"فهرنهايت
11/9"لمايكل مور: مؤشرات النظام الشمولي في أميركا
علاء رشيدي
يقدم مور مقاربة عن الوضع السياسي والإجتماعي والثقافي بين
الولايات المتحدة اليوم
يختلف عنوان فيلم مايكل مور فهرنهايت 9/11، عن عنوان فيلمه
هذا العام فهرنهايت 11/9، فالأول يحمل تاريخ وقوع الهجمات على برجي مبنى
التجارة العالمي في نيويورك العام 2001، وأدت إلى نشوب عدد من الحروب منها
حرب أفانستان والغزو الأميركي للعراق. أما فهرنهايت إنتاج هذا العام فهو
يقلب تاريخ اليوم والشهر، يصبح التاريخ التاسع من شهر تشرين الثاني، أي
تاريخ إعلان نتائج الإنتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، التي أفضت إلى
فوز الرئيس الحالي دونالد ترامب بالرئاسة.
في الإنتخابات الرئاسية 2016، كانت هيلاري كلينتون المرشحة
الأوفر حظاً بالفوز حسب الإحصائيات في مراكز الإستطلاع، قدرت نسبة نجاحها ب
82 %، مقابل 18 % لدونالد ترامب، ولكن كيف حصل ذلك إذاً؟ وفاز ترامب.
يقودنا فيلم مايكل مور الجديد في الحال الإجتماعي، السياسي،
الإقتصادي والثقافي الأميركي، في محاولة للإجابة عن سؤال " كيف حصل هذا؟"
ورغم أن هذا الحدث الأميركي الذي أثر على العالم، قد أُشبع في التحليل
والتعليق، إلا أن فيلم مايكل مور استطاع ان يحمل ما هو جديد، وأكثر عمقاً
في ربط الأحداث وتحليلها وتقديم المعلومات الجديدة عنه، منها: الكشف عن
أخطاء الديمقراطيين، دور وسائل الإعلام المعادية لترامب الآن في صناعته
والربح المادي منه، وذكورية الثقافة الأمريكية وجوانب أخرى.
خبرة التحكم بنسب المشاهدة
بقراءة لماحة، يبين مور أن للتلفزيون وبرامج الترفيه دوراً
في ظهور شخصية رجل الأعمال الثري دونالد ترامب كشخصية عامة. ومن خلال خبرة
ترامب في هذا المجال اكتسب تلك الأساليب والمخططات الإعلامية التي تحاول
استغلال سياسة قياس نسب المشاهدة،
Rating،
والتخطيط لها من خلال خطط وأحداث إعلامية مبتكرة لهذه الغاية. لقد استطاع
ترامب وقبل فوزه بالإنتخابات بأن يحول أي لقاء أو ظهور إعلامي له إلى سبق
صحافي لوسائل الإعلام، التي تبدو حالياً في صراع مع إدارته في البيت
الأبيض، إلا أن وسائل الإعلام هذه تجني الأرباح من أفعاله والأخبار
المتعلقة به وبتصرفاته. مثلاً تأخر ترامب عن الظهور على المنبر للتحدث إلى
الجمهور في إحدى حملاته الإنتخابية 25 دقيقة، هذا التأخير تقنية تجعل من
ظهوره حدثاً مهماً تتسابق وسائل الإعلام على نقل الخبر المتعلق به.
