الأطفال بشكل مكثف،
يتحركون في المدينة، يلهون، والكثير منهم يحمل السلاح، كأن كاميرا المخرجة
تريد أن تقول أن الأطفال كانوا الفئة الأساسية التي تشكلت منها المليشيات
المسلحة. إنه تنويع جديد يضيفه هذا الفيلم على تنويعات التعبير عن الحرب،
فالحرب من زاوية ومن مقاربة موضوعة الطفولة تبدو دوماً خياراً دقيقاً،
إنسانياً، وغنياً بالتحليل الاجتماعي في الآن عينه.
كتب نديم جرجورة عن ”فن توثيق اللحظة“ في سينما جوسلين صعب:
”الفعل السينمائيّ هو مفهوم ثقافي لصورة تواكب أحوالاً وتبدّلات، فتكون
عدسة الكاميرا عينًا تراقب وتلتقط وتعكس مجريات أحداث، أو وقائع وحكايات.
صورة مرتبكة لكنها توثّق زمنًا ومفصلاً في تاريخ بلد وشعب، أو في سِيَر
أفراد يُشاركون في الحدث المُلتَقَط. سينما تجتهد في التقاط اللحظة“، وهذا
ينطبق بدقة على فيلم ”بيروت لم تعد كما كانت“ لهذه المخرجة.
”من أجل بعض الحياة“ 1976: الحرب قصص مختفين وجثث
يُعرض هذا الفيلم للمرة الأولى في شهر جوسلين صعب في دار
نمر، منذ تم تحقيقه في العام 1976. يركز الفيلم على مرشح الانتخابات
الرئاسية في تلك الفترة ريمون أده، ولذلك يمكن أن يقرأ الفيلم من ناحية
ترويجية لهذه الشخصية السياسية. ولكن يمكن لنا من الفيلم أن نتلمس إرادة
أخرى للمخرجة، وهي أن تروي حكايات عن المختفين والجثث، واحدة من تنويعات
سرديات الحرب الأساسية.
”من أجل بعض الحياة“، يصور بالكامل في مكتب ريمون أده
ويتابع يوميات فريقه عمله ومهامهم، يتابع إذاً محاولات هذا الفريق في
مساعدة الناس الباحثين عن أقاربهم أو أحبائهم المخطوفين أو المختفين،
وبالتالي لابد له من التعامل مع حكايات الجثث، تلك المكتشفة للتو وتلك التي
بحاجة للدفن مهملة ويصعب الوصول إليها. هنا يروي ريمون أده بنفسه حكاية عن
صعوبة دفن إحدى الجثث في ظل الصراع الديني والعسكري والوضع المدني القائم،
وتروي كذلك مساعدته في المكتب، عن حكاية امرأة تبحث عن زوجها المختفي، وكيف
تصاعد الأمل وعاد ليتناقص في العثور عليه، تقلبات الأمل واليأس، الانتظار
بين خبر بقائه على قيد الحياة ومماته، ومن ثم في النهاية العثور على جثته.
هو فيلم عن حكايات الألم، لقد تصاعد الموت كموضوعة في أفلام جوسلين صعب،
وهنا يتركز أخيراً معنى جديد للحرب، إنها حكايات عن المختفين، والمقتولين،
وحكايات عن جثث.
”رسالة من بيروت“ 1978: الحرب مذكرات شخصية
في هذا الفيلم، يبرز الأسلوب الذاتي في سرد الحرب من قبل
المخرجة، من عنوان الفيلم نلمح هذا الحس الأدبي في الرغبة في الحديث عن
الحرب، "الرسالة " كلمة تحمل التواصلي، الشخصي، والذاتي. يُرافق الشريط
البصري لهذا الفيلم قراءة لنصوص إيتل عدنان، التي تحضر بأفلام جوسلين في
تلك الفترة، كما يظهر أن أفكارها تحضر في وعيها.
إيتل عدنان كانت قد أصدرت روايتها "الست ماري روز" قبلها
بعام سنة ١٩٧٧، واعتبرتها جوسلين صعب أفضل رواية عن الصراع اللبناني. تتمتع
نصوص إيتل عدنان هنا بدمج الشعرية بالتحليل السياسي والاجتماعي لمدينة
بيروت خلال الحرب. بينما تتجول كاميرا جوسلين صعب بالبصري المرافق للنصوص
في باصات، أو حافلات النقل في بيروت في تلك الفترة، تجول بالشوارع لتكوّن
الرؤية الذاتية التي هي محور السرد وطريقته في نقل أجواء المدينة والعيش،
بعد أن كانت كاميرا أفلامها السابقة صحفية وتوثيقية.
يكتب عن ”رسالة من بيروت“ الناقد محمد عبيدو: ”فيلم جميل
ومتقن يتسم بالشاعرية والهدوء، حقق انتقالاً من أسلوب جوسلين الصحفي إلى
الصياغة السينمائية، وكشفَ عن مخرجة تجيد التعبير عن أفكارها بهدوء وضمير
وذكاء وجرأة في استخدام المونتاج، وقدرة على تطويع الكاميرا لتمتلك صورتها
السينمائية.“
”غزل البنات“ 1984: الحب في زمن الحرب
كثير من عناوين الأعمال الأدبية والفنية تربط حكايات الحب
والحرب، وهنا محاولة من المخرجة جوسلين صعب لتقديم تنويعة جديدة على الحرب
من خلال قصة حب تنشأ بين ثنائي، قادت الحرب كل منهما إلى تكوين شخصية: سحر
الهاربة من الحرب بمتابعة الأفلام المصرية، وكريم رسام منعزل عن الحياة في
شقته في بيروت الغربية. تنشأ بينهما علاقة تقارب، بين هذه الطباع الشخصية
التي لعبت الحرب دوراً في تشكلها، وكما أن الحرب دفعت بهما إلى التقارب،
تكون الحرب سبباً في موت كريم، سبباً في فراقهما أيضاً.
هكذا تتنوع تقنيات وخيارات المخرجة جوسلين صعب في التعبير
عن الحرب، من الإضاءة على الجوانب الإقتصادية، فوقائع العنف والدمار
اليومي، إلى حياة الأطفال، وقضايا المختفين والجثث، ومن ثم ”رسالة من
بيروت“ وجرعة الذاتية الشعرية مع نصوص إيتل عدنان، إكتمالاً بقصة تبين أثر
الحرب على العلاقات العاطفية. تجربة ملهمة من المخرجة جوسلين صعب التي ما
تزال أسلئتها، هي أسئلة الفن في الواقع العربي اليوم.
*كاتب من سوريا |