«يوم
الدين».. ليس بالإنسانية وحدها تُصنع سينما
وائل سعيد
لا شك في أن الجرعة العالية في الفيلم لكسب التعاطف
جعلتك تقف في نهاية الفيلم عند حافتي المع والضد؛ هل اقترب المخرج
من عالمه المطروح بمستوى يحافظ على القيم الجمالية سينمائياً. وهل
كانت لعبة الإنسانية التي يراهن عليها الفيلم في مصلحته أم ضده..
الجُذام من أكثر الأمراض التي تثير الخوف والرهبة،
شأنه في ذلك شأن السُل والربو والجرب، ودائماً ما يتم الخلط بينه
وبين ذلك الأخير، وجميعها تتطلب التعامل بحذر مع المصابين بها، غير
أن الوعي الجمعي بالغ بالحذر إلى حد النفور والاشمئزاز والزجر،
عملاً بالمثل السائر "فر من المجذوم فرارك من الأسد" والتي نسبت في
بعض الروايات إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما لعب عليه المخرج الشاب المصري أبو بكر شوقي
في تجربته السينمائية الأولي "يوم الدين"، الذي مثّل مصر مؤخراً في
المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته الحادية
والسبعين، بعد غياب السينما المصرية لست سنوات عن المشاركة
بالمهرجان.
مجتمع داخل مجتمع
في بدايات القرن العشرين تم عزل مرضي الجُذام
بمرسوم ملكي من الملك فؤاد الأول بمنطقة أبو زعبل بالخانكة محافظة
القليوبية، على مساحة 262 فداناً يتم تقسيم جزء منها لعدة أبنية
-تغيرت وتبدلت وظائفها- حتى وصلت لوضعها الحالي: مبنى الإدارة
وعنابر المرضي ومكتبة ومسجد، وبعض العيادات الخارجية المتخصصة،
ومعمل وصيدلية ومخبز وكانت توجد نقطة شرطة صغيرة قديماً بالمكان تم
تقليص أفرادها وإمكاناتها عبر العقود السابقة إلى أن تلاشت تماماً
الآن، بالإضافة إلى بعض الورش الصناعية البسيطة.
وهناك دارت أحداث فيلم شوقي، فتجول بكاميرته بين
بيوت الصفيح والطوب التي في عزبة الصفيح المُجاورة للمستعمرة،
ماراً على سكانها المجذومين الذين انقطع عنهم الجميع حتى ذويهم،
فعاشوا وكبروا وتزوجوا وأنجبوا وصنعوا مجتمعاً داخل مجتمع لم يعترف
بهم.
قام شوقي كذلك بكتابة السيناريو والحوار، وأسند دور
البطولة لأحد ضحايا المرض، راضي جمال في دور بشاي والطفل أحمد عبد
الحفيظ، ابن حارس عقار. ما يعني أننا أمام مخرج يتحدى المُتلقي
بفيلمه الأول؛ فلا يعول على أبطال معروفين، أو مواضيع تجارية آمنة،
أو بعض التحبيشات السينمائية المستخدمة.
رحلة السيد المُبجل وطواحين الهواء
هل كان سرفانتس علي علم وهو يكتب رحلة السيد النبيل
دون كيخوتي دي لا مانتشا في القرن السادس عشر؛ بأنها ستكون من أشهر
الرحلات الفلسفية التي خاضها إنسان العصر الحديث، وبأن رحلته تلك
سيتم تناولها وإعادة استلهامها مئات المرات؟!
لعل سرفانتس ناوش عقل المخرج في تناوله لفيلمه
الأول؛ فراح يسرد لنا عبر 97 دقيقة رحلة المجذوم "بشاي" متمرداً
على حيزه الضيق الذي تركه أبوه فيه ثلاثين عاماً، إلى حيز أكثر
براحاً يضم بلده وأسرته، بصحبة الطفل اليتيم "أوباما"، على عربة
بشاي الكارو إلى محافظة قنا مسترشدين بالنيل.
