ماهرشالا علي، هو أفضل من فيلم "كتاب أخضر" الذي حصد لتوه
جائزة أوسكار أفضل فيلم. إلى أي مدى تبلغ جودة علي التمثيلية؟ يمكنك معرفة
ذلك بمشاهدة الموسم الثالث من السلسلة التلفزيونية "ترو ديتيكتيف". هنا
نظرة على أعماله ومشواره التمثيلي.
ابتسامة غريبة تلك التي ترتسم على محيا عازف البيانو دون
شيرلي أثناء تلقيه تصفيق جمهور حفل نخبوي من صفوة المجتمع الأميركي الأبيض.
بعد ثانية واحدة من التوقف، تبدأ فجأة في غزو كامل وجهه، دون الكشف عن رضا
أو امتنان. إنها ابتسامة مكتومة، قناع يخفي تحته العازف الأسود زهو انتصار
لحظي يخاف ظهوره أمام الأعين.
لأن دون شيرلي، الذي حصل الممثل ماهرشالا علي (1974)
بفضل أدائه شخصيته في فيلم
"كتاب
أخضر"
جائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد، ينتقل عبر أراضي عدوٍ تاريخي. فالجولة التي
قام بها عازف البيانو الأسود في عام 1962 وشملت عدداً من ولايات الجنوب
الأميركي، ليست أقل من رحلة معرفة ذاتية وانقلاب أحوال. بصفته موسيقياً
عبقرياً، عانى دون شيرلي من تقديرٍ مجتمعي يتناقض بشكل صارخ مع معاملته –
في الوقت نفسه- كمواطن من الدرجة الثانية بسبب بشرته. بالنسبة لمشاهدي
الفيلم ومضيفي الحفل وسائقه توني (فيغو مورتنسن)، هو عازف موهوب. لكن
مأساته الأخرى، إلى جانب كونه أميركياً أسود، تتمثل في إصراره على ارتياد
مجال يعتبره الجميع حكراً على البيض. يملك شيرلي الموهبة لعزف مقطوعات
البيانو الكلاسيكية، وهو يفعل ذلك بتفرّد يجعله جديراً بالثناء والتقدير،
وفقاً لما يقوله، في محاولة شخصية منه للردّ على رغبة مَن حوله بدفعه إلى
التموقع في دور عازف الجاز المسلّي، ذلك الذي يعزف على البيانو في بارات
معبأة بالدخان والأصوات والرقص ويجرع في الوقت ذاته من كأس خمر لا تفرغ،
موضوعة أمامه مباشرة.
ثمة صلابة ووقار متكلَّف في صوت دون شيرلي يفسحان المجال
لتوديع صورة ذهنية سابقة عن ماهرشالا علي بقناعه الصوتي المخملي المعتاد في
أدوار سابقة لافتة. مرة بعد أخرى في "كتاب أخضر"، يتردد علي قبل أن يبدأ في
الكلام، أو يتوقف للحظات، كأنما يستدعي الكلمات من مخبأ بعيد. الهدوء
والصرامة اللذان "يؤديهما" دون شيرلي في الأماكن العامة، من الواضح عودتهما
سببياً إلى تدريب طويل وشاق على ضبط النفس والثبات الإنفعالي. في كل سجال
أمام الكاميرا، وفي كل محادثة، يتأهب للظهور صراع سلطة ونفوذ يعيد التذكير
بمأساة ذلك الفنان الأسود المثلي العائش بين جحيم النبذ الاجتماعي وصراع
المكانة والجدارة وسط عالم لا يرحم. النبل الذي يغلّف به ماهرشالا علي
أداءه في هذه المواجهات ينتج عنه – تقريباً- محواً لحظياً لمرارتها، فقط
لتنهض قسوة عيشها بصورة أشد وطأة مع سير المشهد.
لهذا الأداء، حصد علي أوسكاره الثاني، بعد ثلاث سنوات فقط
من الأول، عن دوره في فيلم
"مونلايت"
لباري جينكينز. رغم الحقيقة المؤسفة المتمثلة في قرار أكاديمية هوليوود
ترشيحه في فئة أفضل ممثل مساعد، بدلاً من ترشيحه في فئة أفضل ممثل (التي
ظهر فيها بشكل مريب شريكه في الفيلم فيغو مورتنسون). لكن على أي حال، فاز
علي، وفي خطاب فوزه تذكّر أحد أفراد عائلته. هذه المرة شكر جدته، التي
ألهمته وشجّعته، مثلما شكر من قبل زوجته، بعد أول أوسكار له، ومثلما فعل،
في جوائز أخرى، مع والدته التي أعطته واحداً من أطول الأسماء المذكورة في
العهد القديم المقدس. وبفوزه، يصبح علي ثاني ممثل أميركي من أصل أفريقي
يفوز بأكثر من أوسكار (بعد دينزل واشنطن)، وأول مسلم يفوز بجائزة أوسكار
على مدى 90 عاماً هو عمر الجائزة، رغم أن مسلمين كثيرين قد يكفّرونه
ويخرجونه من المِلّة، لانتمائه إلى طائفة الأحمدية.