يرى مايكل مور أن الإنهيار ابتدأ مع فترة ولاية باراك
أوباما، ففي عهده تسممت مياه فلينت بسبب صفقة عقدت بين حاكم المدينة ومعمل
جنرال موتورز، بسبب تحويل المياه العذبة لصالح المعمل، وجعل المدينة تشرب
من مياه ملوثة رغم أنها تملك مقدرات مائية عذبة هائلة خصصت لعمليات تصنيع
السيارات في شركة جنرال موتورز. عمل حاكم ولاية ميتشيغن ريك ساندرس، على
إخفاء معدلات الرصاص الحقيقية في الإختبارات الطبية لمياه الشرب الموصولة
إلى منازل المدينة. يلتقي مايكل مور مع موظفة في مستشفى رفضت تزوير الأرقام
الحقيقية لمعدلات الرصاص، وفقدت على إثر ذلك عملها. أدت الحادثة إلى تدخل
الرئيس الأميركي أوباما في حينها، الذي وصل إلى فلينت وإن كان متأخراً،
ولكن ما قدمه كان حيلة مسرحية أمام الجماهير، حيث طلب كأساً من مياه
المدينة، ومَثّل بأنه شرب منه جرعة في دلالة على نقاء مياه المدينة، برأت
فعلة أوباما حاكم الولاية الفاسد في حينها. يقول مايكل مور في لقاء
تلفزيوني: "8 ملايين مواطن كان يصوتون لأوباما، انتقلوا للتصويت لصالح
ترامب".
الشعب الأميركي يساري
عبر الأقارم والإحصائيات يوضح مايكل مور في الفيلم رؤيته
حول ميول الأميركيين إلى اليسار السياسي، خلافا للنظرة السائدة عن
الأميركيين، تبين الإحصائيات أن ما نسبته بين 70 – 80 % من الأميركيين
يؤيدون ساسيات حكومية تعتبر من المناهج الحكومية اليسارية، منها: الضمان
الصحي، المساواة في الأجور، مجانية قطاع التعليم، وحتى تشريع المارغوانا
التي تعتبر علامة على اليسار، حقوق المثليين، إلغاء حق الأفراد بإمتلاك
السلاح. هذه الغالبية الأميركية لم تعد تجد بالحزب الديمقراطي ممثلاً جيداً
لسياسات اليسار في التكافل الإجتماعي، وتدخل الدولة في بعض القطاعات المهمة
كالصحة والتعليم. يقول مايكل مور: "100 مليون أميركي، لا ينتمون إلى أي من
الحزبين، ولا يصوتون في أية انتخابات، ما يعادل أكثر من 80 % من الناخبين
الأميركيين".
في الفيلم، يثبت مايكل مور أن تحول الحزب الديمقراطي من
سياسات اليسار إلى سياسة أكثر يمينية تم في عهد الرئيس الديمقراطي بيل
كلينتون، وهو أول من استعمل عبارة "استعادة أميركا قوية مجدداً
Make America Great Again"،
الشعار الذي استعمله مجدداً ترامب كشعار استقطاب جماهيري في حملته
الإنتخابية، وهو ما سيقارنه الفيلم لاحقاً مع شعارات الحزب الألماني النازي
بعد الحرب العالمية الأولى أي عودة "ألمانيا أمة عظيمة مجدداً".
أفول الحزب الديمقراطي
أصدر الرئيس بيل كلينتون العديد من القرارات التي حابت
الشركات وأصحاب المال، ومنها تخفيض الضرائب على الأغنياء، خصخصة بعض
القطاعات في الدولة، وبعض السياسات الأخرى التي اعتبرت في حينها لصالح
الأثرياء، الذين هم ممولو الأحزاب الكبرى في الولايات المتحدة. كانت هذه
بداية انهيار الثقة بين الشعب الأميركي والحزب الديمقراطي، الإنهيار الذي
بلغ ذروته في الانتخابات الأخيرة، حيث تلاعب متنفذو الحزب بأرقام الناخبين،
لكي تصبح (هيلاري كلينون ) ممثلة الحزب الديمقراطي بدلاً من بيرني ساندرز،
الذي كان مقرباً من الطبقات الشابة في الحزب، واضطر للخروج بناءً على
إحصائيات التصويت الداخلي، الذي يثبت فيلم مايكل مور عملية التزوير فيها
لصالح هيلاري كلينتون.