في الطريق، يتقابل بشاي مع الآخرين، شركاؤه في
الأرض والوطن، حيث الوجوه التي مازالت بملامحها دون تآكل، بينما
ينخرها التآكل في الصميم. كل من حوله في المستعمرة كانوا شبهه،
وكان رفيقه قد حذره على حدود المستعمرة من مواجهة الناس، فلا حياة
لنا في الخارج "احنا زي بعض ومن بعض". ولكن بشاي كان يبحث عن جذور
ينتمي إليها "انتو ليكوا عيال تسأل عنكو.. لكن أنا لوحدي".
سيناريو وإخراج..
كثيراً ما جمع بعض مخرجي السينما بين كتابة
السيناريو والإخراج، منهم من نجح ومنهم من لم يحالفه الحظ، لكن
التجربة كانت دائماً محفوفة بالمخاطر والحذر خاصة حين نكون إزاء
التجربة الأولي. وقد أضاف شوقي للثنائية السابقة الحوار أيضاً،
ولاقى الفيلم إقبالاً جماهيرياً واضحاً فور عرضه بمصر، إذ لعب
المخرج على تقنيات جمالية كتحريك الكاميرا واختيار المشاهد ومساحات
الحوار الصامت والمنولوجات الداخلية والفلاش باك.
ولكن على مستوى الحوار تأرجحت الشخصيات بين
الخطابية أحياناً والافتعال في أحيان أخرى، وبعض القفشات المتكررة،
وبين البساطة التي تدفقت -بين الحين والآخر- ويتضح من ذلك مساحة
الارتجال أثناء التصوير.
ويظهر التدخل الثقافي الواضح للمخرج في بعض
المفردات، كـ "البيروقراطية المصرية. دول العالم الثالث. الحق
الآدمي والقانوني" وما إلى ذلك، والتي لن تخرج بأي حال من مجموعة
متسولين يُقابلهم بشاي أثناء رحلته بين هؤلاء الأصحاء في انتظار
يوم الدين -يوم القيام- حين يتساوى الجميع ويبدأ الله في تعويضهم
عما لحق بهم في الدنيا، بالإضافة إلى استخدام مستويات الحوار
الفلسفية في السؤال عن كيفية الوجود والتمييز العنصري، أو حين يقول
بشاي "أنا خفيت من برا.. لكن جوايا جرح مبيخفش".
كما يظهر في السيناريو نوع من الاستسهال الدرامي؛
حيث يُسجن بشاي مع أحد الإخوانيين -الإرهابيين- ويستطيع الأخير
الهرب أثناء ترحيلهما من محبس النقطة الصغيرة لتخشيبة السجن،
ولمجرد أن أصر الإخواني على استعادة مصحفه الذي تركه في الزنزانة
فيتركهما الشاويش المصاحب واقفان أمام باب القسم ويدخل لإحضار
المصحف. ومن المعروف أن جماعة الإخوان يتم معاملة أي فرد منها
بإجراءات أمنية مشددة وينطبق ذلك على كل من يحمل سمة الجماعة
-اللحية والجلباب- حتى يتبين عدم انتمائه لهم وليس بهذه الطريقة
السهلة.
ويُحسب للفيلم أنه برغم انتمائه للسينما الخاصة أو
المستقلة، فقد حقق إقبالًا جماهيرياً لافتاً للأنظار يدل على أن
الفن الخاص الذي احتكرته الصفوة على نفسها لسنوات شق طريقه إلى
الجمهور العادي، وهو ما اتضح من عدة تجارب فردية خلال السنوات
الأخيرة، حيث حقق الفيلم ما يُقارب من 250 ألف جنيه إيرادات منذ
طرحه من أيام في سينمات القاهرة والإسكندرية وبعض المحافظات
الأخرى.
تكنيك..
لم يبرح شوقي منطقة الإخراج الآمن في فيلم ”يوم
الدين“، باستخدام أدوات لا يحمل استخدامُها غير معان أحادية
وصريحة، مثل العلاقة الشرْطية بين مجموعة مشاهد والتي تجيء في كثير
من الأحيان بين مشهدي البداية والنهاية أو بين عدة مشاهد، يبدأ
الفيلم "بقلوظ آب" علي يد بشاي المشوهة التي تجول بين أكوام من
الزبالة تبحث عما يمكن بيعه، وهذا ما يقتات عليه بشاي.