عندما يستمع المرء إلى حديث علي عن كيف أصرّ، في منتصف
العشرينات من عمره، على التمسك بكتابة اسمه الأول بكامل حروفه الـ18 (Mahershalalhashbaz)
في أدواره المبكرة سينمائياً وتلفزيونياً، ثم قدّم في نهاية
المطاف تنازلاً للتورط بقبول نسخة غير مألوفة منه ولكن قابلة للاستدعاء؛
يقف على جانب من شخصيته العنيدة. إذا كنت تعرف الكثير عن الرجل، فإن علي
واحد من أولئك الذين يفكرون كثيراً قبل تقديم الإجابات، ويفعلون الأشياء
بحكمة. هذا بالضبط ما وصف به طريقه إلى الإيمان كـ"عمل تأمُّلي عميق"،
والذي أدّى به بعيداً عن البروتستانتية - التي ورثها عن والديه- إلى
الإسلام. اعتنق علي الإسلام في عام 2000، وإثر ذلك خضع لمراقبة مكتب
التحقيقات الفيدرالي لفترة طويلة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وبصفته أميركياً أسود مسلماً، فقد واجه تمييزا مزدوجاً. وبوصفه أول فائز
بجائزة الأوسكار بهذه الخلفية، فهو الآن يمثل "فرضاً" إلزامياً على الجزء
المحافظ من جمهور الولايات المتحدة. نجاحه الكبير الحالي، كممثل، جدير
بالاهتمام، رمزياً على الأقل. فهو يحدّثنا عن العديد من العوائق التي لا
تزال موجودة في المجتمع الأميركي، ويقول أيضاً بإمكانية التغلب عليها.
والأهم من ذلك كلّه، بالنسبة لأكاديمية هوليوود، إعادة تأكيد صورتها
العالمية كمؤسسة داعمة ومناصرة للأقليات العرقية والدينية، خصوصاً في زمن
الحمائية الترامبية وسيادة روح العداء الأبيض تجاه كل ما ليس أبيض.
استغرق هذا النجاح وقتاً طويلاً ليتكلّل بالاعتراف
والجوائز. بعد عشرات من الأدوار المسرحية والتلفزيونية، جاءت الشهرة
لماهرشالا علي في عام 2013، بعد قيامه بدور ريمي دانتون، اللوبيّ الواشنطني
وقائد موظفي المكتب البيضاوي الذي ينتبه ضميره تدريجياً في سلسلة نتفليكس
الشهيرة "هاوس أوف كاردز". من بين جميع الشخصيات الساخرة التي عرّتها
السلسلة في عجزها، قدّم علي الرجلَ الذي لا يمكن اختزاله أو تنميطه. فلم
يعارض دانتون الرئيس الأميركي فرانك أندروود من موقع مثالي يُلحقه بصورة
نمطية عن طرفي صراع أبيض وأسود. بل أعطى علي، دانتون، هشاشة مثيرة للاهتمام
وثقة مهلكة بالنفس جديرة برجل أسود يعيش في أميركا عليه اختبار إذلاله على
أيدي رجال الشرطة، فقط لأنه يقود سيارة باهظة الثمن.
ميله للعب شخصيات ديناميكية يمكنها التطور بحيوية، سيثبته
مجدداً في فيلم "مونلايت" (2016) ودور تاجر المخدرات خوان، حيث يقوّض علي
الكليشيهات التي عادة ما تلتزم بها السينما في تصويرها لمهربي المخدرات
السود. حضوره في الفيلم، وما يستتبعه من سيطرة واضحة على الشاشة كلما ظهر،
لا يقتصر على اهتمامه بتجارته الخطرة، بل يمتدّ للعناية بصغير أسود منبوذ
يؤرقه استكشاف هويته الجنسية، وللإيقاع بالنساء في حبائله. يُعلِّم خوان
ربيبه أن يكون فخوراً بهويته الخاصة، وفي السياق، يخدّر والدة الصغير بسحر
نظراته، الأمر الذي يمحو تناقض ماهرشالا علي بألعاب أدائية بارعة ومراوغة.