النظرة الدونية إلى المرأة الرئيسة
لا يشكك مايكل مور، كون هيلاري كلينتون امرأة، ودونالد
ترامب ذكراً، قد أدى إلى فوز الأخير. في الفيلم نسمع العديد من الإعلاميين
ومقدمي البرامج السياسية، وهم يتأففون من إمكانية أن تحكم امرأة الولايات
المتحدة، يقدم الفيلم معلومات حول كل منهم، وعدد اتهامات التحرش الجنسي
التي تطال هؤلاء الإعلاميين، يحاول مايكل مور أن يوضح أن القطاع السياسي
والإعلامي الأميركي محكوم من قبل مجموعة من الشخصيات الذكورية، وأن من
الصعوبة أن تعبر المرأة إلى الرئاسة الأميركية.
ربما من موضوعة التمييز ضد المرأة، تبدأ مرحلة ثانية في
الفيلم، فبعد التساؤل: "كيف حدث هذا؟"، يصبح السؤال: "هل هناك تخوف على
الديمقراطية الأميركية؟"، "ما هي العوامل الموجودة في الدول الشمولية والتي
يمكن مقاطعتها مع الواقع السياسي الأميركي الحالي؟"
كارتل السلاح
كان مايكل مور قد خصص فيلمه (بولينغ لأجل كولومباين، 2002 )
لحادثة إطلاق النار التي قام بها طالبان في ثانوية كولومباين العليا في
العام 1999، قتل على إثرها 20 طالباً وطالبة، وأصيب 20 آخرون بجروح بليغة.
ومنذ فيلمه التحقيقي هذا والذي نال عليه جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي
ذلك العام، ومايكل مور يتابع نفوذ شركات تصنيع الأسلحة في الولايات
المتحدة، والقوانين والتشريعات الحكومية التي يعتبرها المخرج تصب في صالح
الأرباح التي يحققها تجار وصناع السلاح في الولايات المتحدة.
في السنتين الماضيتين، ارتفعت وتيرة حوادث إطلاق النار
الجماعية في الولايات المتحدة، تقدرها منظمة (أرشيف عنف السلاح) بـ 300
حادثة في العام الجاري. (فهرنهايت 2018) يتابع حادثة إطلاق النار في شباط
2018 داخل مدرسة بارك لاند الثانوية بفلوريدا، والتي قتل على إثرها 17
ضحية. يهتم المخرج برد فعل الطلاب المراهقين الناجين من هذه الحادثة،
وتأسيسهم لحركة احتجاجات وضغط اعلامي على السياسيين لتغيير القوانين
والتشريعات المتعلقة بتنظيم حمل السلاح في الولايات المتحدة، خصوصاً بعد أن
كان رد ترامب بوجوب تسليح الأساتذة في المدارس، كي لا تحدث حالات اعتداء
مجدداً على الطلاب. يجد المخرج بهذه النشاطات والفعاليات المنظمة بالكامل
من قبل مراهقين وطلاب، والتي نجحت في استقطاب حركة وعي واحتجاج شعبية واسعة
على قوانين حمل السلاح في أميركا، يجد بهم نموذجاً للشعب حين يرغب أن ينتظم
ويقاوم السياسيات الحكومية التي تحابي صناع الأسلحة.
قوى متمردة ديمقراطية صاعدة.
نموذج اجتماعي – سياسي إيجابي آخر يقدمه الفيلم، وهو
المتمثل بالقوى الشابة الصاعدة في الحزب الديمقراطي، والمتمردة على
القيادات الديمقراطية التقليدية، والتي تمثلت في انتخابات الكونغرس النصفية
هذا العام، حيث ترشحت 400 امرأة للمرة الأولى، وتمكنت أسماء جديدة ومتمردة
من الفوز وتحقيق شعبية منهم رشيدة طليب، أول مسلمة تدخل الكونغرس عن ولاية
ميتشيغن، وألكسندرا رودريغز مرشحة أميركية لاتينية. يقدم الفيلم وثيقة
سمعية مسجلة للقيادي الثاني في الحزب الديمقراطي وهو يحاول الطلب من هؤلاء
الصاعدين الشبان بالتنحي لصالح مرشحين آخرين تقليديين يختارهم الحزب
بالتزكية، دون انتخابات، في إشارة جديدة من الفيلم إلى تراجع أداء الحزب
الديمقراطي.
