في القسم الخاص بأفلام المخرجين المبدعين أي
المؤلفين أصحاب الرؤية الفنية بمهرجان فينيسيا السينمائي المقام
حاليا، عرض فيلم “البحث عن أم كلثوم”
Looking for Oum kulthum
للمخرجة الإيرانية التي تقيم وتعمل في فرنسا شيرين نشأت، وهذا هو
فيلمها الروائي الطويل الثاني بعد فيلم “نساء من دون رجال” الذي
شارك في مسابقة مهرجان فينيسيا عام 2009 وفاز بجائزة الأسد الفضي.
شيرين نشأت مخرجة إيرانية موهوبة من ناحية اهتمامها
بالصورة السينمائية، بالتجريب في الشكل، بالبحث عن العلاقة بين
الشخصيات “النسائية” التي تبحث أزمتها عادة، والعالم المحيط بها،
وهي مهمومة بوجه خاص، بالبحث فيما تواجهه المرأة من ضغوط وقيود في
المجتمعات الإسلامية، إنها تنتمي إلى ما يعرف بالحركة النسائية
الدولية التي ترى المرأة كيانا خاصا له مشاكله التي لا تشبه غيرها،
والتي تطالب بالمساواة مع الرجل في جميع الحقوق.
اختارت شيرين نشأت شخصية أم كلثوم، أسطورة الغناء
العربي في القرن العشرين، لكي تصنع منها فيلمها الجديد “البحث عن
أم كلثوم” المشارك حاليا في قسم أفلام المخرجين المبدعين بمهرجان
فينيسيا السينمائي الـ74، لكنها ابتعدت عن فكرة تقديم سيرة حياة
المطربة العظيمة، وفضلت أن يكون بحثها عن أم كلثوم أرضية لموضوعها
الأساسي، وهو البحث عن ذاتها، عن أسباب معاناتها، عن علاقتها بالفن
وبالعالم.
نشأت تتساءل كيف أمكن أن تصعد أم كلثوم، تغني وتسعد
ملايين الرجال والنساء، تدخل جميع البيوت في الريف والمدينة، تنال
إعجاب الملوك والرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر، وهي الفتاة
القروية ذات الأصول البسيطة التي نشأت في مجتمع تقليدي محافظ في
نظرته للمرأة عموما؟ كيف أمكن لأم كلثوم في مجتمع كهذا، أن تصل إلى
القمة وتتربع على عرش الغناء لأكثر من خمسين سنة؟
الكثير من الشخصيات تظهر وتختفي في "البحث عن أم
كلثوم" دون أن نعرف من هي ومن أين جاءت وما دورها في الفيلم
التساؤلات جيدة ويمكن أن تكون أساسا لفيلم مركب
دراميا، جذاب من حيث الشكل، ولكن هل تمكنت شيرين نشأت ولو عند لحظة
وحيدة في فيلمها من أن تجعل الجمهور الغربي الذي صنعت الفيلم من
أجله، يغادر وهو يعرف شيئا عن أم كلثوم؟ وهل نجحت في تحقيق متعتَيْ
الاكتشاف والمشاهدة؟ الحقيقة أننا نغادر قاعة العرض دون أن نعرف
ماذا فعلت شيرين نشأت بأم كلثوم، وماذا فعلت الأخيرة بشيرين نشأت،
لكننا بالقطع نعرف أن شيرين عجزت عن مقاربة هذه الشخصية الفريدة،
ووضعها في ظروف عصرها، أو تقديم تفسير مقنع لصعود أم كلثوم في سياق
صعود الطبقة الوسطى المصرية، وصولا إلى الذروة في الأربعينات
والخمسينات من القرن الماضي، والمعضلة الثانية أنها لم تنجح في
تقريبنا من أزمتها هي الشخصية، أزمتها الإبداعية والحياتية.
