لوس أنجليس – «القدس العربي» : في عامِ تسعمئةٍ وثلاثةٍ وسبعين،
يُختطفُ جون بول غيتي الثالث، حفيدُ أغنى رجلٍ في العالمِ آنذاك،
جي بول غيتي، على يدِ عصابةٍ مسلحةٍ، بينما كان يتسكع في شوارع
روما. تتصل العصابة بأمه، ابيغيل غيتي، طالبة سبعةَ عشرَ مليون
دولار مقابل حياتِه.
عندما يصل خبر الاختطاف إلى غيتي الجد، يرفض دفع الفدية، ويصرح
للإعلام بأنه إذا وافق على دفع الفدية فإن كل أحفاده، وعددهم 14،
سوف يتعرضون للاختطاف. ويرسلُ مديرَ أمنِه، عميلِ «سي أي آي»
السابق، فليتشر تشيس، إلى ايطاليا للتحري. لأنه كان يشك أَن حفيده
كان وراء عملية الاختطاف، بالتعاون مع المافيا لكي يحصل على بعض
المال من جده البخيل.
يردُ المختطفون بقطعِ اذنِ رهينتهم وارسالِها بمغلفْ، إلى صحيفةٍ
إيطالية، مهددينَ بقطعِ أعضاءٍ أخرى من جسدِه إذا لم يحصلوا على
الفدية.
هذه الحادثةُ التاريخية يعالجُها المخرجُ العريق ريدلي سكوت، في
فيلمِه الجديد «كل المال في العالم»، الذي ينطلق هذا الأسبوع في
دورِ السينما. وفي حديث معه في لوس أنجليس كشف لي أن سيناريو
الفيلم، وصل اليه بشكل مفاجىء من شخص يثق به ولَم يُطوّر في شركته
«سكوت فري» كغير سيناريوهات أفلامه.
سكوت معروف بأفلام الخيال العلمي على غرار «بليد رانر» و «كائن
فضائي» و»بروميثيوس» والأفلام التاريخية على غرار «غلادياتور»
و»مملكة الجنة» و «روبين هود»، ولكن عندما لا ينطلق إلى الفضاء
الشاسع أو يعود إلى الماضي البعيد، يسبر في أفلامه جشع المال،
الاٍرهاب والإجرام، مثل «رجل عصابة أمريكي» و «بلاك هوك داون» و
«ذي كونسيلر»، وكل هذه العناصر موجودة في «كل المال في العالم»،
فهل ذلك ما جذبه لصنع الفيلم؟
فتنة الصحافة
«نعم. أنا دائما أبحث عن أشياء مختلفة، يقول سكوت: «إذا كنت راشدا
أنت أصلا تكون تطور أشياء طوال الوقت. هذا النص وضع على مكتبي.
قرأته وأحببت نغمته لأنني كنت طبعا أعرف عن غيتي، لأنه كان مشهورا
في الستينيات والسبعينيات في لندن، والقصة ذات طابع صحافي. هي
مكتوبة بهذا الأسلوب، وأنا أحب ذلك لأنني مررت بتجربة جيدة جدا في
فيلم «رجل عصابة أمريكي»، الذي كان أيضا نوعا ما صحافيا، لأن
الصحافة دائما تحوم حول الحقيقية، كما تعلم، الحقيقة دائما كيان
عابر تحاول أن تحدد ماذا ربما حدث. وهذا ما جذبني للقصة.
وشعرت أنه يكاد أن يكون إلى حد ما فيلما وثائقيا ملحميا ضخما بشكل
ما، لكن فيه تشويق، وفيه مشهد وحشي وهو قطع أذن بول. وأنا أعتقد
أنه أساسي. وكان يمكن أن تكون رجله وكان يمكن أن يموت لأنهم ليسوا
مؤهلين لهذا النوع من الجراحة. لكن أيضا تناول رجلا أنا أعتقد أنه
أهمل عائلته بسبب هوسه بنفسه وصنع ثرائه وإدارة أعماله. ويزدهر في
ما يخص الثراء، ويتحدث غيتي عن فراغ الثراء. عندك عرض ضخم من
الإهمال وهكذا تحصل على أناس وعائلات مصابة».
