'الإهانة'
أو'القضية 23' في مهرجان فينيسيا
العرب/ أمير
العمري
عرض الفيلم اللبناني (بتمويل فرنسي) “الإهانة” في
مسابقة مهرجان فينيسيا، و”الإهانة” هو الاسم الأجنبي للفيلم، بينما
الاسم العربي المطبوع على الشريط في بداية الفيلم هو (القضية 23)،
ولا شك أن الاسم الأجنبي هو الأفضل والأكثر تعبيرا عن موضوع
الفيلم، بينما لا معنى للعنوان العربي للفيلم، لكنه اختيار كاتبه
ومخرجه زياد دويري.
المخرج اللبناني زياد دويري معروف لدى جمهور
السينما بأفلامه المثيرة للجدل، درس السينما في الولايات المتحدة
وعمل مساعدا في التصوير في عدد من أفلام هوليوود من بينها أفلام
تارانتينو الأولى، قبل أن يتحول إلى الإخراج ليقدم عام 1998 فيلمه
الروائي الطويل الأول “بيروت الغربية” الذي يكشف، ولو على نحو غير
مباشر، بعض ما علق بالذاكرة الشخصية لدويري نفسه خلال الحرب
الأهلية اللبنانية التي ألقت ومازالت، بظلال كثيفة على العلاقة
المعقدة بين الطوائف اللبنانية المختلفة.
وبقدر ما أثار “بيروت الغربية” الاهتمام أزعج
الكثيرين بجرأته، كونه قطع طريقا معاكسا لما كان سائدا خاصة فيما
يتعلق بالقضية الفلسطينية، أو بالأحرى بالوجود الفلسطيني في لبنان
الذي يشكل الفلسطينيون 10 في المئة من تركيبته السكانية.
عاد زياد دويري في فيلمه الثالث “الصدمة” (2012)
ليصدم جمهوره العربي مجددا عندما اختار أولا تصوير جانب كبير من
الفيلم في تل أبيب، وثانيا لتناوله موضوعا شديد الحساسية، أي
العمليات الانتحارية التي يقوم بها الفلسطينيون داخل إسرائيل.
وكانت هذه المرة من نصيب سيدة فلسطينية علمانية
عصرية متزوجة من جرّاح فلسطيني، متفوق وصل إلى أعلى الدرجات
العلمية والمهنية في إسرائيل وحصل على تكريم من أعلى السلطات،
يتمتع بعلاقات صداقة جيدة مع عدد من اليهود.
وكان فيلم “الصدمة” يطرح بعض التساؤلات المربكة دون
أن يقدم إجابات عنها، وكان يحاول فهم سبب تحول سيدة فلسطينية،
تتمتع بكل ما تتمع به سيدات الطبقة الوسطى الإسرائيلية، إلى
انتحارية تفجر نفسها، فتقتل 17 شخصا بينهم عدد كبير من الأطفال
داخل أحد مطاعم تل أبيب.
زياد دويري يتوسل لنيل الاعتراف به كواحد ممن
يتصدرون السخرية والاستهزاء من (الظلم التاريخي) كما يفعل في فيلمه
مرارا
بداية واعدة
يعود دويري بفيلمه الرابع “الإهانة” ليلمس مجددا
الوضع الشائك للفلسطينيين في لبنان، فكرة الفيلم جيدة، وكان يمكن
أن تصنع عملا شديد الجاذبية والتأثير، بل ويكمن في طياتها بعض
معالم أسلوب دويري الذي يجنح عادة إلى السخرية السوداء، ويميل إلى
تصوير عبثية “الحالة السياسية”، بحيث يلفت الأنظار إلى تفاهة وسخف
وسطحية الكثير مما نتشبث به من مواقف، يمكن أن تكبر دون داع، لتكشف
عن مأزق حياتي مباشر لا يسهل العثور على مخرج منه.
غير أن دويري الذي يبدأ فيلمه بداية واعدة يقع بعد
ذلك في المباشرة والخطابة والنزعة التوفيقية المصطنعة دون أن ينجح
في إخفاء انحياز واضح إلى طرف معين، يجعل من هزيمته نصرا، ومن
تعصبه وتعنته نبلا، ومن رفضه المقيت قبول الآخر أمرا مبررا في ضوء
ما تعرضت له “قبيلته” في الماضي.
لدينا شخصيتان رئيسيتان: “توني” (عادل كرم)
اللبناني المسيحي صاحب ورشة إصلاح السيارات، و”ياسر” (كمال الباشا)
عامل البناء الفلسطيني. الأول ينتمي بوضوح، كما نرى في المشهد
الأول في الفيلم، إلى حزب القوات اللبنانية (المسيحي) اليميني
المتطرف، يردد هتافات الحزب ويلوح بعلمه، وهو متزوج من زوجة جميلة
هي “شيرين” (ريتا حايك) الحامل بابنته الأولى. يعمل ياسر بشكل غير
قانوني لحساب شركة بناء لبنانية، فمحظور على الفلسطينيين العمل في
لبنان، وهو موضوع لا يوليه الفيلم أي اهتمام.