لا يخضع الفيلم لبناء روائي محكم ولو من خلال الشكل
الحداثي لسينما المؤلف، فهو يعاني أساسا من ضعف السيناريو، فالكثير
من الشخصيات تظهر وتختفي دون أن نعرف من هي ومن أين جاءت وما دورها
في الفيلم، والكثير من المشاهد تبدو منفصلة عن السياق الأصلي
للفيلم، أو محشوة قسرا وخاضعة لفكرة نظرية مسبقة تريد المخرجة
التعبير عنها دون أن تكون قد استوعبت أصلا البيئة التي تصورها في
فيلمها.
نحن لا نفهم في نهاية الأمر، لماذا نجحت أم كلثوم
وتفوقت في مجتمع لم يكن يقبل المرأة كمطربة في ذلك الوقت؟ وياسمين
رئيس التي تؤدي دون اقتناع كبير بالشخصية التي تؤديها، شخصية أم
كلثوم في فترة من حياتها، رغم حضور وجهها وتركيز الكاميرا عليها في
لقطات قريبة “كلوز أب”، تبدو تائهة، ضائعة، مرتبكة وسط ذلك البناء
المفكك والأنماط الاستشراقية المبهرجة.
أزمة الذات
شيرين نشأت لا تعرف اللغة العربية تماما مثل بطلتها
المخرجة ميترا داخل الفيلم، ولا يمكنها أن تفهم أو تستوعب ما تردده
أم كلثوم في أغانيها، إنها تستطيع بالتأكيد أن تستمتع بصوتها
وأدائها العبقري وموسيقى ألحانها، لكن أكثر ما يجذبها ليست الأغاني
نفسها، بل تأثير تلك الأغاني على السامعين.
موضوع الفيلم من ناحية مثير كونه يتناول شخصية
عرفها العرب جميعا وانتقلت شهرتها وتأثيرها إلى إيران وإلى العالم
كله، ولكن من ناحية أخرى أرادت المخرجة الإيرانية أن تجعل أم كلثوم
مدخلا لفهم تعقيدات حياتها هي نفسها كفنانة أو كامرأة تريد أن تعبر
عن نفسها بالفن، وقد اختارت شكل الفيلم من داخل الفيلم، فالبطلة أو
الشخصية الرئيسية الحقيقية ليست أم كلثوم، بل المخرجة السينمائية
الإيرانية الأصل المقيمة في الغرب “ميترا” (وهي المعادلة لشخصية
شيرين نشأت نفسها).
وميترا تصور فيلما عن أم كلثوم، تريد أن تفهمها
وتستوعب مغزى نجاحها في مجتمع متحفظ بتقاليده وثقافته، لكن الأمور
تختلط عليها وتجد نفسها قد أصبحت لا تستطيع التفرقة بين الواقع
والخيال، بين الممثلين الذين يعملون معها وبين الشخصيات الخيالية
المبتكرة في الفيلم، فتعجز عن استكمال الفيلم بعد أن تتفجر أزمتها
الشخصية، ثم تسقط بفعل الانهيار العصبي.
لكن ما هي أزمتها بالضبط وأين تكمن؟ لقد غادرت
بلادها ولم تعد بالتالي عرضة لأي قمع من أي نوع، فما هي مشكلتها
بالضبط خاصة وقد حققت كل ما يجري الحديث عنه في الفيلم من نجاح؟
هنا تحديدا مشكلة هذا الفيلم، أي العجز عن تجسيد
أزمة بطلته مقابل تحقق أم كلثوم، إننا نقضي أكثر من ساعة نحاول أن
نفهم ما حدث للمخرجة ميترا وفيلمها الذي تصوره وهو من الإنتاج
الفرنسي أيضا؟ ما الذي يجعلها تتمزق بين عملها وحياتها؟ وما الذي
تعرض له ابنها الذي تركته خلفها في إيران والذي تشير إليه كثيرا في
الفيلم؟ وما هي “الجريمة” التي تتحدث عنها، والعقاب الذي حل بها؟
هل لأنها اختارت الفرار من بلدها؟ أم لأنها فشلت في إقامة أسرة
ناجحة مقابل الصعود وتحقيق النجاح في عالم السينما؟ ما سر توتر
علاقتها بالممثل الذي يقوم بدور أحمد في الفيلم داخل الفيلم؟
ولماذا يتمرد عليها ويرفض الاستجابة لتعليماتها؟
إن كل ما نراه من “أم كلثوم” مجموعة من الصور
وقصاصات الصحف المعلقة على جدار، ومقاطع من أغاني أم كلثوم الشهيرة
تؤديها على مسارح مختلفة في القاهرة (المفترضة) امرأة تدعى “غادة”
هي في الأصل معلمة أطفال مصرية لا تملك خبرة في التمثيل، لكنها
تتمتع بصوت جميل، أسندت إليها ميترا دور أم كلثوم، وهذا دور
الممثلة المصرية ياسمين رئيس في الفيلم.