ولد غيتي عام 1892 في ولاية أوكلاهوما الأمريكية لأب كان إبنَ
تاجرِ نفطٍ. وانخرطَ مع والده في مجالِ النفطِ منذ السادسةَ عشرةَ
من عمرِه. وسرعان ما صار مستقلا يقوم بصفقات تجارية بنفسه ويحصل
على أول مليون دولار وهو في الثالثةِ والعشرين. لكن مصدرَ ثروتِه
كان النفطُ، الذي استخرجَه من أرضٍ سعوديةٍ بجانب الحدود مع
الكويت، اشتراها من الملك عبد العزيز عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وتسعةٍ
واربعين، بعشرةِ ملايينِ دولار وغرامة مليون دولار كل عام. ولكنه
لم ير أي دخل إلا بعد 5 أعوام واستثمار 30 مليون دولار في البحث عن
النفط. كما أنه اتقنَ اللغةَ العربيةَ لكي يعززَ نفوذَه في الشرقِ
الأوسط. واستثمرَ أرباحَه في امتلاكِ مئتي شركةْ، فضلا عن تأسيسِ
شركةِ غيتي للنفط.
سكوت أيضا له روابط في العالم العربي، إذ أنه سبر تاريخ وحاضر
الشرق الأوسط في عدد من أفلامه على غرار «مملكة الجنة»، الذي
يتناول انتصار صلاح الدين على الصليبيين، و»جسم أكاذيب» عن عميل
«سي آي أيه» يلاحق مجموعة إرهابية في الأردن، و»بلاك هوك داون»، عن
فشل الغارة الأمريكية في الصومال عام 1991. كما أنه صور عددا من
أفلامه في المغرب مثل «غلادييتر»، «مملكة الجنة»، «جسم أكاذيب»
و»أوكسيدوس: آلهة وملوك» وفي والأردن مثل «بروميثيوس»، «جي أي جين»
و»المريخي». كما بنى علاقات مع ملك المغرب وملك الأردن.
«عندما ذهبت إلى الأردن لأصور «جي آي جين» قابلت وزير الثقافة،
وبعد ذلك الملك وقال لي، لماذا تجعل العرب دائما أشرارا؟ وقال: أنا
أمزح. عنده حس فكاهي عظيم». يضحك سكوت، الذي اعترف لي بأنه ليس
عدائيا للعرب وإنما يطرح النظرة الاستشراقية السائدة في الغرب وهي
التي ترعرع عليها.
ومن أجل تقديم مصدر ثراء غيتي عاد سكوت إلى الأردن للتصوير في وادي
الرام، الذي وقع في حبه: «كنت أقود سيارتي عبر السكة الحديدية هناك
كل صباح والتلة كانت في الخلف حول الزاوية، حيث صوّرت المريخي قبل
عامين لهذا كنت أعرف أين كان ذلك القطار. ذاك القطار كان من فيلم
«لورنس العرب» والذي هاجمه لورنس. أنا أعتقد أنه كان قطارا
عثمانيا، لهذا عرفت أن بإمكاني أن أحصل على القطار. وهي أفضل طريقة
لتقديم جون بول غيتي يأتي على متن قطار إلى الأرض التي كان
سيشتريها مع كل العرب النافذين هناك».
سطوة الأنثى
سكوت أيضا معروفٌ بطرحِ أدوارٍ انثويةٍ رئيسيةٍ في أفلامِه، على
غرارِ «تلما ولويس» وريبلي في «اليانز» واليزابيث شو في
«بروميثيوس». وفي «كل المال في العالم» يجعلُ من الأمِ، التي تلعبُ
دورَها ميشيل وليامز، بطلتَه وبوصلتَه الأخلاقية.
«قاعدة هذه القصة هو كيف تتعامل الأم مع هذه الحالة وهذه الأوضاع
بدون أن تكون هستيرية وتكون شجاعة وقوية من اجل إعادة ابنها»، يوضح
سكوت.