كان فيلم باري جينكنز ودور علي فيه من علامات الانفتاح
الحالي، حيث يمكن سرد "قصص أخرى" أكثر من ذي قبل، ويمكن مقاربة فحولة
الذكور الأفارقة من زوايا جديدة. على النقيض من ذلك، يبدو دور علي في "كتاب
أخضر" عودة إلى ما فات من أزمنة أقل تفهّماً. فحتى في أفلام هوليوود الأكثر
تقدمية في تلك الأوقات، كانت الفكرة الشائع تقديمها أن كفاح الرجل الأسود
من أجل الكرامة والاحترام سيكون دائماً مقبولاً فقط لرجل أبيض متفهِّم.
فقط، عبر هذا الالتفاف المنطقي تنال معركة السود مُبررها ونُبلها في نظر
البيض. فيلم بيتر فاريللي هو سعي بلا حراك وعودة بلا جديد لهذه الكوكبة من
السود والبيض التي يفترض أنها ليبرالية، كما يبني جسراً مريحاً للجزء
الجنوبي من البيض الذي يريد اللحاق بالجانب الصحيح من التاريخ، أي حركة
الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي، عبر الإتيان بعازف البيانو الأسود
لسماع عزفه وتأكيد تقدميتهم والشعور بالرضا الذاتي. وهذا ما يفعله الفيلم
أيضاً، تقريباً، بإخبار قصة "بيضاء" للغاية عن معاناة السود في أميركا
الستينيات، دون إتعاب نفسه برفدها بأي جديد يربطها بالراهن والمُعاش، ليخرج
الفيلم كله كشيء عفا عليه الزمن، أو كفيلم كريسماس يمنح شعوراً جيداً
لمشاهديه، في أفضل الفروض.
والبيض في الفيلم كثيرون، أولهم السائق توني المحب لزوجته
وأولاده وأصدقائه، لكنه في الوقت نفسه يرمي كأسين زجاجيين في سلة القمامة
فقط لأن شخصين أسودين شربا فيهما. إنه عنصري بقلب كبير، أحد هؤلاء البيض
الذين ربما يقولون في نقاش: "آه، إنه أسود، لكنه شخص جيد". دون شيرلي، من
جانب آخر، منعزل ومنبوذ، مثلي الجنس، وأمضى حياته في مجتمع السود. يسافر
خارج منطقته الدافئة، إلى الجنوب العنصري حيث سيختبر "وضاعته" وقلة حيلته،
وحيث سيكون من السهل على توني حمايته. من ناحية، لأنه يمتلك قلباً إيطالياً
كبيراً، ومن ناحية أخرى، لأنه يقبض مقابل ذلك. إنها قصة أميركية للغاية
للصداقة التي تنمو خارج علاقات العمل، وفيها يمكن للأبيض أن يشعر في
النهاية ببطولته لمساعدته المستضعف الأسود في الإحساس بأن هناك من يقبله.
علي، مع ذلك، يأخذ حريته ضمن هذا الإطار الضيق للقصة. فقد أصرّ، مثلاً، على
إعادة كتابة المشهد الذي فيه يتلقى شيرلي إشادة سائقه توني بأدائه كعازف
بيانو موهوب. في السيناريو، يشكره شيرلي على كلامه. لم يكن ذلك كافياً
لعلي، فقد أضاف إلى المقطع أنه باستطاعته عزف مقطوعات شوبان، وأنه يفعل ذلك
أفضل من غيره.
علي أيضاً يلعب أدواره أفضل من غيره، ويلعب أدواراً لا
يمكنك تخيّل غيره يقوم بتأديتها. آخر هذه الأدوار، ليس الذي توِّج عنه قبل
أيام بالأوسكار، ولكن دورا تلفزيونيا سيتكفل بإحضار اسمه في موسم الجوائز
التلفزيونية أواخر العام الحالي. دوره في الموسم الثالث من سلسلة "ترو
ديتيكتيف"، الذي انتهى بثه قبل أيام قليلة على شبكة "إتش بي أوه"، سيعفيه
مستقبلاً من حرج القبول بأداء أدوار من النوعية التي يلعبها في فيلم "أليتا
- معركة الملاك" لجيمس كاميرون، المعروض حالياً في صالات السينما. في "ترو
ديتيكتيف"، يجسِّد علي شخصية محقق الشرطة واين هيز، متنقلاً بين ثلاثة
مستويات زمنية، تتغيّر باستمرار وتغطّي أكثر من ثلاثة عقود ونصف عقد. يعطي
علي هذا المحقق هيئة وأداء مختلفاً في كل مرحلة عمرية: هو شرطي شاب صموت
عائد من حرب فيتنام إلى الحياة المدنية في التمانينات ليحقق في قضية طفلين
مفقودين، ثم رجل في منتصف عمره يصارع نفسه ودوره كزوج وأبّ، بعد عشر سنوات
من الندم غير المعلن؛ وأخيراً، في سنوات خرفه وشيخوخته، عجوز يبحث يائساً
عن حلّ أحجية جريمة لم تتوقف ألغازها عن الظهور باستمرار على مرّ السنين
الطويلة.