لكن المقاطع الغنائية التي تؤدى بصوت بديع فعلا (من
خلال الدوبلاج) تأتي وتختفي كيفما اتفق، أي دون أي منطق درامي
واضح، صحيح أن هناك بعض التداعيات التي قد توحي ببعض التعقيدات،
لكنها تبقى مبتورة، فما هي العلاقة مثلا بين ميترا وغادة التي
تتبعها وكأنها منومة بتأثير شخصيتها؟ ولماذا تقرر ميترا فجأة
التوقف عن تصوير الفيلم وعدم استكماله؟
مطربة الكادحين
هناك رجل من الريف يرتدي الملابس الفلكلورية
المبهرجة التي لا تمت إلى الريف المصري بصلة (لكنها تجد هوى لدى
جمهور الغرب المشبع بالنظرة الاستشراقية) يطارد أم كلثوم منذ أن
بدأت الغناء، يصر على أن يزورها في منزلها بعد أن اشتهرت، يريدها
أن تصبح مطربة الشعب، مطربة الجماهير، تعبر عن مأساة الفلاحين
والفقراء والطبقات الكادحة، لا مطربة الطبقة العليا والحكام، لكنها
تستهجن ما يقوله وتطرده من منزلها.
ويقوم بهذا الدور الممثل الفلسطيني قيس ناشف، لكنه
يعجز عن نطق الكلمات باللهجة المصرية الشعبية بطريقة صحيحة، ويبدو
ضائعا بين شخصيته الحقيقية في الواقع وشخصيته في الفيلم داخل
الفيلم، أي بين أحمد ولطيف.
ويبدو الأداء بشكل عام مرتبكا، والشخصيات غير واضحة
المعالم، ومعاناة ميترا غير مقنعة، وتتعامل شيرين نشأت مع مصر منذ
عهد الملك فؤاد إلى عهد جمال عبدالناصر، من خلال نظرة استشراقية
ساذجة، تغويها الصور “الاكزوتية” والنماذج النمطية المستقرة مسبقا
في الوعي الغربي عن “الشرق”، والواضح أنها لم تعتمد على مساعدين
يضبطون اللهجة، ويقومون بتدقيق المعلومات والأغاني، ويعرفون تاريخ
أم كلثوم وحفلاتها.
إن جمهور حفلات أم كلثوم الذي كان يتكون أساسا من
الطبقة الراقية ثم الطبقة الوسطى الصاعدة في الخمسينات والستينات
من القرن الماضي، نراه في الحفلات التي نشاهدها في هذا الفيلم
جمهورا مختلطا مضطربا وأحيانا جماعة من الفلاحين والريفيين
بجلابيبهم وبعض الأعراب الذين يرتدون الملابس الفلكلورية.