قياس الشمولية والديمقراطية
يقدم
مور مقاربة عن الوضع السياسي والإجتماعي والثقافي بين الولايات المتحدة
اليوم، وألمانيا خلال فترة استلام الحزب النازي للسلطة، شعارات قومية من
قبيل عودة اميركا قوية مجدداً، ظهرت أيضاً في خطابات الحزب النازي. ففي كلا
التجربتين خطاب ينادي بالحنين إلى عظمة قومية سابقة.
النظرة العنصرية تجاه الآخر – المختلف، سادت في ألمانيا
تجاه اليهود، ويحاول اليوم ترامب تسويق الإسلام والمهاجرين المكسيكيين
كأعداء للتجربة الأميركية والخطر على وجودي يهدد الحلم الأميركي، فقد منع
جنسيات دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة، ومايزال يصارع في سبيل تحقيق
وعده ببناء جدار عازل بين الحدود المكسيكية والأميركية. كما أن العديد من
مناصري ترامب اعتدوا على مهاجرين وأفارقة أميركيين في مناسبات عديدة. يظهر
الفيلم فيديوهات توضح طرد ترامب لحضور في مهرجاناته الإنتخابية من ذوي
البشرة السمراء، وكذلك لمحجبة.
روّج ترامب في هجومه على الصحافة ووسائل الإعلام مقولة
:Fake news،
يتهم بها كل ما يخالف توجهاته بما يصدره الإعلام. ونشير إلى أن النظرية
ذاتها (الإعلام المضلل) استعملت من قبل الأنظمة الديكتاتورية العربية في
إنكار حراك الربيع العربي. وهي هذا المفهوم شمولي يساعد الأنظمة القمعية
على إنكار أي خبر سياسي أو حدث اجتماعي لا يتوافق ورؤيتها، واعتباره في
خانة المعلومة المضللة، على اعتبار أن الحكومة هي التي تُعرّف الحقيقة.
في الفيلم، يظهر مايكل مور عدد الحالات التي طرد فيها بعض
الصحافيين من لقاءات واجتماعات مع ترامب لم ترقه فيها أسئلتهم. كما أن ترمب
وصف وسائل الإعلام الإخبارية بكونها
( Enemy of the people)،
أي أعداء الشعب، مما يذكر بالتهم التي وجهها النظام النازي للفنانين
الألمان والأوروبيين الطليعيين والمجددين في الفن في تلك المرحلة من حكم
هتلر. يقارن الفيلم بين استفادة النازية من الإعلام للبروباغندا، وبين
الطريقة التي يرغب فيها ترمب إدارة وسائل الإعلام في الولايات المتحدة.
ابتكار التهديد الأمني
نظرية الإستقرار بدلاً عن الحرية، هي نظرية استعملت في
الفكر السياسي على مدار التاريخ لقمع التحركات الإجتماعية المطالبة بالمزيد
من الحريات والديمقراطية، استعملت أيضاً في وجه العديد من حركات الربيع
العربي، وها هو ترامب يرددها في لقاءاته الصحافية وخطاباته، يبين (فهرنهايت
2018 ) أن الإدارة الأميركية الحالية تحاول تخويف الشعب من أعداء محتملين
مثل الإرهاب، الإسلام، أو الهجمات النووية من قبل كوريا الشمالية، نشاهد في
الفيلم خطأً من النظام الأمني في هاواي، معلناً عبر الرسائل النصية للسكان
ضرورة التحرك فوراً إلى الملاجئ لأن هجوماً نووياً كورياً شمالياً قد بدأ،
لتعود وتعتذر الإدارة الأمنية عن هذا الخطأ. لكن مايكل مور يعرض الحادثة
الواقعية في سياق التخويف من العدو الخارجي.
تكتب حنة آرنت في كتابها "في الثورة": "إن كان هناك عدو
خارجي، فإن أي ثورة داخلية ستفضي إلى ديكتاتور جديد".
(*)
يعرض الفيلم في سينما أمبير صوفيل. |