وتنشأ المشكلة عندما يريد إصلاح ماسورة الصرف
الخاصة بشقة توني، لكن الأخير يرفض السماح له ولزملائه بدخول شقته،
فيضطر ياسر الذي يقوم بمعالجة المخالفات الموجودة في الحي، إلى
إصلاح الماسورة من شرفة توني، فينتهي الأمر بأن يتدخل توني ويحطم
ما قام به ياسر فيوجه له الأخير عبارة مهينة وينصرف، وهذه هي
“الإهانة” المقصودة في الفيلم.
يصر توني على ضرورة أن يقدم له ياسر اعتذارا،
ويتردد ياسر فهو يشعر بأنه تعرض للإهانة أيضا ولسوء المعاملة، توني
يعرف أن “خصمه” فلسطيني، أي من أولئك الذين يكرههم ويرفض أصلا
وجودهم في لبنان.
وعندما يذهب ياسر لكي يعتذر لتوني بضغط من مدير
شركته، يرى توني يعرض شريط فيديو ويستخدم مكبرا للصوت في ورشته لبث
خطاب مسجل لزعيم الكتائب اللبنانية بشير الجميل الذي اغتيل في
بيروت عام 1982، وفي خطابه يشن الجميل هجوما عنيفا على الفلسطينيين
ويطالب بطردهم من لبنان، ثم يتجه توني إلى ياسر ويقول له “ليت
شارون مسحكم من على وجه الأرض”.
زياد دويري مخرج محترف جيد يعرف ما يريد من كل مشهد
من مشاهد فيلمه، ويعرف كيف يقوم بتصعيد المواقف والانتقال من
تفصيلة إلى أخرى، والتحكم في رسم ملامح الشخصيات
هذه “الإهانة” الأخرى لا تمثل قضية، لأن ياسر يقوم
على إثرها بالاعتداء على توني ويكسر له ضلعين، أما “الإهانة”
الأولى فيقوم توني بتصعيدها ليصل بها إلى القضاء، حيث يطالب
بالحصول على اعتذار من ياسر وتعويض عن الإصابة، ولكن بعد رفض
القضية يتم تصعيدها إلى المحكمة العليا لتتحول إلى قضية سياسية
تشعل الشارع وتستقطب عناصر من حزب القوات اللبنانية الذي يساند
توني ويعين له محاميا من الأكثر شهرة في لبنان، هو وجدي وهبة (كميل
سلامة)، وتتطوع محامية شابة هي “نادين” (ديموند أبوعبود) التي يتضح
أنها ابنة وهبة التي تختلف عنه كليّا من ناحية الموقف السياسي،
فبينما يمثل هو اليمين المسيحي المتشدد تميل هي إلى اليسار
الليبرالي المؤمن بعدالة القضية الفلسطينية.
ظلم تاريخي
سرعان ما يتحول الفيلم إلى ما يعرف بـ”دراما قاعة
المحكمة”، حيث يتم تبادل المرافعات والاستماع لشهادة الشهود،
وبالطبع تؤدي تطورات القضية إلى المزيد من الاستقطاب في الشارع،
فالفلسطينيون يعبرون عن غضبهم وأنصار القوات اللبنانية يشتبكون
معهم.
يبدأ فيلم “الاهانة” بأن يمنحنا الانطباع بأننا
سنشاهد عملا ساخرا عبثيا، حيث تصبح “الإهانة” العابرة مفجرا
للتوترات العميقة القائمة في لبنان، لكن تحويل الفكرة من هذا البعد
الساخر إلى قضية جادة يقتضي تقديم أدلة وبراهين وشهود بما يفقد
الفيلم الكثير من حرارته، ويجعله يميل إلى النمطية ويقع، وهذا هو
الأخطر، في الخلل وانعدام التوازن في تصويره مأزقَ كل من توني
وياسر.
محامي توني يستعين بشاهد، ضابط سابق في الجيش
الأردني نراه عاجزا يجلس في مقعد المعاقين، يقول إنه كان يقدم
الطعام للفلسطينيين في المخيمات، لكنه يزعم أن ياسر اعتدى عليه
بالضرب المبرح بآلة حادة في خضم التداعيات التي أحاطت بأحداث
“أيلول الأسود” في عمان عام 1970، مما أدى إلى إصابته بالشلل، ثم
يصر المحامي على عرض شريط فيديو يصحبه بمحاضرة طويلة وسرد تاريخي
بالتواريخ وأسماء العائلات لما وقع في بلدة الدامور إبان الحرب
الأهلية اللبنانية، ويزعم أن قوات تمثل الجبهة اللبنانية
الديمقراطية مع فصائل فلسطينية اعتدت وقتلت وشردت أسرا وعائلات
مسيحية من البلدة، وكيف أن توني الذي كان في السادسة من عمره في
ذلك الوقت، لا بد أن يكون قد تأثر بما شاهده مما تعرضت له أسرته.