يحمل علي العمل على كتفيه بتحولاته الممتدة وزيارة أحداثه
لوقائع متعددة الأزمنة. هذه الشخصية، أيضاً، تجد صعوبة في الابتسام، وهي
أيضاً عرضة للعنصرية اليومية. نظرتها متأهبة على الدوام، مرتابة. بطبيعة
الحال، تحيل طريقة هيز في عمله كمحقق إلى الشخصية التي لعبها سيدني بواتييه
في فيلم "إن ذا هيت أوف نايت" (1967): كلاهما يلعب دور شرطي يعثر على أدلة
لم يبحث عنها الآخرون. لكن "ترو ديتيكتيف" يذهب بأسئلته أبعد من الفيلم.
فالطبيعية التي ينتقل بها واين هيز بين أرجاء الطبيعة، والعناية التي
يوليها لقراءة وتفسير ما يلقاه أثناء سيره البحثي، تؤدي مباشرة إلى استعادة
تجربته في حرب فيتنام واكتشاف جانب جديد من شخصيته، ليس كشرطي فقط، بل
كمتتبع أثر.
بُعد أسطوري مماثل أضيف لبعض أدوار علي. ففي فيلم "فري ستيت
أوف جونز" (2016) لغاري روس، الذي يرتكز على قصة حقيقية عن مجموعة من
الجنوبيين المهجرين والعبيد الهاربين خلال الحرب الأهلية الأميركية، يلعب
دور شخص يدعى موسى واشنطن. الاسم الأول يحيل إلى أصله التوراتي، بينما لقبه
يذكّر بما فعله جورج واشنطن بفرضه حق التصويت للسود في ميسيسيبي، الأمر
الذي يشبه ما تقوم به الشخصية في الفيلم كقوة تحررية تدافع عن حقوق شعبها
بالقانون. أيضاً، الاسم الأول لشخصية علي في "مونلايت" يحيل إلى شخصية
توراتية: في مشهد مفتاحي من الفيلم، يقوم خوان بتعميد الصغير شيرون في
البحر. لا يثقل الفيلم نفسه بإبراز البُعد الأسطوري لذلك الفعل، لكن علي
يُحضره مباشرة إلى قلب الوجود الأفرو أميركي. مع ذلك، أثناء تصوير هذه
اللحظة السينمائية السحرية، قد يكون الأمر أكثر أهمية بالنسبة إلى ماهرشالا
علي، كإنسان وكممثل: في الواقع، فقد قام، أمام الكاميرا، بتعليم شريكه،
الممثل الصغير أليكس هيبرت، كيف يسبح.
ذات مرة، تحدث سيدني بواتييه عن "العبء الكبير" الذي كان
عليه أن يتحمله باعتباره النجم السينمائي الأفرو أميركي الوحيد في
الخمسينات والستينات. وجد نفسه إزاء مهمة تمثيل جميع الأميركيين السود،
رجالاً ونساء، على شاشة السينما، فكان يحتاج إلى النجاح في أداء كل دور
والدخول في أفلام من كل نوع. ماهرشالا علي أيضاً ممثل "كاراكترات"، بمعنى
أو بآخر، يمكنه التعبير بنجاح عن شخصيات مختلفة وفي سياقات متناقضة تماماً.
الحضور المادي/الفيزيائي لعلي يدعم أداءه ذلك الدور بتوفيق مطرَّز. مشيته
ثقيلة لكنها مرنة، تعطيه الإتزان والجاذبية في آن. ومع ألعاب الجسد
التمثيلية، يعرف كيف يفسح المجال لصقل ما يؤديه. دوره في فيلم "هيدين
فيجرز" (2016) مثال حيّ على توظيفه لذلك السحر العادي، حيث يلعب شخصية ضابط
في الحرس الوطني يستهوي بذكاء عالمة رياضيات في وكالة ناسا. شخصية غير
مترابطة ومعقدة للغاية، لديها البصيرة وتجبرك على احترامها، ومرة أخرى،
هي شخصية مشجِّعة لغيرها على قبول الذات والمضي قدماً. يمارس علي التزاماً
هائلاً تجاه شخصياته، وبمران ودربة خفيين يترجمه تلبُّساً لحساسيتها
واستكشافاً لخبرتها. دور بعد آخر، يفعل علي ما يفعله كاتب عظيم: يتقدّم
حثيثاً، وعلى نحو سريع، يتعلّم من نفسه ومن غيره، يجود ويصقل، حتى يجيء زمن
ترقّ فيه العبارة وتصفو، تصبح وقورة وجذّابة، ناعمة ومغوية، لعوبة ودقيقة؛
فيقرّ ويستقرّ في الأذهان. |