وفي حديث مع وليامز لاحقا، عبرت عن دهشتها من تفهم سكوت للنساء
واحترامه لهن: «هنا رجل في الثمانين من عمره ليس بحاجة للمغامرة
باختياري أو اختيار إمرأة، أو فيلم حول امرأة، ولكنه يفعل ذلك لأنه
يؤمن به».
الأم كانت مطلقةً من زوجِها، ابن غيتي، مدمنِ المخدرات، منذ 1964
وكانت تعيش لوحدها. وتخلت عن نفقتِها مقابلَ موافقتِه بوصايتِها
على أطفالها، لهذا لم تملكْ مالَ فديةِ ابنِها. وعندما تستغيثُ
بجدِه الثري، يرفضُ مقابلتَها والسماعَ لها. ورغم محاولتها
الابتعاد عن غيتي إلا أن المختطفين يصرون على أنها تملك المال
لأنها ما زالت تحمل الاسم الأخير غيتي. فهي كانت بين المطرقة
والسندان.
«لهذا هي فعلا في حالة ارتباك وفي مأزق حقيقي»، تقول وليامز: «لأن
إسمها الأخير هو غيتي، ولهذا الكل يعتقد أن بامكانها أن تدفع المال
ولكنها لا تستطيع. يداها مكبلة تماما. وهذا مثل حالة هوية خاطئة.
هم يعتقدون أنها الشخص المسؤول وبعد ذلك تجاه نهاية الفيلم هي تقرر
أنه إذا هم يظنون ذلك. لماذا لا أتصرف مثل ذلك».
المال أهم من الأحفاد
محنةُ الأمِ تثيرُ تعاطفَ تشيس، الذي ينقلبُ لاحقا على سيدِه
ويطالبه بدفع الفدية قبل أن يقتل المختطفون حفيده، ولكن غيتي يرفض
مصرا على أنه لم يملك المال. ويقرر تشيس أن يقوم بإنقاذ الحفيد
بنفسه، من خلال المفاوضات مع المختطفين لتخفيض الفدية لكي يتمكن من
دفعها.
حث غيتي على دفع الفدية لا يتوافق مع سياسة «سي آي إيه»، التي كان
يعمل لحسابها تشيس، وهي الامتناع عن التفاوض مع الإرهابيين أو
تلبية طلباتهم. ولكن مارك وولبرغ، الذي يجسد دوره، يصر على أن
الوضع كان مختلفا.
«أدراك أن هذا أمر عائلي والخطر الوشيك الذي يواجهه بول الصغير أو
بول الثالث، أعتقد أن عليك أن تقوم ببعض التنازلات وكل حالة تختلف
عن غيرها»، يوضح وولبرغ، الذي يرفض أن يعلق على رفض حكومة الولايات
المتحدة التفاوض مع الإرهابيين، رغم تهديدهم بقطع رؤوس رهائنهم
الأمريكيين وتنفيذ ذلك لاحقا: «هذه قضية جدية جدا ومعقدة جدا»،
يضيف الممثل.
وهذا أيضا كان رد فعل غيتي، الذي أصر على تجاهل المختطفين، وهذا
أمر يتوافق مع سياسة حكومته: «أنا أعتقد مرة أخرى أن هناك أمور
معينة تختلف عن غيرها»، يصر وولبرغ: «أعني ماذا ستفعل لحماية طفلك؟
ماذا ستفعل لحماية أحبائك؟ كما تعلم الشخص العادي ينظر إلى ذلك
بصورة مختلفة ويقول: حسنا، هنا شخص أغنى رجل في العالم ولكنه غير
مستعد أن يساعد بـ 17 مليون دولار لانقاذ حياة حفيده، بالرغم أنه
مستعد أن يصرف ملايين من الدولارات على قطعة فنية ولكن مرة أخرى هو
كان يحاسب ضيوفه على استخدام التلفون في بيته ولا يدفع لغسل
ملابسه. هو شخص معقد ومثير».