تصبح قضية الفيلم إذن أن توني هو ضحية للعنف الذي
تعرضت له عائلته من جانب الفلسطينيين، في حين أننا لا نشاهد في
الشريط الذي يعرض أمام المحكمة سوى بعض السيارات المصفحة وفوقها
عدد من المقاتلين يضعون الكوفية الفلسطينية ويلوحون بعلامة النصر،
لكننا من الناحية الأخرى لا نرى شيئا من مذابح صبرا وشاتيلا التي
ارتكبتها القوات اللبنانية في حماية الجيش الإسرائيلي بقيادة
شارون.
والخطاب الذي يتكرر في الفيلم مرات عدة سواء من
جانب توني نفسه أو من جانب محاميه، وهو في الحقيقة خطاب الفيلم
نفسه ورسالته، هو أن الفلسطينيين ينجحون دائما في القيام بدور
الضحية، ويفلتون دائما من الحساب، ويجعلون العالم كله يتعاطف معهم
وحدهم في حين أنهم ليسوا وحدهم الذين تعرضوا للتشريد والاضطهاد
والعدوان، بل هناك الكثير جدا، عشرات الملايين في العالم من
المشردين والذين تعرضوا للظلم.
وتتردد في الفيلم أيضا أفكار مثل: لماذا يخضع
اللبناني للقانون بينما يفلت الفلسطيني؟ ولماذا تسمح السلطة
اللبنانية بأن يحتمي الفلسطيني داخل المخيمات ويفلت من الحساب؟
وإذا كان الفلسطيني لاجئ في لبنان، فاللبناني (المسيحي) لاجئ في
بلده.. وغير ذلك.
هذه المشاعر التي يتم التعبير عنها بقوة في الفيلم
لا تهدف فقط إلى تبرير غضب توني، بل تنقل موقف ورؤية زياد دويري
نفسه الذي يتوسل لنيل الاعتراف به كواحد ممن يتصدرون السخرية
والاستهزاء من “الظلم التاريخي” كما يفعل في فيلمه مرارا، بل ويرى
أن المعاناة في الجانب الآخر تتجاوز كثيرا معاناة الطرف الذي
يستقطب الاهتمام والأضواء.
هنا مثلا يصبح توني نبيلا، أولا لكونه يدافع عن
كرامته، حتى بعد أن يكون قد أخذ حقه بيده بعد أن اعتدى بالضرب على
ياسر، ثم نبيلا لكونه اختار عدم إثارة موضوع الدامور حرصا على ألاّ
يجعل القضية تتخذ طابعا سياسيا، بل أثارها المحامي بعد أن نقب
واكتشف، ثم نبيلا لكونه تسامى على جرحه، وقام بإصلاح سيارة ياسر
عندما تعطلت أمام ورشته، وعندما يتطلع بعد أن خسر القضية في اللقطة
الأخيرة من الفيلم إلى ياسر، يبدو وكأنه يعرب له بطرف عينه عن
سعادته بأنه خسرها لكي لا يواجه ياسر عقوبة السجن.
محاولة ملتبسة
في المحصلة الأخيرة وفي أفضل الأحوال يمكن النظر
إلى فيلم “الإهانة” على أنه أحد تلك المحاولات الملتبسة المليئة
بالثغرات، للدعوة إلى ضرورة توحيد الصفوف ومداواة الجراح القديمة
وتجاوز ما وقع في الماضي من أجل أن ينهض لبنان.. وهو خطاب سطحي
يسقط الفيلم في نوع من أعمال الدعاية العاطفية الساذجة.
من الناحية الفنية يتمتع الفيلم بصورة جيدة ومونتاج
محكم وإيقاع متصاعد وكشف تدريجي عن التفاصيل، فزياد دويري مخرج
محترف جيد يعرف ما يريد من كل مشهد من مشاهد فيلمه، ويعرف كيف يقوم
بتصعيد المواقف والانتقال من تفصيلة إلى أخرى، والتحكم في رسم
ملامح الشخصيات: كيف تتحرك، أين تقف من بعضها البعض، ما الذي يظهر
منها في الكادر السينمائي وما الذي يختفي.
زياد دويري متأثر دون شك بسينما هوليوود، يريد أن
يقدم أفلاما تتجاوز الحدود المحلية الضيقة، يعرف كيف ينتقل من
المحكمة إلى الخارج، ويعرف كيف يستفيد من فضاء بيروت المدينة من
خلال توظيف المناظر العامة المصورة من أعلى، وهو دون شك من أفضل
المخرجين اللبنانيين قدرة على التعامل مع الممثلين، ولديه في هذا
الفيلم مجموعة من أفضلهم على الإطلاق وأكثرهم حضورا وقوة وتماثلا
مع الشخصيات التي يقومون بتجسيدها.
في بداية الفيلم تظهر عبارة تقول إن ما يصوره
الفيلم لا يمثل سوى وجهة نظر صناع الفيلم وليس موقف الحكومة
والسلطات اللبنانية، وهو ما يعد تحفظا مقصودا للإفلات من أي رقابة
محتملة، لكن المؤكد أن الفيلم سيعرض في لبنان ولا شك أنه سيثير
الكثير من الجدل.
ناقد سينمائي مصري |