وفي المشهد الوحيد الذي تصوره نشأت في القاهرة، نرى
المخرجة ميترا داخل سيارة تاكسي تقف وسط الزحام، ترتفع أصوات آلات
التنبيه ثم يتحدث السائق مخاطبا سائقي السيارات من حوله عن
الأميركيين وكيف أنهم لا بد من أن يأتوا “لكي يفعلوا بالبلد كما
فعلوا في بلاد أخرى” دون أن نفهم مغزى استخدام هذا اللغو في فيلم
عن أم كلثوم، ثم تقترب امرأة بائسة مع طفلين تستجدي بعض المال من
سائق التاكسي، لكنه يرفض ويصر على الرفض.
هذه هي قاهرة شيرين نشأت التي لا ترى منها شيئا،
وأمام المسارح التي يفترض أن تصور فيها حفلات أم كلثوم (وهي صورة
في المغرب)، يقف رجال يرتدون الطرابيش ويرحبون بالضيوف من علية
القوم، ثم يظهر الممثل المغربي محمد بويح وهو صاحب صوت رفيع حاد
يؤدي أداء غير مقنع بل هزلي، شخصية الرئيس جمال عبدالناصر، ثم يلقي
خطبة ساذجة يرحب فيها بالسيدة أم كلثوم ثم يترك لها الكلمة وسط
دهشتها.. ففي المشهد السابق كان قد أرسل إليها عددا من الجنود
قاموا باصطحابها ثم وضعوها داخل سيارة وذهبوا بها لكي تغني أمام
الرئيس وحاشيته.
والمضحك أن من بين جمهور الحاضرين في ذلك الحفل
الذي تغني فيه أم كلثوم أغنية “أنت عمري” الشهيرة في الستينات من
القرن الماضي، من يضعون فوق رؤوسهم الطرابيش، وهو تقليد كان قد
اختفى تماما قبل سنوات.
وتقوم بدور أم كلثوم ثلاث ممثلات: واحدة تمثلها وهي
شابة (نور قمر)، وأخرى وهي تغني (ياسمين رئيس) وثالثة وهي متقدمة
في العمر (ناجية الصقلي). والواضح أن تصوير الفيلم جرى في المغرب،
باستخدام الكثير من الممثلين المحليين من هناك، بل إن الملابس
المغربية التقليدية الفلكلورية الشهيرة تظهر كثيرا في الفيلم
ترتديها شخصيات يفترض أن تكون مصرية، كما تتضح كثيرا الطريقة
المغربية في نطق الكلمات المصرية كما في المشهد الأخير -مثلا- الذي
يدور بين المخرجة ميترا وأم كلثوم بعد أن تقدم بها العمر (وتقوم
بالدور المغربية ناجية الصقلي).
أم كلثوم ترتدي فستانا أخضر يكشف تماما عن ذراعيها
وهو ما لم تظهر به أم كلثوم الحقيقية طوال حياتها، ثم تتحدث بلهجة
مغربية واضحة وتسأل المخرجة “لماذا جعلتني أعجز عن الغناء؟”، إشارة
إلى المشهد الذي تتوقف خلاله ياسمين رئيس وتعجز عن مواصلة الغناء
أمام الرئيس عبدالناصر وصحبه، ولكن الإجابة الشافية لا تأتي.. فهل
كانت تعبر عن نوع من الاحتجاج؟ ولكن الاحتجاج على ماذا بالضبط؟
في أحد المشاهد بعد أن تعلن ميترا أنها لن تستمر في
تصوير الفيلم، يقول المنتج الفرنسي لشريكه الألماني “هذه المخرجة
على ما يبدو، لا تعرف ماذا تريد”، هذه العبارة تنطبق أفضل ما يكون
الانطباق على حالة المخرجة شيرين نشأت وفيلمها الذي يحمل عنوانا
كبيرا يوحي بالكثير، لكنه ينتهي عملا صغيرا سطحيا رغم جمال بعض
صوره ولقطاته وتكويناته البصرية، ومع ذلك لا شك أن الفيلم سيكون
حاضرا في عدد كبير من المهرجانات السينمائية فالمخرجة الإيرانية
“النسائية” المتمردة صرعة من الصرعات الكثيرة المنتشرة في الغرب!
ناقد سينمائي مصري |