يعثر بشاي على مسجل صغير قديم بحجارة ويحتفظ به
طوال الفيلم محاولاً استخدامه في محاولات متعددة كي يُخرج صوتاً،
ثم يظهر المسجل مرة أخرى بعد إصابة الولد "أوباما" وهذه المرة
يشغله هو وليس بشاي ككل مرة، ليعمل المسجل بالفعل وكان بداخله شريط
لأغنية جماعية مصرية قديمة تقول "الوله ده الوله ده.. الوله وله
مين.. الحلو ده.. الحلو ده"... والحلو هنا موجهة من الطفل اليتيم
المصاحب لبشاي والذي تعود على قبح شكله ولا يرى سوى الجمال.
نفس الشيء حدث مع طريقة العقدة والأمل؛ فقد خرج
بشاي وأوباما بملابس عادية تمزقت وبُليت عبر رحلتهما، يركبان كارو
بحمار ويفقدانه في الطريق، ثم نراهما بعد أن نجحا في الوصول
للمجتمع الذي نبذهم يقررون العودة بكامل رغبتهما على عربة جر قطار
وهما نظيفان بملابس جديدة إلى أكوام الزبالة.
أما عن تحريك الممثلين فحمل الأداء في العموم
الكثير من ”التمثيل“ وظهرت ديفوهات/أخطاء الوقوف لأول مرة أمام
الكاميرا، حتى في بعض مشاهد الطفل أحمد والذي أشاد الجميع ببراعته
في أداء دور أوباما.
وجاءت معظم أماكن التصوير في صورتها الاعتيادية
المتكررة، المستشفى. مقلب الزبالة، مكتب موظف المستشفى ومكتب
المدير، والبيوت الفقيرة، وحملت مشاهد محاورات بشاي مع مجموعة
المتسولين تحت أحد الجسور روح المخرج الإيطالى "فلليني" على مستوى
رسم الشخصيات "قزم. أبله. رجل مقطوع الساقين" وعلى مستوى تحركهم
أمام الكاميرا.
كائن لا تحتمل إنسانيته
لا شك في أن الجرعة العالية في الفيلم لكسب التعاطف
جعلتك تقف في نهاية الفيلم عند حافتي المع والضد؛ هل اقترب المخرج
من عالمه المطروح بمستوى يحافظ على القيم الجمالية سينمائياً. وهل
كانت لعبة الإنسانية التي يراهن عليها الفيلم في مصلحته أم ضده..
ولا جدال في موضع ثنائية الإنسانية والتعاطف التي
يلعب عليها الفيلم، بداية من الفكرة واختيار الأبطال ومواقع
التصوير، حتى أن المخرج في أحد الحوارات يُصرّح بأن السيناريو في
البداية كان مُعداً لإحدى السيدات من مرضي المستعمرة وليس راضي
جمال أو بشاي، وحين تطورت الحالة المرضية للبطلة وحال ذلك بينها
وبين التصوير؛ تقدم راضي ليحل مكانها وبالتالي تم تغيير الشخصية من
امرأة لرجل.
أجد من الصعوبة الجزم بحكم نهائي على هذه التجربة
ولكن أستدعي هذه الواقعة لتأكيد أيديولوجية المخرج منذ بداية
الفكرة التي تُخاطب تعاطف الجمهور العربي، وقد فعل نفس الشيء وبنفس
الأيديولوجية الممثل الراحل أنور وجدي منتصف القرن الماضي، حين
أقدم على تقديم شارلي شابلن في شخصيته الأثيرة "المُتسول" ولكنه
استبدل الطفل المصاحب لشابلن بطفلة كي تحقق مزيداً من تعاطف
الجمهور، والتي أطلق عليها وقتها الطفلة المُعجزة فيروز.
كاتب من مصر |