فعلا أن غيتي كان معروفا بالبخلِ على نفسِه وعلى عائلتِه. ووضعَ
كلَّ أموالِه في حسابِ توفيرٍ، لكي يتفادى دفعَ الضرائب. ولم يصرفْ
إلا على قطع الفنِ النادرة، التي جمعها من كل أنحاء العالم،
وعرضِها مجانا في متاحفِه لعامةِ الشعب على غرارِ متحف غيتي وفيلا
غيتي في لوس أنجلس، التي تحتوي على عشراتِ الآلافِ من تحفِ العصورِ
القديمة. كما تبرع بمئات ملايين الدولارات لمؤسسات خيرية. هذا
التناقضُ لم يغبْ عن كريستوفر بلامر، الذي جسدَ الشخصيةَ في
الفيلم.
«هو في النهاية لم يكن صعبا»، يقول بلامر: «وكانت هناك ألوان عدة
وتشكيلة عظيمة لشخصيته. أنا شعرت بالتماهي والتعاطف معه وهذا ما
أردت تحقيقه لأن ما قاله كان منطقيا. ريدلي وأنا تمعنا به عن قرب
وحاولنا أن نجعله وديا أو على الأقل نمنحه بعض الإنسانية».
الودية التي يتحدث عنها بلامر تختلف عن الفتور الذي طرحه كيفين
سبيي، الذي جسد دور غيتي في نسخة الفيلم الأصلية ولكن بعد الكشف عن
اعتداءاته الجنسية في بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الأخير، قرر
سكوت أن يصوّر مشاهده من جديد واختار بلامر لتبديله. ورغم شكوك
الاستوديو والمعلقين بقدرة سكوت على فعل ذلك إلا أنه نجح في تصوير
المشاهد خلال 10 أيام ولكن بتكلفة 10 ملايين دولار.
سكوت واجه محنة مشابهة عام 1998 عندما توفي الممثل أوليفر ريد،
الذي كان يجسد دور تاجر العبيد بركسيمو في «غلادييتر» خلال
التصوير. ولكن آنذك لجأ إلى تعديل صورته رقميا من خلال استخدام جسد
ممثل آخر ووضع رأس أوليفر الرقمي فوقه. الغريب أنه رغم تقدم
التقنيات الرقمية منذ ذلك الحين، إلا أن سكوت لم يلجأ اليها هذه
المرة.
«لم استطع فعل ذلك»، يؤكد المخرج العريق: «أوليفر كان ميتا ولم
أستطع أن اختار بديلا لأوليفر، وكان علي أن آخذ مكونات رأسه بينما
يقول شيئا ما ووضعه على متن جسد رجل آخر وأجعله يمشي عبر ذلك البهو
لاكمال عمله في الفيلم، ولكن ما فعلته هناك كان أسهل بكثير لأني
ببساطة اخترت بديلا للمثل. صحيح أنني أفعل أكثر الأشياء مثل تصوير
22 مشهدا، ولكن الصعوبات الرقمية في إعادة أوليفر ريد كانت أصعب من
ذلك».
ويعزو سكوت نجاحه في مغامرته لطاقمه من المحترفين، الذين آزروه في
إعادة التصوير دون مقابل: «في حالة إتخاذ القرار، امتثلوا أمامي
وتحولوا إلى فريق بحري عظيم»، يضحك المخرج.
بلا شك أن ما فعله سكوت هو معجزةٌ سينمائىة، مثل معجزةِ الثروةِ،
التي حققَها غيتي، من الاستثمارِ بصحراءٍ نائيةٍ في السعودية. كلا
الشخصيتينِ تتميزانِ بثقةٍ نفسيةٍ فوقَ – بشرية، ولا يؤمنا
بالمستحيل. ورغم شك الناس بقدرة كل منهما على تحقيق ما حققه لاحقا
إلا أنه استمر في دربه بلا ريب حتى أثبت أنه كان على حق. وربما هذا
ما دفعَ أحدهما لصنعِ فيلم عن الآخر. |